في حالة من فوضي العشوائيات التي اطاحت بنا مثل الطوفان في كل مناحي الحياة وما طرأ من قوانين إيجار المنازل الجديد, وهو مايطلق عليه الايجار بالمدة والذي جعل من المواطن المصري فريسة لعدم الاستقرار والأمان مما يؤثر علي أدائه في العمل والعبء المادي الذي يقهر راتبه الشهر بموجب الزيادة السنوية لهذا النوع من الإيجارات. ولم يقتصر الأمر علي ذلك فقط بل تترتب عليه مشاكل نقل الأطفال من مدرسة إلي أخري عندما يتعذر عليه دفع الايجار نتيجة للزيادة السنوية, وعلي الرغم من اننا في القرن الحادي والعشرين الا ان المسئولين لم يهتموا بالنظر لهذه المشكلة لتخفيف العبء علي المواطن, خاصة وأن الزيادة الكبيرة في الأسعار لاتتناسب مع راتب المواطن المصري واستوقفتني في احد الكتب القديمة مذكرة أرتين باشا وتقرير مفصل عن أجور المنازل وغلائها من عام1800 م إلي1907 م إلي المجمع العلمي وهذا يعني اهتمام المسئولين بأي ظاهرة تؤرق المواطن.. منذ قرنين يقول أرتين في مذكرته: إن أجور المنازل ارتفعت في أثناء ذلك القرن تسعا وعشرين مرة أي أن المسكن الذي كانت أجرته سنة1800 جنيها واحدا صارت أجرته اليوم29 جنيها, ولبيان ذلك اقتصر في تقريره علي منازل القاهرة وأحيائها, وعلي أهم أسباب الغلاء قائلا( كان عدد سكان القاهرة سنة1800 علي تقدير الحملة الفرنسية نحو200000 نفس, وبلغ عددهم بالإحصاء الأخير لسنة1907 نحو580000 فتضاعف سكان هذه المدينة في أثناء قرن واحد ثلاث مرات, وعندما انسحب الفرنسيون من مصر سنة1801 لم يكن عدد الأفرنج في القاهرة يتجاوز بضع مئات وهم الأن إذا حسبنا اليونان منهم يناهزون40000 وهم علي الغالب من أهل الثروة والعمل والنشاط فهم من عوامل ترقية هذه العاصمة, وإذا ذكرنا الافرنجي الوافد علي مصر ينبغي أن نضيف إليه اثنين أو ثلاثة من الوطنيين بين خادم وطاه وسائس فهؤلاء وعائلاتهم يقدرون بعشر انفس لكل افرنجي من الطبقة الوسطي وكانت سكناتهم علي الغالب في جهات الأزبكية وتزايد عددهم من سنة1860 فعمدت الحكومة الي نصف حديقة الأزبكية وكانت مساحتها ثمانية أفدنة قسمتها إلي قطع بيعت بسعر نصف جنيه للمتر وأقيمت عليها الأبنية. وقد أذن أسماعيل ببيع ذلك النصف اقتداء بما فعله الفرنسويون بباريس, حيث قسموا حديقة لوكسمبورج وطرحوها للبيع بغرض البناء ولكن الناس انتقدوه يومئذ لأنه أفسد الحديقة القائمة في وسط المدينة وأعتذر وتم إصلاح مابقي من الحديقة. وفي عام1868 قسمت الحكومة أرض الإسماعيلية قطعا عرضتها للبيع باعت المتر منها بنصف جنيه, كما باعت أرض الأزبكية واشترطت علي الشاري أن يبني بيتا لا تقل قيمته عن ألفي جنيه, وفعلت مثله سنة1880 في حي التوفيقية بنفس الثمن وهو ثمن يعتبر غاليا حينئذ, فاقتصر علي الإفرنج وغيرهم من أهل اليسار وتحولت أنظار المسلمين والسوريين والأقباط واليهود نحو الفجالة والظاهر والعباسية, وكان سعر المتر للأرض يومئذ بخمسة قروش إلي20 قرشا. وكان النظام إلي سنة1860 أن يبني المنزل طبقة واحدة لسكناه مع عائلته, وعندما تكاثر الناس أخذوا يبنون المنازل طبقتين أو ثلاثا حتي ارتفعت أسعار المنازل وأخذ الناس في بناء المخازن حول الأزبكية, ولم يكن منها مخزن واحد سنة1860 ثم تكاثرت وأخذت الأجور تتصاعد بالإضافة إلي تزيين الأبنية بالدهانات ووسائل النظافة والتطهير والإنارة وتفريق المياه في الغرف وغيرها ممالم يكن الأسلاف يعرفونه أو يشعرون بالحاجة إليه, فأدي إلي زيادة النفقات في البناء وزيادة الأجرة علي المستأجر فمنذ عام1800 كان المنزل المؤلف من طبقة أرضية( بدروم) وطبقة عليا أو طبقتين لاتزيد نفقة بنائه علي أربعة إلي ستة جنيهات عن المتر المربع. أما في عام1907 فتكون تكلفة البناء ضعفي هذا المبلغ أو ثلاثة أضعافه والقصور الكبري التي توجد في القاهرة المؤلفة من ست طبقات أو سبع يكلف المتر المربع من بنائها25 جنيها إن لم يكن أكثر. أما الإيجارات فتضاعفت وأصبح المنزل الذي كانت أجرته في أوائل القرن160 قرشا في الشهر أصبحت أجرته سنة1882 نحو200 قرش وصارت سنة1907 نحو5000 قرش اتسم عام1860 بالخروج عن حدود القاهرة القديمة فامتدت غربا نحو بولاق للجيزة والجزيرة وشبرا والعباسية وأخذ الأغنياء والمتوسطون يهجرون وسط المدينة ليقيموا في الضواحي اقتداء بالإفرنج وللهواء النقي.