الإخوان بين مهادنة الوفد والانقلاب عليه.. الجماعة هادنت حزب الأغلبية عندما كان في السلطة وانقلبت عليه عندما خرج منها حتي منتصف الثلاثينيات لضعفها سياسيا رابعا: الإخوان والوفد: موقف جماعة الإخوان من حزب الوفد, هو امتداد طبيعي للموقف العام للجماعة منذ مبدأ النظام الحزبي, كما رأينا في حلقات سابقة من هذه الدراسة, ذلك الموقف الذي يكشف عن عداء أصيل وعميق للديمقراطية والتعددية, وانتصار واضح للفكر الشمولي والحكم الاستبدادي. وللوفد خصوصية, تزيد من حدة عداء الجماعة له وتعمقه, تتعلق بشعبيته الجارفة آنذاك وقاعدته الجماهيرية العريضة ونفوذه الفعال في الشارع المصري. الأمر الذي صنع منه منافسا عنيدا وفعالا, مثلث الإطاحة به وتدميره, إحدي أولويات الجماعة في ذلك الوقت. نشأ الوفد منذ البدء تجمعا وطنيا أكثر منه حزبا سياسيا, وهو يعد الوريث الشرعي لثورة1919 بكل ما فيها من تضحيات جسيمة ومبادئ نبيلة, فضلا عن أن زعيمي الوفد قبل ثورة يوليو, سعد زغلول ومصطفي النحاس, كانا تلقائيا زعيمين للأمة. مثل هذا الطموح كان بالضرورة يراود حسن البنا وجماعته, وإذا كانت البدايات الأولي للإخوان لا تنم عن عداء علني صريح للوفد, واستمر الأمر كذلك إلي منتصف الثلاثينيات, فذلك لأن الجماعة لم تكن خلال تلك الفترة ذات بصمة سياسية واضحة, وتحركت في إطار كونها جمعية دينية اجتماعية تدعو إلي مكارم الأخلاق.( السيد يوسف مصدر سابق, ج5, ص71). كانت بداية هجوم الإخوان علي الوفد في عام1935 بسبب تصريحات النحاس باشا التي أعلن فيها اعجابه بلا تحفظ بكمال أتاتورك زعيم تركيا, لعبقريته الخالصة وفهمه لمعني الدولة الحديثة التي تستطيع وحدها في الأحوال العالمية الحاضرة أن تعيش وأن تنمو.( نفسه, ص72). هاجم حسن البنا الزعيمين النحاس وأتاتورك واتهم الوفد بانه لم يحقق أي شيء من آمال المسلمين منذ أن ألقيت إليه مقاليد الأمة وتعاقبت حكوماته. وحينما عقد النحاس مع بريطانيا معاهدة1936 عارضها الإخوان وأطلقوا عليها المعاهدة المشئومة.. واتهمت الجماعة الوفد بخداع المصريين. هاجم الإخوان الوفد بتهمة معارضته لتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر في عام1938, وفي العام نفسه, عندما هاجم الوفد السراي ووزارة محمد محمود, وقف الإخوان بجانب السراي, مما دفع الوفد من خلال جريدة المصري للهجوم علي الجماعة وإثارة قضية الفصل بين الدين والدولة. استمر الإخوان في سياسة معاداة الوفد ارضاء للسراي, خاصة حينما تتوافق سياسات السراي مع رؤي الإخوان التي تؤيد وقف الدستور وفض البرلمان والهجوم علي الحزبية والأحزاب:( فقد أثبت الإمام فساد الحزبية ووجوب حل الأحزاب وتطهير الأمة من أدرانها... وأكد أن الزعماء في مصر أسوأ قدوة للشعب).