الأجيال الشابة لا تقرأ,. بل إن البعض يري أن عزوف الشباب عن القراءة عموما وقراءة الكتب خصوصا, يرجع إلي عدة أسباب, لعل في مقدمتها, ظهور الإنترنت, ووسائل الإعلام المتعددة, وضيق الوقت, ومشاغل الحياة اليومية, وارتفاع أسعار الكتب. ولكن هذه الأسباب لن تقف حائلا أمام من يحرص علي القراءة كطقس دائم من طقوس حياته. وربما كان السبب الرئيس وراء العزوف عن قراءة الكتب الجادة, هو عدم شعور الشباب بالحاجة إلي القراءة. وهذا أمر مؤسف, ربما لأنهم لا يعرفون قيمة الكتب في حياة الناس وتطور المجتمعات, فالقراءة إحدي سمات المثقف الواعي والأمم المتحضرة, يحث عليها علماء النفس, ولا يمل المربون من تأكيد ضرورتها لكل الفئات العمرية, فهي وحدها تفتح أمام القارئ عوالم لا نهائية من العلم والمعرفة والمتعة, وهي مفتاح الثقافة والحضارة والتقدم. ويقول الدكتور هاني مبارز أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس إننا عندما نتحدث عن قراءة الكتب, لا نعني بذلك هواية اقتناء الكتب لغرض تزيين رفوف المكتبة المنزلية, من أجل التباهي بثقافة صاحب الدار, فثقافة المرء لا تقاس بعدد الكتب التي يمتلكها, بل بعدد الكتب الكلاسيكية الخالدة والكتب الجديدة القيمة, في شتي ميادين المعرفة والثقافة. وأضاف أن البعض يتباهي بكثرة الكتب لديه وبضخامة المكتبة التي يمتلكها, وعندما تتحدث إليه, لا تشعر علي الإطلاق بأنه استفاد حقا ولو قليلا من الكتب التي قرأها, والأرجح أنه لم يقرأ معظم ما يمتلكه من كتب, أو أنه قرأها بلا مبالاة ودون التعمق في معانيها, ولم يتفاعل معها قط, حيث لا يظهر شيء من أثر القراءة المعمقة في ثقافته وسلوكه وأسلوبه في الكلام. وأشار الدكتور هاني قائلا: إن قراءة أفضل الكتب بتمعن شيء, وقتل الوقت بالقراءة السطحية شيء آخر تماما. فالقراءة الجادة هي التي ترتقي إلي مستوي التفاعل مع آراء المؤلف وأفكاره. ومثل هذه القراءة لها فوائد معرفية وثقافية وصحية واجتماعية عديدة.: وأوضح أن قراءة الكتب بتمعن مفيدة في مختلف مراحل العمر, والمهم, هو ماذا نقرأ ؟ قائلا:من المشكوك فيه أن تلعب القراءات الخفيفة المسلية أي دور في إثراء معلوماتنا أو تنمية عقولنا. فمن الممكن أن نقرأ لغرض الترفيه عن النفس وتمضية الوقت أو لمجرد حب الاستطلاع, ولكننا إذا قرأنا شيئا من روائع الأدب الكلاسيكي وإبداعات الفكر الإنساني, فأننا نعتاد عليها ولا يمكننا الإقلاع عنها بسهولة. ومن جانبه أكد الشاعر السوري مطيع إدريس أن الكتب الخالدة عبر التاريخ الإنساني, تتضمن عصارة الفكر وثمرة العبقريات التي ينبغي لكل مثقف أن يقرأها. لأن مثل هذه الأعمال لن تفقد قيمتها العظيمة بمرور الزمن أبدا, رغم تغير الأجيال ونظم الحكم, والتقدم الحضاري. وأضاف أن قراءة الكتب العلمية عن نشوء الكون ونظام المجموعة الشمسية تؤدي إلي توسعة مداركنا ومخيلتنا وتحسن تصوراتنا وفهمنا لقوانين الطبيعة. كما أن الكتب الثقافية والتاريخية تزيد من معلوماتنا, وقد نستخلص منها العبر والدروس لبناء حاضرنا ومستقبلنا. أما قراءة كتب السيرة الذاتية والمذكرات الشخصية, فإنها- بحسب مطيع إدريس- تتيح لنا الاطلاع علي خلاصة التجارب الحياتية لشخصيات مثيرة للاهتمام, أسهمت في صنع التاريخ أو كانت شاهدة عليها. وأكد أن قراءة الكتب القيمة, سواء كانت متخصصة أو ثقافية عامة, لا غني عنها لكل إنسان يعرف قيمة التراث الإنساني العظيم في العلم والفكر والثقافة. لأن الإنسان الذي لا يقرأ يعيش حياة واحدة