أرشح جوليان آسانج ليكون شخصية عام2010 دون منازع. هذا الفرد الواحد الذين تمكن من أن يقلب الدنيا رأسا علي عقب ب كبسة زر. نعم, لم يستغرق الأمر سوي ثوان معدودة ليصحو العالم أو ينام إن كان في نصف الكرة الآخر, ليجد أن كل غسيل حكوماته غير المغسول جيدا والمليء بالبقع الشديدة قد تم نشر علي حبل الغسيل الدولي علي مسمع ومرأي من الجميع, وإللي ما يشتري يتفرج. وربما أن الشيء الوحيد الذي خفف نسبيا من حدة الزلزال الذي أحدثه نشر الوقائق المسربة هو أن الجميع وجد نفسه في الهوا سوا, أي أن هذا التسريب نال الجميع تقريبا, أو فلنقل الجميع ممن يقومون بلعب أدوار مهمة أو حيوية في العالم. من العالم العربي, إلي أوروبا, إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية, إلي الصين, حتي موريتانيا وحزب الله ولبنان. صار الجميع أشبه بمن أزيل القناع الجميل الذي كان يتحلي به, وهو جمال لم يكن بالطبع نابعا من المعني الحرفي للكلمة, بل من موقع جغرافي مهم, أو دور سياسي حيوي, أو حتي مجرد مكمل اقتصادي أو استراتيجي. وأري أن الأذكياء فقط, سواء كانوا أنظمة وحكومات, أو ممالك وأسرا حاكمة, أو جماعات سياسية أو دينية, أو حتي أفرادا عاديين عليهم أن يستيقظوا علي وقع الشبكة العنكبوتية والشكل الجديد للعالم الذي تمكنت من صياغته بمزاجها الخاص وقدراتها غير المرئية لكن القادرة علي التسرب إلي أدق تفاصيل الحياة وأكبرها في لمح البصر. وعلي الجميع, لا سيما ممن ما زالوا يمسكون بتلابيب النظام القديم الذي كان قائما علي المنع والمنح المرتكزين علي رغبة من يملك السطوة والسلطة, وليس لمن يملك الذكاء والعلم, أن يعي الدرس قدر الإمكان. لقد فضح آسانج الكل دون هوادة ودون تفرقة. ورغم سنوات عمره التي لم تكمل الأربعين بعد, إلا أنه نجح في أن يقلق مضاجع ملايين البشر, أو فلنقل مئات البشر ممن يتحكمون في حيوات ومصائر ملايين بل بلايين البشر في المعمورة. آسانج بالمصري وقبل أن أبدأ البحث بدقة وتأن في حياته, كنت أغمض عيني وأتخيل أن آسانج هذا كان مواطنا عندنا في بلادنا, وحباه الله بالقدرة الكمبيوترية الفذة للحصول علي وثائق بالغة السرية, ثم نشرها علي متن الإنترنت. يا تري كيف سنتصرف معه؟! وقد قفزت إلي مخيلتي مجموعة من السيناريوهات. فمثلا تخيلت نقطة البدايةالكلاسيكية وهي تسليط إثنين من البلطجية المحترفين عليه, ورنه علقة ساخنة نهارا جهارا في أحد شوارع وسط القاهرة تحت مسمع ومرأي من الجميع. وربما كذلك يتوجه ثلاثة أو أربعة قبضايات إلي بيت الست والدته والدخول عنوة, وقلب البيت رأسا علي عقب, وسبها ولعنها, ثم تهديدها بأنها لو لم تبذل كل ما أوتيت ولم تؤت من جهود لتعقل المحروس ابنها, فإن الذباب الأزرق لن يعرف له طريقا. وأشير في هذا الصدد أن مسألة الذباب الأزرق استرعت انتباهي, وقد شغلت تفكيري, فحجم الدور الذي لعبه الذباب الأزرق في تاريخنا المعاصر كبير جدا, ورغم ذلك فإنه قلما استوقف أحدا.( وبالمناسبة فقد حاولت أن أبحث في أصل وفصل الذباب الأزرق. ووجدت الإجابة الشافية العافية, فهناك بالفعل نوع من الذباب يسمي الذباب الأزرق, واسمه العلمي هو كاليفورا فوميتوريا. وأغلب الظن أنه يستخدم في هذا السياق تحديدا لأنه يتغذي علي اللحوم والأجسام الميتة والجروح) وأعود إلي سيناريوهات جوليان أسانج المصري, فإنه كان يمكن كذلك أن يتعرض للحبس والتقديم للمحاكمة بتهمة تكدير الأمن العام, أو إثارة البلبلة, أو إشاعة الفتنة, أو التلاعب بسمعة الوطن, أو حتي التجمهر بشكل أدي إلي تعطيل المرور, علي أساس يعني أن تحميل الوثائق بهذا الكم المذهل قد يسبب زحمة سير في الفضاء الإلكتروني, وآهو كله مرور. وكانت عقدة الخواجة قد بدأت تزدهر وتلعلع في داخل نفسي المريضة, التي تصور