( نفسه, ص75). ووصل الأمر بحسن البنا الي حد الهجوم والغمز واللمز علي الزعامات الوفدية, خاصة سعد زغلول, فيقول يجب أن يكون الزعيم زعيما تربي ليكون كذلك, لا زعيما خلقته الضرورة وزعمته الحوادث فحسب, أو زعيما حيث لا زعيم. واستغل الإخوان حادث4 فبراير وتبعاته, حيث قبل الوفد العودة للحكم بدعم بريطاني, مما تسبب في الاساءة لسمعته وأثر تأثيرا كبيرا علي شعبيته وقد استغل الإخوان هذا الحادث استغلالا كثيرا في الدعاية ضد الوفد.. فحقق الإخوان مكاسب واسعة سواء في الانتشار بين الجماهير الساخطة علي الوفد أو في الحصول علي ميزات متعددة من حكومة الوفد نفسها.( نفسه, ص78). والفترات التي شهدت فيها العلاقات بين الإخوان والوفد نوعا من الود أو المهادنة كانت قليلة, مثل تلك الفترات التي كان فيها الوفد في الحكم وفقا لسياسات الإخوان في التحالفات, وكما استفاد الإخوان من فترات حكم الوفد, استفادوا من إبعاده عن الحكم وذلك لحاجة حكومات الأقلية إلي سند شعبي, ووصل بهم الأمر إلي تأييد حكومات النقراشي وصدقي, مخالفين بذلك ليس الوفد فقط بل تيارا شعبيا كاسحا رافضا للرجلين وسياستهما.. وقد جني الإخوان ثمارا عديدة واستفادوا أيما فائدة من حكومات النقراشي وصدقي, فكانت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية سنوات مد وصعود واتساع نفوذ الإخوان.( ريتشارد ميتشل مصدر سابق, ص94). وشهد شاهد من الإخوان: شرح أحمد السكري أحد أثنين( الثاني هو المرشد الأول حسن البنا) أسسا جماعة الإخوان ووضعا استراتيجيتها من خلال أربعة وعشرين مقالا نشرها في جريدة صوت الأمة, لسان حزب الوفد آنذاك حملت عنوان( كيف أنزلق البنا بدعوة الإخوان), كيفية إدارة البنا للعلاقة مع الوفد متسائلا عن الحكمة في مشايعته( أي البنا) بكل قوة للعهد الحاضر( حكومة اسماعيل صدقي ومن بعدها حكومة النقراشي باشا) في الوقت الذي لم تتقدم الحكومة فيه خطوة في قضية البلاد وتحقق وعد واحد مما قطعته علي نفسها, وما الحكمة في استخدامه( أي البنا) لمناوأة الوفد فجأة في الوقت الذي ندعو الوطن فيه إلي توحيد الجهود, وفيم كان الحاحه( أي البنا) علي أحمد السكري في العام الماضي ليتفاهم مع الوفديين, وذهب فضيلته ليلا إلي أحد أقطابهم مع رئيس إحدي مناطق الغربية ليلح عليه في التعاون الكلي, بل بالاندماج في الوفد بشروط ظاهرية يغطي بها موقفه, وفيم كان( أي البنا) ينشئ المقالات الرائعة في مجلة الإخوان يزجي فيها الوان المديح والثناء لحكومة الوفد ورفعة رئيس الوفد, ويخصص الصفحات للإشادة بتدين صبري باشا أبو علم, والإشاده بفضل فؤاد باشا سراج الدين ومحمود بك غنام وأحمد بك حمزة والمغفور له عبدالواحد بك الوكيل وغيرهم كل باسمه, وبمقال خاص به, بل بصفحة خاصة لبعضهم, بل وينقد بحرارة وقسوة بعض رجال العهد الحاضر أيام كان الوفد في الحكم( من1942/5/26 إلي1944/10/8), ثم إذا به الآن يهاجم هؤلاء, ويمدح هؤلاء ويتهم أحمد السكري بأنه صديق للأولين( أي الوفديين) وعدو للآخرين( السعديين)( المقال الخامس صوت الأمة السنة الثانية العدد419 بتاريخ1947/11/28 م). السكري يصف كيف أنقذت حكومة الوفد الإخوان: ويضيف السكري