لن أنسي أبدا ذلك الصياد العجوز الذي ألتقيت به عشية وصولي إلي مدينة أوستوند البلجيكية المطلة علي بحر الشمال بدعوة من صديقي الفنان رونالد ليبين فكان هذا الصياد مهاجرا عربيا من المغرب سافر منذ ما يزيد علي ثلاثين عاما. وكان وجهه بشوشا وكانت الضحكة لا تفارقه أبدا بالرغم من ملامحه التي بدت عليها حدة البحر وقسوة الحياة. كانت لصديقنا الصياد لكنة مغربية واضحة لا تخطأها أبدا, كانت أشبه بخلط الزيت بالماء فيظل الماء ماء والزيت زيتا.. فلم يشوب لكنته أي من الفرنجه( الفلاميش) رغم سنين الغربة. كان الهدف من زيارتي هو مشاركة أحد أصدقاء ليبين وهو أحد أبطال مصارعة المحترفين المتقاعدين بحكم السن- فرحته بإمتلاك فندق صغير يطل علي البحر وإنجاز جدارية ضخمة علي واجهة مبني الفندق. وبرغم ضخامة الجدارية وصعوبة تنفيذها, إلا أن الشعور بالقلق لم يتملكني ولو للحظة واحدة.. ربما لثقتي بخبرة ليبين أو بينج كما كان يناديه أصدقاؤه المقربون. فبينج كان متخصصا في الجداريات وظل لسنوات طويله يرسم عربات القطار والمترو ببلجيكا وهولندا. كان يجني الكثير من المال في رسم عربة قطار واحدة. لكن دخول التكنولوجيا وبرامج التصميم المتقدمة وظهور طابعات وقاطعات الفنيل والديزاين جت العملاقة التي تنجز في دقائق ما كان ينجزه هو في شهور أحالته هو الآخر إلي التقاعد! خفت نجم ليبين كرسام جداري بالرغم من أنه كان مسجلا في موسوعة جينيز للأرقام القياسية كصاحب أكبر رسم في العالم.. أنجزه علي رمال شواطئ البحر في حملة لإنقاذ بحر الشمال.. إلا أنه ظل محافظا علي تاريخه كرسام ومصمم. مرت علي الأيام سريعا بأوستوند.. لكننا انتهينا من اسكتشات وتصميم الوجهة وحان الوقت لتنفيذ الجدارية.. فنصبت السقالات, ومدت الحبال, وتم تجهيز الفرش والألوان وصار كل شئ معدا في وقت قياسي.. برغم أن الحياة بالمدينة كانت تسير بشكل طبيعي جدا, إلا أن حالة من الترقب بدت ظاهرة عل الجميع في إنتظار الجدارية التي سوف تزين المدينة بأكملها. كما أن حالة الحب والوئام التي تسود العلاقة بين أهالي المدينة جعلتهم يعاونونا ويوفروا لنا كل ما نحتاجه من أدوات. لم يكن هذا غريبا.. فالفنان الذي سوف يتم جداريته هو من أبناء المدينة وذائع الصيت في بر بلجيكا كلها.. كما أن لصاحب الفندق شعبية كبيرة بينهم منذ أن كان مصارعا.. كما أنهم يجتمعون لديه في حانة الفندق كل ليلة ليشربوا الجعة الداكنة المحلية ويرقصوا علي أنغام موسيقي الجاز. أما صديقي الصياد المغربي العجوز الذي كان ينطلق يوميا نحو عمله في تمام الساعة السادسة صباحا مرتادا دراجته, وجد لنفسه دورا هو الآخر يساعد به إتمام الجدارية كسائر أهل المدينة.. وكان دوره مهما ورائعا.. أسنده هو لنفسه دون أن يسأله عنه أحد.. فكان يتوقف عند شباك غرفتي الأرضية المطلة علي الساحة المؤدية إلي الميناء وينزل عن دراجته.. ليؤدي دورا من أدوار السيدة أم كلثوم بصوته الرخيم الأشبه بصوت أديب الدايخ ولكنته المغربية دون توقف حتي يوقظني من النوم.. ولا يرحل إلا عندما أفتح الشباك فيلقي علي تحية الصباح فيركب دراجته من جديد وينطلق نحو مراكب الصيد الراسية في الميناء ليختفي عن الأنظار. كان هذا المشهد الصباحي المتكرر الملئ بالحفاوة فرصة نادرة للتمتع بصباح باكر غني بالحرية والنشاط. وكان العبور إلي الجانب الأخر من ساحة الفندق كالعبور إلي عالم ودنيا أخري, فما أحلي مشهد الميناء الذي يبدو في حركة غير عادية شديد الإ زدحام. فالكل يستعد لبدء يوم جديد.. نفس الوجوه التي لا تتغير.. نفس العربات التي تعد أطيب وألذ وجبات فواكه البحر من أسماك ومحار وقريدس وغيرها من خيرات وكرم بحر الشمال. كانت تلك العربات تصطف إلي جانب رصيف الميناء وتخدم أهل المدينة و روادها من السائحين وأنا منهم. وأتذكر أني لم أغير طلبي طيلة فترة إقامتي بالمدينة.. فكنت أطلب شوربة فواكه البحر مع البطاطس المقلية. أما الشوربة فكانت لي وكانت بمثابة قهوة الصباح المنعشة, وأما البطاطس فكانت لطيور النورس التي كانت تحيط بي أينما نزلت إلي الميناء. كان الوقت يمر علي سريعا بالميناء.. وكنت لا أحس به إلا بوصول صديقي بينج لنبدأ العمل علي إتمام الجدارية من جديد. فنتعلق بالسقالات ونرسم ونلون واجهة الفندق يوما بعد يوم حتي أنتهينا من هذه التجربه التي أثارت لدي الشفقة علي فناني عصر النهضة وعلي رأسهم الفنان الرائع مايكل أنجلو الذي ظل معلقا لأربع سنوات علي السقالات ليتم جداريات كنيسة السيستين.. ولا شك في أن التجربة تطغي علي الوصف. كان لانتهاء الجدارية فرحة غامرة في قلوب كل الأستونداويين وفي مقدمتهم صاحب الفندق.. وأحسست بالسعادة في عيون أهل المدينة البسطاء الذين اعتبروني واحدا منهم وجاءوا من شتي أركان المدينة يباركون ويحتفلون بإزاحة الستار عن الجدارية. وكان وقت الرحيل بالنسبة لي قاسا جدا.. فلقد أرتبطت بالمدينة وأهلها الطيبين.. وارتبطت بالعمل مع بينج أيضا فالعمل معه مفيد جدا وممتع للغاية.. وأخيرا أرتبطت بصوت صديقي الصياد المغربي العجوز الذي ما زال صوته عالقا في ذهني وأذني وهو يشدو بأغاني أم كلثوم بالرغم من مرور أثني عشر عاما علي هذه الرحلة التي لن أنساها.. أظن أنني سأعود إلي أوستوند وأهلها الطيبين مرة أخري حالما أتتني الفرصة..