بنبرة صوته الهادئة, ونظرته الثاقبة, ورؤيته العلمية, ومنظره الوقور, يشخص الخبير التربوي د. محمود كامل الناقة, رئيس الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس, الأستاذ بجامعة عين شمس, مدير مركز تطوير التعليم الجامعي الأسبق, رئيس لجنة التربية بمجمع اللغة العربية, الأمراض التي تعانيها العملية التعليمية في مصر, والأدران التي سكنت جسدها, وتوغلت في خلاياها, واضعا الدواء, واصفا العلاج لتلك الأزمة, التي تهم كل بيت في مصر, وتشغل بال كما يفترض القائمين علي أمر التعليم في هذا البلد, بل يجب أن تقض مضاجعهم, وتؤرق نومهم. بدا د. محمود كامل الناقة أثناء الحوار متفائلا غير متشائم مما تمر به العملية التعليمية من انحدار جعل مصر تحتل ذيل الأمم في التصنيف العالمي لجودة التعليم. ولكنه يري أن هذا الواقع الأليم, والحال البئيس, الذي آل إليه حال التعليم, والذي يغص حلوقنا جميعا, ويدمي أفئدتنا, ويوجع قلوبنا, يجب ألا يفت في عضدنا, أو يوهن من عزمنا علي الإصلاح, أو يضعف من قوتنا في المواجهة, موقنا كل اليقين, بالرؤية الصارمة للعالم, بأن غدا أحسن للمصريين قادم لا شك, مستشرفا, بنظرة الخبير التربوي. مستقبلا أفضل لمصر آت لا محالة, وريادة لها عائدة لا ريب, ومكانة لها عائدة لا جدال, وموقعا تحتله بين الأمم أفضل لا مراء. حصلت مصر أخيرا علي المركز قبل الأخير من بين140 دولة في مؤشر التنافسية العالمي لجودة التعليم, فما الأسباب التي أدت إلي حصولها علي هذا المركز المتدني؟ لو كانت مقاييس الجودة موجود فيما قبل الستينيات, لكنا وجدنا مصر من أحسن الدول في الحالة التعليمية, حيث كانت الأعداد المقبلة علي التعليم من الطلاب, في ذلك الوقت, أقل, وكان المعلم متيقظ الضمير, وكانت المدرسة مليئة بالأنشطة, رغم ندرة ما يسمي بتكنولوجيا التعليم, فقد تعلمت علي أيدي معلمين يتساوون حاليا مع أساتذة الجامعة, وبالالتزام تركوا فينا أثرا لا ننساه حتي الآن. صورة التعليم الآن متخلفة جدا, وليس لدينا ما يسمي بالتعليم. إن إعداد المعلم في مصر عملية شديدة الضعف والإهمال, ولم تكن هناك كلية في مصر لإعداد المعلم, فكانت تربية عين شمس هي الكلية الوحيدة لإعداد معلم كفء. وحتي القائمون علي إعداد المعلم لم يكونوا بالكفاءة التربوية, لأن هناك ضعفا في هيئات التدريس, ذلك أن الرخصة التي تعطي للمعلم ليكون مهيأ للتعليم والتدريس, أصبحت تعطي لمن هب ودب, فالمعلم في المجتمع أشبه بالعمود الفقري في التعليم, فإذا فسد المعلم فسد المجتمع. وأين البحوث العلمية والتربوية التي تعالج هذا الأمر؟ لقد انزلق البحث العلمي والتربوي إلي الحضيض, ولذلك أعتذر عن عدم مناقشة رسائل الماجستير أو الدكتوراه, لأنها جريمة تحدث الآن, ولذلك لا يضيف البحث العلمي لمصر أي شيء. المستوي العلمي والمواد ضعيفة بالتأكيد, وهو ما دفعني لأقوم بدراسة الأخطاء اللغوية الشائعة لدي مرحلة البكالوريوس أو الليسانس, وقد هالني وراعني وأفزعني أن الأخطاء النحوية والإملائية هي من الأخطاء الشائعة لدي من يعد ليدرس اللغة العربية في المدارس المصرية. كما يشكو طلاب جامعة الأزهر من غير الناطقين باللغة العربية, ورغم ذلك علمناهم كيف ينطقون اللغة العربية, لأن أساتذتهم لم يتكلموا اللغة الصحيحة بسبب سوء إعداد المعلم. إذا كان هذا هو حال طلبة الجامعات والباحثين, فكيف تري المدرسة الآن؟ أصبحت المدرسة المصرية طاردة للتلاميذ, وهي تموت في كل زمان ومكان, فهي أشبه ما تكون بمعتقل قسري خال, فقد اختفي فيها ما يمكن أن يسمي بالحياة الطبيعية, حيث أصبحنا لا نري فيها أماكن لممارسة الهوايات الرياضية مثل السلة, وكرة القدم, والكرة الطائرة, والأشغال, والمسرح, ومطعم, وحوش, كنا نشاهد مدرس التربية الرياضية يجري بالشورت في حصة التربية الرياضية, المدارس الآن تخلو من هذا. معظم المدارس الآن ليست بها دورات مياه, والفصول مظلمة, والتلاميذ يجلسون علي الأرض, ولذلك فهي مؤسسة طاردة لا تصلح للتعليم. مفهوم المنهج مقصور علي الكتاب, فهو الوسيلة المساعدة, وليس الأصل. فهناك برنامجان عند تخطيط المنهج, هما البرنامج الأكاديمي والبرنامج النشاطي. ويقعان معا تحت بند واحد هو خد وهات. ليس لدينا ما يسمي نشاطا, وليس لدينا ما يسمي كتابا, فمن أين يبدأ الطالب واللغة العربية نعتبرها من أصعب اللغات؟, هي لغتنا, وليس لدينا خبراء بالمنهج العلمي. وليس التراكمي. وفكرة المسابقة من وجهة نظري غير مقبولة, لدينا شيء اسمه دليل المعلم, فلا بد أن يكون معك دليل, كيف نتعلم هذه الدروس وكيف يمكن تطبيقها؟. ولكن الآن هناك مؤلفات غير علمية, ولا بد أن نرجع لمن لهم فضل في تعلمنا. كان مدير المدرسة في الأيام الخوالي يخرج من مكتبه, فإذا بالمدرسة كلها تقف علي قدم وساق احتراما له وتقديرا وهيبة, وهذا كلام شائع ومعروف. أما الآن, فقد أصبحت المدرسة طاردة, فكيف يتعلم التلميذ في مكان يكرهه. فازدحام التلاميذ في الفصول, وقلة الإمكانيات والميزانيات كل ذلك أدي إلي فشل العملية التعليمية, والكل يبرر هذا الوضع السيئ بقلة الميزانيات. والحل بسيط. فيم يتمثل هذا الحل البسيط؟ يتمثل في الآتي: ترشيد ميزانية الدولة, والتمويل الأهلي للتعليم, والإعداد الكفء للمعلم, واحترام المعلم وتأهيله, سواء كان ماديا أو معنويا. هناك خبراء تربويون وصفوا التعليم بالكارثة, فهل تتفق معهم في تلك الرؤية التي تؤلمنا جميعا؟ نعم, التعليم كارثة صنعناها بأيدينا, وينطبق عليه أيضا وصف النكسة وذلك لكل الأمور التي ذكرناها. وأين وزارة التربية والتعليم من تطوير المناهج؟, وما الأسس التي يجب عليها أن نطور العملية التعليمية؟ خطوات التطوير هي: الأهداف, كيف تترجم الأهداف لآليات وتصنيفات, وكيف تضع استراتيجية بعيدة المدة. فالاستراتيجية الحقيقية هي أن تجمع أحدث الخيوط وأمتنها من شتي أنواعها, ثم تنسج منها نسيجا جيدا. يجب ألا تظل المناهج الدراسية أسيرة لثقافة المجتمع, ولا تنجرف في الوقت ذاته وراء المتغيرات العالمية دون وعي. كما يجب أن يسير تطور المناهج علي النسق الغربي بشرط التماشي مع معطيات الواقع المصري. فتراجع مستوي المناهج هو السبب الرئيسي في ضعف مستوي التعليم, لأنها عموده الفقري. لقد غاب مفهوم الاستراتيجية عمن يقومون بوضعها في التربية والتعليم, فيجب إقامة جامعة لإعداد المعلم, لأنه هو الذي يقوم بالتنمية البشرية. ترأس الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس, فما هو دور هذه الجمعية في تطوير المناهج والارتقاء بالتعليم؟ أقمنا23 مؤتمرا سنويا, وأصدرنا ما يزيد علي250 دورية متخصصة في علوم المناهج والتدريس علي مستوي العالم العربي. والجمعية تضم كل الخبرات والكفاءات من أساتذة الجامعات, وكل فئات التدريس في مصر. ومن عجب أن ذوي الشأن من المهتمين بالتعليم في مصر لا يدعون الجمعية للمعاونة في هذا الأمر, وهي جمعية لها تاريخ عريق, تضم كل خبراء التعليم في مصر من كل التخصصات. إذن كيف تصف العملية التعليمية في مدارسنا؟ لا يوجد ما يسمي عملية تعليمية, وإنما الغرض منها الامتحان, وهو مفهوم خاطئ, فهو لا يقيس ما وضع لقياسه, ويغيب عن المدرسة ما يسمي بالتعلم, لأن العملية التعليمية هي عملية صورية, قد يتعلم منها المعلم أسوأ ما فيها بسبب ضياع إعداد المعلم, ويرجع هذا أيضا لعدم الإخلاص, وعدم الإشراف علي العملية التعليمية. هل تري بصيصا من أمل أو وميضا من ضوء في نهاية النفق الذي يسير فيه قطار التعليم في مصر الآن؟ لم يفكر أحد في هذا الأمر من منظور فلسفي. فقد تأخر البحث عن الأمل, فالمسائل متاحة, لكن التربية تستهدف أمرين هما: العقل والإرادة, فالعقل بلا إرادة كلام نظري. والإرادة بلا عقل شيء همجي. ونحن في حاجة إلي أن نوثق هذا العقل ونبني للإنسان المصري الإرادة. نحن نربي إنسانا مختلفا تماما عن إنسان العصور الماضية. وعلي أية حال, لن نعدم الأمل, فذلك من كمال الإيمان, ولكن لن ينصلح حال التعليم في مصر إلا بثورة جذرية, فالأمر لم يعد يقبل تطويرا, أو تحسينا, أو ترقيعا, فثوب التعليم مهلهل, ونحتاج إلي ثوب جديد, وهذا يتطلب أن يتكاتف جميع خبراء التعليم, والاقتصاد, والسياسة, والاجتماع للبدء في خطوات عملية لبناء نظام تعليمي يتأسس علي ما نادت به الثورة الشبابية من فكرة المواطنة التي هي حق لكل من يعيش علي هذه الأرض, لا تفريق في هذه المواطنة بين دين أو عقيدة, أو طبقة اجتماعية, أو ما هو علي غرار ذلك, وفي الوقت ذاته تعليم يحقق العدالة, وأن تتاح الفرصة لكل مواطن علي هذه الأرض لأن يتعلم تعليما راقيا بصرف النظر عن أي أمور أخري. ماذا عن ملامح هذه الثورة أو الإصلاح الجذري للتعليم؟ يجب أن تشمل ثورة إصلاح التعليم إعادة النظر في أهدافه, ومحتواه, واستراتيجيات التدريس وطرقه, والأنشطة التعليمية, ومن ثم التقويم والامتحانات, وتصبح هناك امتحانات تقيس المواطنة, وتحقق الديمقراطية, والعدالة. نحتاج إلي ثورة تغيير جذرية لكل مقومات العملية التعليمية, بداية من مرحلة رياض الأطفال, وانتهاء بالدراسات العليا في الجامعات, وكل عنصر من عناصر هذه المنظومة يحتاج إلي إعادة نظر بشكل جذري وثوري. وليس إصلاحيا ترقيعيا, تتمثل في أمور عديدة: الأول استبدال مناهج عصرية قيمة تعتمد علي وسائل التكنولوجيا التي يجب تفعيلها بداية من رياض الأطفال, وانتهاء بمرحلة الثانوية العامة بالمناهج الحالية. الأمر الثاني يختص بإعداد المعلم لضمان جودة المنتج المقدم للتلاميذ أو الطلاب, وهو أخطر شخصية في منظومة بناء البشر, كما أنه العمود الفقري لبناء دولة عصرية, لأن كل ما هو علي وجه الأرض, بعد ما خلقه الله, هو منتج للعقل الإنساني الناضج وتربيته, ولذا فعلينا أن نتعلم كيف يمكن أن نعد معلما كفئا. الأمر الثالث الإمكانات التي تتمثل في المباني المدرسية, والفصول الدراسية, والمعامل, والمختبرات العلمية, والتعليم الإلكتروني. والبيئة المدرسية النشطة, وبرامج التطبيق الفعلي للعملية التعليمية, ثم يأتي دور القيادات التربوية, ومحاولة إشراكها في أساليب وأشكال التخطيط التعليمية, ومتابعة التنفيذ, وتطوير المناهج العلمية, وتحسين أداء المعلمين. الأمر الرابع الحلقة التمويلية, أو الموارد الاقتصادية اللازمة لعملية التطوير. الأمر الأخير ضرورة أن يكون لدينا مجلس أعلي للتعليم ما قبل الجامعي. يشكل علي أسس علمية من إعلاميين, واجتماعيين, وفلاسفة, واقتصاديين, وخبراء, وتكون هذه وظيفتهم, وهي تطوير التعليم, ووضع خطة للإنقاذ السريع. ويساند هذا المجلس ويحاسبه المجالس النيابية والتشريعية, والذي لا يقوم بواجبه يستقيل, ونعطيه الوقت الكافي للتخطيط. عندئذ, تصبح لدينا منظومة تعليمية لها مدخلات ومخرجات, وتعمل إلكترونيا, لكي يمكننا أن نحصل علي منتج يعد ركيزة من ركائز تطور المجتمع, وارتفاع مستواه الاقتصادي. والاجتماعي. والحضاري. لو نجحنا في إحداث ثورة للتعليم, فسيتحول المجتمع إلي شيء آخر. وما هي المهمة التي يجب أن يضطلع بها هذا المجلس؟ هذا المجلس سيخطط ويقوم بدراسات, ويستعين بآلاف البحوث التي تمت في الميدان, ويستخلص ما يمكن أن يفيد أهداف التعليم, فشريحة من هذا المجلس تقوم بالتخطيط, والتحديث, والتكيف مع الوضع الحالي.