لي أحيانا أن كل ما هو محلي سييء ورديء, وكل ما هو من بلاد بره جيد وأنيق, ولكن الحمدلله أفقت من غفلتي علي تلاحق أخبار خواجاتي عدة تتعلق بالسيد جوليان آسانج. تلفيق غربي فأحد مستشاري رئيس وزراء كندا طالب بقتله, وجهات رسمية عدة حول العالم طالبت باعتقاله بتهمة تسريب الوثائق السرية, وهو مارد عليه آسانج بقوله ان هذه ليست تهمة يعاقب عليها. وشرطة السويد أعلنت أنه مطلوب في قضية اغتصاب وتحرشات جنسية ارتكبها هناك, وهي القضية التي تم إسقاطها في سبتمبر الماضي من قبل المدعي العام السويدي. وأعلنت استراليا استعدادها سحب الجنسية الاسترالية منه. ورغم أن الموقع إياه تأسس في عام2006, أي أنه لم يظهر فجأة خلال الأشهر القليلة الماضية, إلا أن الدنيا قامت علي آسانج في الأسابيع القليلة الماضية ولم تقعد, وهو ما جعل الفئران تلعب في عب الملايين. فهو قد أخذ علي عاتقه مهمة فضح الحكومات والأنظمة والتلطيش فيها يمينا ويسارا منذ فترة طويلة, ولكن يبدو أن الأوتار التي بدأت الوثائق الأخيرة تدق عليها كانت حساسة لدرجة الألم الشديد. ويبدو أن هذا الألم دفع العالم للتصرف مثلنا تماما في مثل هذه الحالات التي تجعل التهم تلفق, والمشانق تعلق, والمكائد تدبر دون تفكير في الجوانب القانونية والأخلاقية والحقوقية التي عادة ما تتحول إلي رفاهيات لا ينبغي شغل التفكير بها في الطوارئ. وقد تصورت أن أقصي ما يمكن عمله في مثل هذه الحالة التي باتت تهدد سمعة حكومات, وتهز صورة دول, وتعصف بكيانات كان يفترض أن تكون قبلة للديمقراطية, لكن ثبت لي أنني مثل كثيرين من أبناء بلدي مصابة بعقدة الخواجة, وقد ثبت أن الخواجة فشنك. فبينما أكتب هذه السطور, قرأت خبر إلقاء القبض علي آسانج في بريطانيا احد معاقل الديمقراطية في العالم. أما التهمة, فقد جاءت خواجاتي, إذ يصعب أن توجه له تهمة بلدي مثل قلب نظام الحكم, أو تعطيل المرور, او ازدراء الأديان, لأنها ستكون مضحكة في ظل اختلاف الثقافات, ولذلك تم إلقاء القبض عليه بناء علي تهمة غريبة, الا وهي الاشتباه في ارتكابه جرائم جنسية. قدم المساواة: وهكذا نقف نحن وأهم اي العالم الغربي الديمقراطي المتقدم علي قدم المساواة, فها هي تهمة عجيبة في توقيتها تموت من الضحك تلبس اخونا اسانج, وواضح وضوح الشمس انها محاولة رسمية غربية مضنية لتكميم فمه, او بالأحري عقله ومن ثم يده قبل أن تزيط أكثر من ذلك. الأغرب والأعجب من ذلك هو ان البعض في مصر يلوح إلي أن الإدارة الأمريكية هي من يحرك اسانج, وأنها تفعل ذلك بهدف اثارة الزوابع والفتن بين العرب, وكأن العرب في حاجة إلي المزيد من الفتن والزوابع, وحجة اولئك في ذلك هي ان معظم تلك الوثائق لم يتطرق إلي اسرائيل والوجود الاسرائيلي. والحقيقة انني لطالما وقفت عاجزة امام ظاهرة متأصلة لدينا الا وهي نظرية المؤامرة ومحاولة الصاق التهم لما نحن فيه من ذل وهوان وانكسار وضعف وتشرذم بآخرين لا يمتون إلينا بصلة, بمعني آخر لولا تدخل الغرب, لكنا اقوي ناس في العالم, ولكنا اغني ناس في الكون, ولكنا أجمل كائنات علي وجه المعمورة, ولكن, وآآآه من ولكن, وهذا في واقع الحال لا يعني شيئا سوي أننا ضعفاء إلي حد البلاهة, فحتي المؤامرات التي نتصور انها تحاك دائما ضدنا, لانقوي علي الرد عليها, والأغرب من ذلك اننا لا نفهم ان التآمر يستهلك وقتا وجهدا ومالا, ونحن نتخيل ان الجماعة دول مالهمش شغلة او مشغلة غير انهم يتآمروا علينا, ولو كان الأمر كذلك, لما تقدموا او انجزوا في العمل اوالعلم او حتي الترفيه. ولابد ان أشير في هذا الصدد إلي اسرائيل وسمكة القرش, فقط اسقط في يدي حين سمعت ما يقال حول احتمال قيام اسرائيل بالتسبب بأسماك القرش المفترسة لضرب السياحة في مصر واسقط في يدي أكثر حين شاهدت مشاهد