فقط, هي حياته, أما من يطلع علي تجارب الآخرين, فإنه يعيش حيوات كثيرة كما قال العقاد. أما الدكتور حسن يوسف أستاذ النقد بأكاديمية الفنون فقال إن النخبة المصرية المثقفة كانت تقرأ كثيرا حتي إلي عهد قريب, ربما بسبب عدم وجود مصادر كثيرة للمعلومات, والتسلية والترفيه. لم يكن هناك إنترنت ولا هواتف محمولة, أما قنوات التليفزيون فقد كانت محلية وعددها محدودا وتقدم برامج بريئة بالقياس إلي ما تعرضه القنوات الفضائية راهنا. وأوضح أن العزوف عن القراءة ظاهرة عالمية غير مقصورة علي بلادنا, وربما يظن البعض من المثقفين المصريين, أن قراءة الكتب في الدول الغربية هي اليوم في أوج ذروتها وازدهارها, وهذا أمر يثير الاستغراب حقا, وينم عن عدم الإحاطة بمدي تراجع قراءة الكتب في تلك الدول. وأضاف حسن يوسف صحيح إن الإقبال علي قراءة الكتب في الغرب لا يزال كبيرا, ولكنه انخفض كثيرا منذ ظهور الإنترنت. فالجيل الجديد في كل أنحاء العالم, يبحث عن بدائل أخري للكتاب عبر المدونات والمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي. ولكن لا شيء يمكن أن يكون بديلا للكتب الجيدة. هي وحدها التي تزودنا بالمعارف الأصيلة وتؤثر في تشكيل رؤيتنا للحياة والعالم.. وأشار إلي ان المستوي الثقافي للمجتمع لا يتحدد فقط بمدي شيوع ثقافة القراءة فيه, أو معدل عدد الكتب التي يقرأها المواطن سنويا, بل أيضا, بمدي توافر حرية التعبير. وقال إن الكتاب بخلاف التلفزيون حر من الأغراض النفعية. فالتلفزيون يقتات علي الإعلان وكثيرا ما يدفعنا إلي شراء هذه السلعة أو تلك, ومشبع أحيانا ب( البروباجندا) السياسية والأيديولوجية,. أما مؤلف الكتاب, فلا حاجة له لوضع الإعلانات بين السطور, من اجل الحصول علي مال أكثر,. وفي هذا الإطار يوصي خبراء التربية بضرورة تخصيص ساعتين في اليوم لقراءة الكتب الأدبية الجيدة, وهم علي إقتناع تام ان الكتاب المقروء, أفضل من الفيلم المقتبس من الكتاب ذاته, والسبب يكمن في حقيقة أن القراءة لا يحد الخيال البشري. ولهذا السبب تحديدا, وكقاعدة عامة, فأن الفيلم المأخوذ من رواية ما, لا يلبي توقعات الجمهور الذي رسم في ذهنه صورة مغايرة لمحتوي الكتاب. ومما يؤسف له ان عدد الناس الذين يشعرون بالحاجة إلي قراءة الروايات العظيمة يتضاءل باستمرار, فهم يفضلون مشاهدة برامج التلفزيون والانغماس في ألعاب الكومبيوتر, التي تعرقل تطور الذكاء. المهم أن الكتب لن تختفي, ولكن الأشكال الجديدة لمصادر المعلومات تضيق دون ريب المساحة التي كانت تشغلها الكتب في حياة الناس. كتاب المستقبل سوف يصبح أفضل طباعة وأجمل إخراجا., وقد يكون صالحا لتقديمه كهدية, تسر العين وتزين رفوف المكتبة المنزلية, أكثر من كونها مصدرا للمعرفة, لأن الجمهور القارئ في الإنترنيت أو في الأجهزة المخصصة لخزن وقراءة الكتب, في تزايد مستمر. وقد قامت الباحثة( نتالي فيليبس) من جامعة( اوكسفورد) بتجارب علمية لدراسة عمل الدماغ الإنساني خلال عملية القراءة وبرهنت ان القراءة الجادة تحفز العقل, وتدفعه للعمل بنشاط وتركيز, وتنظم التفكير, وتعمل علي تطور الذكاء البشري, بالإضافة إلي فوائدها المعرفية. وأثبتت الباحثة ان القراءة لا تقل فائدة عن التمارين الرياضية, لأنها( القراءة) تمرن الدماغ بأسره. وبطبيعة الحال فإن ثقافة الإنسان لا تتوقف علي مقدار ما يقرأ, بل علي عدد الكتب الجيدة التي فهمها واستوعبها واستفاد منها في حياته العملية. وكلما قرأ الإنسان أكثر أصبح أقل شبها بالآخرين.