قدم لنا الزميل محمد شعير عن دار ميريت كتابا جميلا بعنوان رسائل عبد الحكيم قاسم كتابات نوبة الحراسة, فأعاد للأذهان أهمية الالتفات للنقص الذي نعاني منه بغياب الطبعة الأكاديمية التي يعرفها تاريخ الأدب في الغرب باعتبارها الطبعة التي تشتمل علي كل أعمال كاتب ما, بل وعلي مسودات تلك الأعمال إن وجدت, ورسائل الكاتب, ومخطوطات مشاريعه الأدبية التي لم تكتمل. وبذلك يتوفر للقارئ ليس مؤلفات كاتب ما بل عالم ذلك الكاتب بكل جوانبه باعتبار أن حياته بمختلف مستوياتها هي شهادة مبدع. وقد عرف تاريخ الأدب العربي بعض الحالات التي وصلتنا فيها رسائل أدباء ومفكرين كبار ومنها الرسائل المتبادلة بين مصطفي صادق الرافعي وتلميذه محمود أبوريه, ورسائل جبران إلي مي زيادة, وغسان كنفاني لغادة السمان. والرسائل ليست اعترافات ذاتية كما قد يتصور البعض, ولا تتضمن بالحتم مفاجآت عاطفية, فهناك عدد من الرسائل المتبادلة بين الإمام محمد عبده وليف تولستوي صاحب الحرب والسلام وتدور كلها حول قضايا إنسانية عامة, ورسائل الكاتب الروسي العملاق أنطون تشيخوف إلي أخيه الأصغر- وكان رساما لا تشتمل إلا علي القليل من جوانب حياته الشخصية, ولكنها مشبعة بالكثير من خبرة تشيخوف حين يكتب له قائلا: من أجل موهبتك عليك أن تضحي بالخمر والنساء وكل المتع. ويقول د. لويس عوض حسب استشهاد محمد شعير إننا لو جمعنا خطابات أحمد شوقي أو إبراهيم ناجي لاستطعنا أن ندرس عصره وعلاقاته وفنه وفكره من خلال خطاباته كما ندرسها من خلال إنتاجه الرسمي. وفي تقديري أن محمد شعير قد اكتشف رسائل عبد الحكيم قاسم, ولولا جهده لربما ظلت تلك الرسائل في علم الغيب إلي أن يمحو الزمن سطورها ويختفي من صانوها. ويشتمل الكتاب علي مجموعة من الرسائل تمتد لأكثر من عشر سنوات ما بين1974 1985 حين أقام عبد الحكيم قاسم في ألمانيا, وراقب من علي بعد لحظة تطور خاصة في التاريخ المصري, أعني تغريبة المثقفين المصريين بعد توقيع معاهدة السلام وما أحاطها من ظروف سياسية معقدة. وترسم رسائل قاسم صورة لمرحلة ما بعد النكسة بكتابها وعلاقاتها والطبيعة النفسية القاتمة لزمن التحول, وستجد في تلك الرسائل إشارات لنجيب محفوظ, ويوسف السباعي, ويحيي حقي, واستشهاد ببعض مما قالوه, والكثير من آراء وتصورات عبد الحكيم قاسم عن الأدب ودوره ومشاكله, وأزمة المسافة التي تفصل القارئ عن الأدب, والمعضلات التي واجهت كتاب الستينات في شبابهم, كما ترسم أيضا صورة شخصية لمتاعب قاسم في الغربة, وذكرياته الحميمة, ومشقة افتراقه عن أسرته وزوجته وأولاده. ويشير قاسم في إحدي رسائله إلي الخوف الذي: يعتصر قلب الإنسان ولا يعرف له الإنسان تأنيا, وحينما أتأمل المسألة أتصورها ناجمة عن الاغتراب العميق عن العالم الذي نعيش فيه. ومن برلين يطلب عبد الحكيم قاسم من أخيه أن يتوجه بما يشبه استمارة أسئلة لعدة كتاب منهم أمل دنقل, وبهاء طاهر, وصنع الله إبراهيم, وأحمد هاشم الشريف, ويحيي الطاهر, ليجيبوا عنها لأن الإجابات تمثل جزءا من مشروع دراسته في ألمانيا. وفي رسالة لمحمد صالح يوجز عبد الحكيم قاسم شعوره بالهجرة, أو الانتقال, ويرسم صورة للإنسان المغترب قائلا: حينما تركت مصر, تركت حياة, أما أنتم فقد انتقص من حياتكم شيء, تعيشون وتعاودكم الذكري, أما أنا فإنني أخرج في الليل, وجهي غارق في ياقة معطفي, وعيناي تدوران, تقعان علي الصمت, والدهشة من إلحاح التساؤل... في بعض الرسائل يدرك عبد الحكيم قاسم أن أحدا, يوما ما, سيجد تلك الرسائل, وينشرها, ولذلك يكتب رسائله بتلك الروح, بل إنه يقول: هل أقصد أن أكون بليغا ؟ نعم. وأحب أن أجيد ذلك, أن أحط ما بداخلي في نسق, وأن يكون النسق جميلا. وأضيف من عندي أن النسق وما قام به محمد شعير, والرسائل, كل ذلك صدر كعمل جميل جدير بالقراءة, ويلقي بالضوء علي شخصية الأديب الكبير الراحل.