في موضع آخر شارحا كيف أنقذتهم حكومة الوفد والنحاس باشا من بطش حكومة حسين سري باشا قائلا ثم كيف تعرضنا لسخط ذوي البطش واضطهاد ذوي السلطان, وكيف صبوا علي الدعوة جام غضبهم, من تشريد وسجن وحصار وتضييق, وكيف استحثني وألح علي الأستاذ البنا أن نجد إلي الوفد سبيلا, وكيف قابلنا رفعة النحاس باشا, وكيف بر بوعده ألا يأخذ بالتقارير التي ترد إليه من البوليس السياسي, حتي يحقق معنا, وكيف وصف الأستاذ البنا نفسه رفعة النحاس باشا بعد أن وفي بوعده فقال عن رفعته:( إنه يحاكم المسائل بروح القاضي العادل) حتي إنقشعت الغشاوة, وأمر بفك الحصار علي دور الإخوان, ومنحهم الحرية الكاملة في نشر دعوتهم.( المقال السادس صوت الأمة السنة الثانية العدد420 بتاريخ1947/11/30 م). ويسرد السكري القصة في ذات المقالة قائلا: بدأ الأستاذ البنا يلح علي في استنجاز رفعة النحاس باشا وعده, فمطبعة الإخوان مغلقة ابوابها بالشمع الأحمر من أيام الحكومة السابقة.( يقصد: وزارة حسين سري باشا, التي تولت الحكم من1941/7/31 إلي1942/2/4 م) والمجلات التي كان يصدرها الإخوان أو يشترونها أو يستأجرونها من أصحابها كانت تلغي الواحدة تلو الأخري, إذن نريد إصدار مجلة جديدة باسم الإخوان, ونريد الإفراج عن المطبعة المتواضعة التي كنا نملكها, فأصدر رفعة رئيس الحكومة أمره بفك الأختام عن المطبعة فأصبحت طليقة, وأمر بالتصريح بإصدار مجلة الإخوان المسلمين, ولكن كيف تتحمل ميزانيتنا المتواضعة15 جنيها كتأمين! إذن فلا بأس بالضمانة الشخصية, فصدرت الرخصة باسم الأستاذ البنا وضمنه أحمد السكري, وصدر العدد الأول من السنة الأولي يوم السبت29 أغسطس1942 م مزينا صورته بصورة صاحب الجلالة الملك المحبوب وانطلقت فيه أقلام مرشد الإخوان وكتاب الإخوان بعد أن طال سكوتها أمدا طويلا. ويواصل السكري: وأذكر أننا في إحدي المناسبات التي زرنا فيها رفعة النحاس باشا لنشكره علي وفائه بوعده, وتمكينه للإخوان في نشر دعوتهم, ومنحهم حريتهم, قال لنا رفعته:( ثقوا أنني لن أتواني في بذل كل معونة لكم علي نشر دعوتكم الإسلامية ابتغاء مرضاة الله لا أرجو من وراء ذلك مؤازرة ولا أرمي إلي استخدامكم في أي ناحية سياسية أو غرض حزبي, ولكن الذي أحب أن أوصيكم به أن تحرصوا كل الحرص علي المحافظة علي كيانكم الديني حتي تؤدوا رسالتكم بعيدين عن المطامع والأهواء!!). فشكرنا رفعته علي هذه الروح الكريمة, وأكدنا له أننا سائرون علي ما عاهدنا الله عليه من تحقيق رسالتنا ونشر دعوتنا, ولن نكون أداة في يد أحد كائنا من كان. ويذكر السكري: وكان الأستاذ البنا حريصا في كل مناسبة علي أن يشيد بالوفد وحكومته, فنشرت مجلته في عددها الصادر في12 سبتمبر سنة42 م( أول رمضان سنة61 ه). تعليقا علي خطاب رفعة النحاس باشا بشأن مراعاة حرمة شهر الصوم ما يأتي: لوجه حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية إلي حضرات أصحاب المعالي الوزراء بشأن شهر الصوم ووجوب