مهما حاولنا عقد مقارنات لن نجد توليفة مثيرة للحيرة ولا أكثر تشوها منا أبناء هذه المنطقة, فقد صرنا من دون استثناء مثل الغراب الذي اشتهي أن يكون طاووسا فلا صار ولا تمكن من العودة لهيئته مرة أخري. حينما نطالع أنفسنا في مرآة الحقيقية, فسوف نري أناسا بملابس حديثة تتشابه مع ما نحاول أن نبدو عليه من تمدن أو مواكبة للآخرين, لكن في الوقت نفسه سوف تنعكس في المرآة ذاتها عقول لا علاقة لها بالتحضر أو التمدن أو الحداثة أو أي شيء يرتبط بشكل جوهري بالحاضر الذي تعيشه معظم بلدان العالم المتقدم, وهذه هي ورطتنا الكبري فنحن نعيش في عصرين لا يمت أحدهما للآخر بأي صلة, والنتيجة مساحة هائلة من الازدواجية والتمزق والتشتت النفسي نعاني منها طوال اليوم, فما بين مظاهر نواكب بها القرن الحالي وأذهان تحجرت منذ قرون ضاعت ملامحنا وحقيقتنا وشخصيتنا, وهو ما نتساءل اليوم عنه: كيف صرنا بمثل هذه الأخلاق؟ لماذا نقف في أماكنا منتظرين معجزات تنقلنا إلي حيث يجب أن نكون؟ ما سر الانقسام الذي يلفنا؟ كيف تزداد الهوة بين المسئول والمواطن إلي الدرجة التي فقد كل منهما الثقة أو الرجاء في الآخر؟ كل هذا وغيره لأننا نعيش في فوضي المفاهيم والرؤي مما يجعلنا نشعر بحالة من حالات الاغتراب لدرجة أن البعض منا يسير في الطرقات باحثا عن رأسه التي تاهت منه في متاهات البعثرة الذهنية التي نتحدث عنها. نحن في مواجهة أزمة مثقفين؟ نعم ولا جدال في هذا, لكنها أيضا أزمة عامة تعتري كل من يطلق عليهم نخب سواء ثقافية/ دينية/ سياسية.. إلخ؟ فحالنا اليوم هو مع مثقفين يتغنون بالحداثة وما بعدها وبرحابة العالم من حولنا وبالحديث عن الحاضر لتدشين مستقبل أفضل, ثم نجدهم يدللون علي ذلك ببعض أدوات الستينيات والسبعينيات, مثلهم في ذلك مثل من نأمل منهم تحديث التراث والفقه والانكباب علي تجديده, فهم ينظمون المؤتمرات في محاولة منهم تجسيد هذا واقعيا لكن الفشل يلاحقهم حتي من قبل أن ينطلقوا, لأنهم يصرون علي انتقاء الآيات والأحاديث التي ترسخ فضائل عهد الخلفاء, لذا يختلف ويرفض أداءهم الكثيرون, لأنهم بهذا يمهدون من دون وعي( وفي حالات نادرة بوعي) الطريق لداعش وغيرها من منظمات الدولة الإسلامية قادمة ولا محالة. وما بين هؤلاء وهؤلاء تتأرجح النخب السياسية لأنها تسير مع الموجات التي تجرفنا تارة للأمام وتارات للخلف, ومن ثم يأتي دورهم باهتا لا معني ولا تأثير له. وحال غالبية المسئولين لا يختلف عنهم كثيرا, فهم يحاولون مخاطبة هذه النخب في كل حالاتها أي أنهم يخاطبون المظهر والعقل بكل تناقضاتهم الحالية في وقت واحد, إلي جانب أنهم أنفسهم يحملون نفس التشوهات الزمنية التي نعاني منها جميعا. إن ما نسوقه ليس مجرد تصوير للواقع بل لكارثة بكل المقاييس, لأننا مازلنا نمنح للأموات فرصا ذهبية كي يحكموننا. كما أننا نعيش بامتياز حقبة الميليشيات الثقافية والدينية والسياسية, فالأولي تساير الثانية وتلغي إكراما لها العقل النقدي وتدعي كل دقيقة مواجهتها لهيمنة الإسلام السياسي بينما هي ترسخها, في الوقت الذي تقطع فيه الثانية الطريق علي الأولي وتتخلص من كل الأصوات الداعية للتجديد, هذا في الوقت الذي ترقص فيه الثالثة علي سلم الانتهازية. والنتيجة أننا نحيا القديم بأسلوب حديث, وصار التاريخ إحدي بديهيات أيامنا, وكل ما هو بين أيدينا لا يعدو كونه مراوغات للإفلات من مواجهة حالة الإفلاس الواضحة التي باتت تحتوينا.