يلقب الفرنسيون الكوميدي تريستان برنار1866-1947 بملك الابتسامة, فهو الذي أضحك باريس بمسرحياته الهزلية..ومن كلماته المأثورة:إنني لا أكره إلا شيئا واحدا..هو الكراهية كان كريما حد الإسراف..حتي أنه صار هدفا سهلا للمتسولين..لدرجة أن عجوزا تعود انتظاره صباح كل يوم, أمام منزله. وذات صباح اتجه نحوه, وأعطاه مبلغا من المال وقال له:أنا مسافر غدا في إجازة لمدة شهر, وهذا مبلغ مقدم لك عن شهر كامل, فمن حقك أن تأخذ إجازة أنت الآخر! وأعرف متسولة تقعد يوميا بناصية,غير بعيدة من بيتي من الساعة العاشرة صباحا حتي الثانية ظهرا, تردد العبارات نفسها:رضينا الله يرضيك وفي ظهر يوم ما,يبدو أنه نهاية دوامها,شاهدت بالصدفة,عربة أنيقة يقودها عملاق,بشعر مدهون بالجل,تقف غير بعيد عنها,بالناصية المقابلة..قامت من موقع عملها..ذهبت إليها,فتحت باب العربة الخلفي وركبت..ترددت أن أسالها, قبل انطلاق العربة,عن يوم عطلتها؟..ولكن خفت أن ينط العملاق سائق العربة ويقول لي متوعدا:وأنت مال أهلك؟ وأعرف متسولا مزعجا يطوف باتساع أشهر شوارع المهندسين بعجلة شحذ الأمواس يقسم لك أنه لم يذق طعاما منذ يومين..رأيته بأم عيني في ناصية تقاطع شارع العقاد والطيران بمدينة نصر! ومن فرحتي به كدت أن أدعوه لمشاركتي وجبة سمكية دعاني اليها صديق مقتدر! وفي شارع جامعة الدول العربية استوقفني رجل مهيب ببدلة غامقة ورباط عنق,قال لي بلغة عربية سليمة: أنه مدرس لغة عربية من خارج القاهرة,وأنه إتنشل وكل ما يريده عشرة جنيهات ليعود إلي المنصورة,ولأنه كاد أن يقنعني,قلت له مبرزا ورقة عشرين جنيها:سأعطيك هذه الورقة لو, فقط, تعترف أنك تمتهن التسول بهذه الطريقة التقطها سريعا وقال ضاحكا:وصلت يا باشا!وفي شارع شهاب,بالمهندسين قد تلتقي بالشاب الوسيم,الذي استوقفني أكثر من مرة, وقال لي:أنه يدرس الطب في جامعة بني سويف..وأنه سوف يفصل ما لم يسدد رسوم(السيمستر)- يقولها هكذا بإنجليزية صحيحة- وأنه لم يجد وسيلة سوي تسول المبلغ في القاهرة,لأنه معروف في بني سويف! والتفنن في التسول بلغ حدا خارقا في العالم كله!وهو في رأي مهنة تتساوي والدعارة في كونهما أقدم المهن في التاريخ! وصارت ظاهرة عالمية متخذة الكثير من الطرق والوسائل العجيبة. ولا أخفي مقتي الشديد لها,وغالبا ما فاض كيلي ونهرت متسولا,أو متسولة..وغالبا ما يفاجئني رفيقي, بالآية القرآنية:(وأما السائل فلا تنهر)-الضحي:10- فيؤنبني ضميري, إلي أن سمعت شيخ ليبي جليل أسمه فرج بوعود, رحمه الله, يقول في موعظة رمضانية: أن السائل ليس فقط المتسول ولكنه في الأساس السائل عن المعلومة! ولعله أصاب,فرسولنا, صلي الله عليه وسلم, يؤكد أن: اليد العليا خير من اليد السفلي. ولقد قرأت أن العلامة ابن العثيمين,قال رحمه الله: أول ما يدخل في السائل,هو السائل عن الشريعة,عن العلم فلا تنهره لأنه إذا سألك تريد أن تبين له الشريعة وجب عليك أن تبينها له. ولعل المتسولة التي قبض الأمن عليها بمحطة مترو ووجدوا بحوزتها1200 جنيه, اعترفت أنها حصيلة تسولها في يوم واحد, تبين كم هي مثمرة هذه المهنة, وتفسر لنا دموع ذلك المدرس الذي أحب فتاة تتسول مع أبيها, فخطبها منه, فاشترط الأب أن يتسولا معا لمدة شهر, معللا طلبه لمنعه من معايرتها إن تخاصما..بعد يومين وجد الشحات صهره يبكي بحرقة, فقال له:تسول يومين فقط جعلك تبكي؟ فأجابه, أنه لا يبكي بسبب التسول, ولكن بسبب الأعوام العشرة التي أمتهن فيها التدريس! التسول سهل وعوائده كثيرة, وكل ما تحتاجه علبة مناديل جيب, والقدرة علي التمسكن, والاقتناع أن مسألة الكرامة والاعتزاز بالنفس والذل, وما ينهانا عنه ديننا, وينصحنا به هو مجرد عبث ويتعين ان نرميه وراءنا وننطلق نحو محطات المترو كلها. [email protected]