مراعاة حرمته, وأمر الموظفين بأن يرعوا ذلك وأن يحترموا قدسية هذا الشهر المبارك فلا ينتهكوا حرمات الإسلام ويؤذوا شعور المسلمين بالإفطار علنا وأمر رفعته بأن يؤخذ المخالف بأشد العقوبة الرادعة الزاجرة, وأنه لأمر كريم, وقد كان له أثر طيب في نفوس المؤمنين الصادقين, الذين يؤلمهم ويؤذي نفوسهم ان يروا حرمة الإسلام تنتهك في بلد إسلامي كمصر.). ويضيف السكري: ان البنا لم يكتف بهذه المناسبة بل كتب عن حكومة الوفد بمناسبة إحياء الذكريات الإسلامية ما نصه:( وقد قرأنا أن الفكرة اتجهت إلي احياء الذكريات الإسلامية في كل مناسبة, وتوضع الآن برامج لحصر هذه الإحتفالات ووضع ترتيباتها من الآن, ولا شك هذا اتجاه مشكور نطلب المزيد منه والإسراع فيه ونسجله بالفخر لحكومة حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا التي أصبحت الفكرة الإسلامية تكاد تكون جزءا من سياستها الإجتماعية وقد رأينا آثار ذلك في تشريعات صدرت وأوامر عسكرية نفذت فكان لها أحسن الأثر في نفوس المؤمنين)( السكري نفس المقال) البنا يصف النحاس بأنه من أكثر الناس حرصا علي الصلاة: ويذكر السكري أن البنا سجل في العدد الثالث من مجلة الإخوان المسلمون الصفحة الحادية عشرة لحكومة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا أعظم الفخر لأن الفكرة الاسلامية تكاد تكون جزءا من سياستها وقد رأينا آثار ذلك في تشريعاتها التي صدرت وأوامرها العسكرية التي نفذت فكان لها أحسن الأثر في نفوس المؤمنين...!!( المقال الثامن صوت الأمة) ويضيف أن المرشد كتب في صفحة22 من نفس العدد من مجلة الإخوان المسلمون ما نصه نذكر أن صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا من أحرص الناس علي أداء الصلاة كما أنه يكثر من تلاوة القرآن الكريم ويسره كل السرور أن ينهج الموظفون والحكام هذا النهج, وان تعني لجان الوفد جميعا في كل مكان بتقوية روح الدين والتمسك بالاحلام... ولم يقف الأمر عند النحاس باشا بل امتد إلي وزراء الوفد فها هو المرشد حسن البنا يكتب عن واحد منهم( عبدالواحد بك الوكيل وزير الصحة) ما أظن لقبا يرفعه بعد أن سما مخلقه وفضله وعلا بوطنيته وايمانه ألم ينصف الفلاح وينهض بالقرية المصرية بعد أن سفكت دموع التماسيح وظل العطف علي الفلاح وقريته كلاما وخطبا. ويضيف ما زلنا نذكر موقفه الرائع في مجلس النواب عندما أجاب علي أول سؤال وجه اليه بصفته وزيرا للصحة, فقد بدأ قائلا بسم الله الرحمن الرحيم ويختتم بالقول واليوم تتكشف لنا ناحية من عظمته الخلقية, فقد اعتاد كل وزير في مصر أن يهدم مابناه سلفه ولو كان صالحا مفيدا وأن يجرح من سبقوه ليستأثر وحده بالفضل أما وزير الصحة الحالي فقد سئل عن رأيه في حديث لسعادة الدكتور علي باشا ابراهيم( وزير الصحة السابق) فأجاب أني اعتبر كل ما جاء فيه من ثناء تشجيع الاستاذ لتلميذه. ويشدد البنا فما أحوجنا إلي هذه الصفات في رجالنا عامة, وفي الحكام منهم خاصة. ونواصل