اصطياد سمكتين تم التأكيد علي انهما الفاعلتان, وكان السقوط مدويا حين سارعنا إلي إعادة فتح الشواطئ في شرم الشيخ, والسماح للسياح بالسباحة والغوص وكانت النتيجة قتل سمكة قرش لسائحة ألمانية, ومهما كانت نظرية المؤامرة قادرة علي إنقاذنا وتقديم يد العون لنا في الازمات النفسية الشديدة التي كثيرا ما نمر بها بسبب اخفاق هنا أو تقصير هناك, فإن اللجوء إلي نظرية المؤامرة فيما يتعلق بسمعتنا العالمية السياحية لا يحتمل المؤامرة). قلبي معه: وأعود إلي اسانج, ولا يسعني الا أن أقول ان قلبي معه, فهذا الرجل فريد من نوعه, وهو كذلك شاطر جدا, فهو حاذق في شئون الكمبيوتر, ولديه فكر خاص به, وايديولوجيا مقتنع بمنهجها وهي قائمة علي اساس فضح الممارسات الخاطئة طالما ذلك في إمكاننا. اما نحن, وطالما ليس في امكاننا شيء الآن, فلنخصص وقتنا في متابعة ما يحدث حولنا, وننتقي ما نود من أحداث ومصائب وكوارث تحل بنا, ونوجه اتهامات المؤامرات والمكائد لغيرنا, وقد يجعلنا ذلك نشعر بأننا أفضل حالا, فعلي الأقل يكون اشبه بالمخدر الذي ينسينا متاعبنا ولو للحظات معدودة. أعود وأؤكد ان جوليان اسانج جدير بأن يكون شخصية العام حتي وإن كان قد ارتكب جرائم جنسية ولو أني اشك في ذلك. خواطر إنسانية: قادتني المصادفة إلي مقابلة الدكتورة سناء السورية المتزوجة من مصري والمقيمة في مصر منذ ما يقرب من ست سنوات.. دار حديث طويل بيننا حول الحياة وأولوياتها وكيف نمضي وقتنا في حياتنا! ورغم أنها كانت المقابلة الأولي بيننا, الا انها تحدثت بمنطق وجدته بالغ المنطقية, ورغم بساطته, وشدة سهولته, الا أنه بدا لي شديد الصعوبة. حكت لي كيف انها تهدر وقتها في العصبية والقلق, وتيرة الحياة صارت صعبة, مشاكل العمل, واوجاع النزول إلي الشارع, ومخاوف ان تكون جالسا في بيتك وتصلك شتيمة او سباب بشع عبر نافذتك ويدخل عليك دون استئذان, القلق والتوتر ينتابان الجميع, نذهب إلي العمل فنصل منهكين, ننهمك في عملنا, وندخل في التفاصيل الصغيرة, وتأخذنا إلي أبعد حد, ننتهي من عملنا وفي الطريق إلي البيت, نحمل هم العثور علي وسيلة مواصلات مناسبة, وتحضير وجبه غداء, ومن ثم مذاكرة الأولاد, وشراء احتياجات البيت, ومشاهدة نشرة الأخبار, ومتابعة الفيلم العربي. ويجد كل منا في نهاية اليوم عبارة عن جسم منهك القوة والفكر, ونجد في اي شيء يقوله الأولاد او قصة يحكيها شريك الحياة او قريب يتصل بنا هاتفيا ليطمئن علينا أو جارة تطرق الباب لتقترض ليمونة شيئا لا يطاق, قد نسمع, وقد نرد, لكننا نعد الثواني لينتهوا مما يقولون او يطلبون حتي نخلد للنوم لنرتاح من هذه الحياة, ننسي تماما ان شريك الحياة شخص نحبه, وان الأولاد نعمة يحسدنا كثيرون عليهما, وان الله اعطانا الكثير من الهدايا والمنح التي لا نعطي انفسنا الفرصة لنستمتع بها. نتضايق من شريك الحياة لانه يفكر بطريقة غير التي نفكر بها, ومن الأولاد لانهم يتسببون في الكثير من اللخبطة والبهدلة, ويريدون ان يتحدثوا الينا في اوقات لا تناسب مزاجنا المتكدر دائما, نحن نفكر في انفسنا طيلة الوقت, مشكلاتنا في العمل تسيطر علينا, وزحمة الشارع تخنقنا, وتدني الأخلاق من حولنا ينال من اعصابنا, وتطلعاتنا تمنعنا من رؤية ما لدينا, والنهاية اننا نفكر في انفسنا وما يضايقنا, ومايهمنا, وما نستحقه وما لا نستحقه أكثر مما ينبغي, علينا أن نفكر اكثر فيمن يحيطون بنا, خصوصا من نحبهم ويحبوننا, وان نعطيهم قدرا أكبر من اهتمامنا ووقتنا وجهدنا, علينا ان نعيد ترتيب اولوياتنا, ونفرغ ما ينهك قوتنا ويستهلك مجهودنا دون طائل مناسب حتي نفسح مكانا لما هو افضل ومن هم أهم. شكرا دكتورة سناء علي مساعدتك في أن أري أشياء واضحة وضوح الشمس, لكني لم أكن اراها لانني منشغلة بنفسي طيلة الوقت.