هل قصيدة النثر شعر؟ هذا السؤال نسمعه مجددا بصورة مستمرة, في عودة ظافرة لقوي التقليد والعداء لتجديد الأشكال الشعرية خاصة والأدبية عامة, كأن ما يقارب خمسين عاما من الكتابة الشعرية بالنثر لم تكف لإقناع الذائفة الشعرية العربية التقليدية, التي مازالت تؤمن ان الشعرطالع من الموسيقي والإيقاع الظاهر المسموع بالأذن, ان بإمكان الشعر ان يطلع من النثر, من الألفاظ نفسها التي ينبني منها الشعر والنثر, كما لا تؤمن قوي التقليد هذه بأن اشتراط الإيقاع العروضي كجزء لا يتجزأ من معني الكتابة الشعرية هو أمر ينتمي إلي تقاليد نظرية الشعر العتيقة التي جاء الزمان المعاصر فأجري عليها تغييرات جذرية. مناسبة هذا الكلام هي الكتاب الذي نشرته مجلة إبداع ضاما مختارات من قصائد نثر لعدد من الشاعرات والشعراء المصريين الشباب, حيث تصدرته مقدمة للشاعر حسن طلب, وهو مدير تحرير المجلة وشاعر وناقد ينتمي إلي جيل السبعينيات في الشعر المصري المعاصر, قال فيها إن الشعر فن موسيقي وان موسيقية الشعر لا تتحقق الا بالتفعيلة منتهيا, إلي أن ما اراده من جمع تلك المختارات هو الكشف عن كومة الحصي المسماة بقصيدة النثر. هذه بالطبع رؤية اقصائية للكتابة الشعرية بالنثر, اي في غياب الموسيقي التي تميزها الأذن وتطرب لها, كأن الطرب أصل الشعر, والإيقاع الموسيقي روح الكتابة, إنه كلام مكرور معاد يرجع صدي الحديث السابق عن كون كتابة الشعر بالنثر مغالطة منطقية لأن الشعر والنثر قطبان متقابلان لا يختلطان مثل الزيت والماء, وان اسم قصيدة النثر اصطلاح نعطفه علي وليد هجين لانسب, أم نبت شيطاني استعرناه من الثقافة الغربية وزرعناه في غير تربته! لكن كتابات الصوفيين العرب تلتقي بقوة قصائد النثرالتي كتبها ادونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وسنية صالح وعباس بيضون وأمجد ناصر وحلمي سالم وسركون بولص وسيف الرحبي ونوري الجراح وعبده وازن وزكريا محمد وغيرهم وغيرهم, إن كتابات ابن عربي والنفري تطرح سؤالا أساسيا علي نظرية الأنواع الشعرية في الثقافة العربية, وتجعلنا نعيد النظر في شرط الإيقاع الموسيقي لتسمية الشعر شعرا. يأتي الهجوم الدائم علي قصيدة النثر من عدم الإنصات إلي دبيب الإيقاع السري في ميراث الحياة الثقافية العربية, وإلي تقديس السائر والسائد, وعدم الاعتراف بالأصوات المتمردة الجذرية التي تنظر إلي العالم نظرة مختلفة. لقد تعبنا من القول إن قصيدة النثر أصبحت جزءا من ميراث الكتابة الشعرية العربية خلال نصف قرن فات, وان اندراج تلك القصيدة في كتاب الشعر العربي في الوقت الراهن قد غير من طريقة نظرتنا إلي أشكال الكتابة الشعرية, ومعني الشعر, وطرق مقاربة الشعراء لموضوعاتهم, كما غير حضور هذه القصيدة من طرق الكتابة الشعريةالتفعيلية نفسها وجعلها تخفف من إيقاعها الصاخب واقترب بها من لغة اليومي والمهمل والموضوعات الملقاة في الطريق, ذلك ما كان ليحصل لولا التأثير الطاغي للكتابة بالنثر وقدرة قصيدة النثر علي الوقوع علي عصب الحياة المعاصرة, والعوالم الداخلية للإنسان المعاصر. لا يكمن الفرق بين قصيدة النثر والقصيدة التفعيلية في الإيقاع بل في الروح التي تنطوي عليها قصيدة النثر التي يسعي كتابها إلي التقاط روح اللحظة الراهنة, وإلي القبض علي ما هو عميق وفردي في التجربة الوجودية للإنسان العربي المعاصر. لكن وجود حصي كثير في هذه القصيدة لا ينفي شرعية حضورها, فالقصائد التفعيلية كذلك فيها الكثير من الأوشاب والحصي, لربما أكثر بكثير مما نعثر عليه في قصيدة النثر, لكن الأذن اللاهية التي لا تصغي إلي الإيقاع السري للكتابة الشعرية, تغفر لتلك القصائد التفعيلية ركاكتها وصخبها العالي الصادر عن الفراغ وانعدام الرؤية, والنسج علي منوال من سبقونا في الكلام والإيقاع وقول ما قيل مرة بعد مرة بعد مرة.