بعث بيري جاردنر, عضو مجلس العموم( البرلمان) البريطاني عن دائرة برنت نورث في شمال غرب لندن, منذ أيام بالرسالة التالية إلي الناخبين في دائرته: أشعر بخيبة أمل لأن التصويت فاتني. الحقيقة هي أنني اصبت مساء يوم الأحد واضطررت لدخول المستشفي. ولو كنت في المجلس, لصوت للاعتراف بفلسطين مع زملائي في حزب العمال. الرسالة جاءت ردا علي استفسارات آلاف الناخبين بشأن موقفه من تصويت مجلس العموم مساء الاثنين,13 أكتوبر الماضي, علي اقتراح باعتراف المجلس باستقلال دولة فلسطين. في هذا التصويت, الذي أجري بعد جلسة نقاش غير مسبوقة, أيد276 نائبا الاقتراح ولم يرفضه إلا12 عضوا فقط. في هذه الليلة التاريخية, ذاقت إسرائيل مرارة حصاد عدوانها المستمر علي الفلسطينيين في غزة والضفة الغربيةالمحتلة, وجني الفلسطينيون وأنصارهم, وهم في تزايد مستمر, ثمار سنوات طويلة من الصراع مع اللوبي الإسرائيلي في المملكة المتحدة. لم يكن جاردنر الوحيد الذي لاحقته رسائل الناخبين. فعبر حملة شعبية استخدم فيها البريد الالكتروني, تلقي نواب البرلمان حوالي58 ألف رسالة تطالبهم بدعم فلسطين وحقوق شعبها. وكان وراء هؤلاء حملة أوسع تمثلت في التماس للحكومة البريطانية للاعتراف بفلسطين وقع عليه قرابة125 ألف بريطاني. وبعد أن أغلق بات التوقيع, قدم مؤيدو فلسطين التماسا آخر يطالب الحكومة بوقف كل اشكال التجارة مع إسرائيل حتي يسترد الفلسطينيون أراضيهم المسروقة. وبلغ عدد الموقعين حتي الآن نحو77 ألف شخص. وفي أول الشهر الحالي, عقد ثاني نقاش عام تاريخي بشأن فلسطين في مجلس العموم, وكما حدث في جلسة التصويت علي الاعتراف بالدولة الفلسطينية, سمع أنصار إسرائيل ما يكرهون سماعه عن عنصريتها, ومروقها عن القانون, واحتلالها العسكري المدمر لحياة الفلسطينيين. كما واجهت حكومة بريطانيا انتقادات قاسية لتخفيها وراء بيانات الخطابة منزوعة الفعل اللازم لترجمة شعاراتها بشأن: القانون الدوليو الاستيطان اليهودي غير المشروع والحياة الصعبة التي تفرضها سياسات إسرائيل العدوانية تجاه الفلسطينيين إلي أفعال. ولمن لا يدرك من البريطانيين, ناخبين ونوابا, نبه جراهام موريس, نائب البرلمان عن حزب العمال, إلي الحقيقة التالية التي تلخص قسوة الوضع الراهن في الضفة الغربيةالمحتلة: هناك560 ألف مستوطن يهودي غير شرعي يسيطرون الآن علي40% من الأرض. رهان خاطئ وما لم يكن يجرؤ أحد علي قوله في بريطانيا, قبل سنوات, بحق الإسرائيليين, قاله علنا سير جيرالد كوفمان, النائب اليهودي الشهير: لا يمكن الرهان علي أي طبيعة أخري( إنسانية) لدي القادة الإسرائيليين, لأنهم ببساطة ليست لديهم هذه الطبيعة. والوسيلة الأنجع هي تهديدهم بالعقوبات وحظر التسليح لأن الإسرائيليين يؤمنون بأنه يمكنهم الإفلات بأفعالهم. ما الذي تغير, إذن, في بريطانيا المسئولة عن نكبة الفلسطينيين بوعد وزير خارجيتها الشهير جيمس آرثر بلفور في الثاني من نوفمبر عام1917 انشاء وطن في فلسطين للشعب اليهودي؟ والإجابة هي سياسات إسرائيل العنصرية والعدوانية ضد الفلسطينيين, كما يقول النشطاء المؤيديون لفلسطين. ففي بريطانيا, توجد حملة التضامن مع فلسطين, أكبر منظمة داعمة للفلسطيين في العالم, والمحرك الرئيسي للمظاهرات المناهضة في بريطانيا للعدوان الإسرائيلي. وتقول الحملة إن حروب إسرائيل علي غزة, وإصرارها علي حصارها منتهكة القوانين الدولية والإنسانية, وتهويد القدس, وصور جثث الفلسطينيين, والآلة العسكرية الإسرائيلية التي تدمر المنازل وتقتل المدنيين في الأراضي المحتلة, أحدثت تغييرا هائلا في صورة إسرائيل وموقف الرأي العام البريطاني منها. ولم تستطع وسائل الإعلام اليمينية الموالية للوبي الصهيوني الإسرائيلي, علي كثرتها, في بريطانيا غسل صورة إسرائيل المشوهة بدماء الفلسطينيين العزل الخاضعين للاحتلال منذ أكثر من مائة سنة. رفاهية المخاطرة وبفضل التحول في الرأي العام, فشلت كل محاولات الجالية اليهودية في بريطانيا والسياسيين في إسرائيل, في تجنب الصفعة. فقبل تصويت مجلس العموم علي الاعتراف بفلسطين, أرسل هيليك بار, الأمين العام لحزب العمال الإسرائيلي, رسائل عاجلة إلي كل نواب حزب العمال البريطاني المعارض, الذي يقف نوابه وراء اقتراح الاعتراف, يطلب منهم تحدي تعليمات الحزب بتأييد الاقتراح. واستنفرت الجالية اليهودية قوتها ووسائلها في الضغط لتجنب ما رأتها هزيمة حتمية لإسرائيل في بريطانيا, بل إن جاك سترو, وزير الخارجية البريطاني السابق وأحد أبرز أركان العمال, شن هجوما مضادا لحملة الجالية اليهودية لإقناع نواب حزبه بأن الاعتراف بفلسطين الآن سوف يسهم في تحقيق حل الدولتين وتسوية الصراع التاريخي في فلسطين. ولأنه كان أحد الوزراء الذين ساهموا في وضع خريطة الطريقة عام2002, التي أكدت علي حل الدولتين, فإنه رأي انه لو انتظرنا إبرام اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين علي تسوية تضمن تنفيذ حل الدولتين, فإن الدولة الفلسطينية لن تري النور. الانتخابات العامة البريطانية, المقرر إجراؤها في شهر مايو المقبل, إحدي كلمات السر وراء هزيمة إسرائيل, بعد تخلي حزب العمال عن دعمه التاريخي المطلق غير المشروط لها. فكل المؤشرات الحالية تتوقع تكرار سيناريو البرلمان المعلق الذي نتج عن الانتخابات السابقة عام2010, وأدي لخروج العمال من السلطة بعد تحالف المحافظين مع حزب الليبراليين الديمقراطيين. ولذا فإن حزب العمال بحاجة ماسة لكل صوت في انتخابات2015 ليحقق فوزا حاسما يتيح له العودة للسلطة منفردا. وحسب التقديرات, فإن عدد الناخبين المسلمين في بريطانيا, الذين تحتل قضية فلسطين مرتبة متقدمة في قائمة همومهم وفي ظل حملة تهويد القدس وإصرار المتطرفين اليهود علي التركيز علي البعد الديني في الصراع مع الفلسطينيين, بلغ3 ملايين يعيشون في عدد كبير من الدوائر الذي يحتاج العمال إلي تأييد ناخبيها. وفي المقابل يعيش ربع مليون صوت يهودي في عدد ضئيل من الدوائر الانتخابية. وفي ظل النظام الانتخابي الفردي في بريطانيا, يمكن للصوت الواحدأن يدخل المرشح البرلمان أويخرجه منه. ورغم أن هذا اللوبي الانتخابي غير منظم, كما هو حال اللوبي اليهودي, فإنه أدي إلي ظهور لافت للمسلمين علي الخريطة السياسية في بريطانيا. وشواهد هذا الظهور تقول إن للمسلمين8 نواب في مجلس العموم, و17 في مجلس اللوردات و4 في البرلمان الأوروبي, ومئات من عمد المدن وأعضاء المجالس المحلية في أنحاء المملكة المتحدة. وهذا يشير إلي أن حزب العمال, وبعض أعضاء المحافظين والليبراليين الديمقراطيين والمستقلين, لا يملكون رفاهية المخاطرة بخسارة الصوت المسلم. ولأنه في السلطة التي عليها أن تراعي حساباتها مع إسرائيل, حليف بريطانيا الاستراتيجي الوحيد في المنطقة, أمسك حزب المحافظين العصا من المنتصف. فامتنع عن التصويت في الاقتراع علي الاعتراف بفلسطين وأعطي نوابه حرية التصويت كل وفق رأيه الشخصي, أملا في عدم إثارة غضب الناخبين المسلمين.