ظل قادة الإخوان, ردحا من الزمن, وبالتحديد ما يقارب الأربعين عاما يكذبون علينا علنا بشأن ما قاموا به من محاولات اغتيال توجت باغتيال النقراشي باشا رئيس وزراء مصر الأسبق, حتي قرر بعض مجرميهم أن يتحدثوا, فانكشف المستور, كل المستور, وظهرت الجماعة عارية تماما أمام المجتمع, الغريب أنه وبعد كل ما حدث, ما زال هناك من يمتلك الجرأة ويخرج علينا ليقول بالفم المليان, الإخوان لم يكونوا أبدا دعاة عنف, ولكن ماذا نقول, فقط نردد المثل المصري العبقري: ( اللي اختشوا ماتوا). يقول أحمد عادل كمال, أحد قادة النظام الخاص في كتابه المعنون: النقط فوق الحروف- الإخوان المسلمون والنظام الخاص- الطبعة الاولي الزهراء للإعلام العربي- الفصل العاشر-ص223: كان سقوط السيارة الجيب في1948/11/15 وتراءي للنقراشي بها أنه قد استمكن من الإخوان. كان النقراشي رئيسا للوزارة وحاكما عسكريا عاما ورئيسا للحزب السعدي, أكثر الاحزاب المصرية هزالا وضعفا حينذاك, كما كان في نفس الوقت وزيرا للداخلية ووزيرا للمالية في وزارته. وفي1948/12/8 أصدر النقراشي أمره العسكري بحل جماعة الإخوان المسلمين ولم تنقض ثلاثة أسابيع حتي سقط النقراشي قتيلا في عرينه بوزارة الداخلية برصاص الإخوان. وكانت لذلك الاغتيال أسباب ثلاثة هي كما افصح عنها عبدالمجيد أحمد حسن الذي اغتاله تهاونه في شأن قضية وحدة مصر والسودان, وخيانته لقضية فلسطين واعتداؤه علي الإسلام بحل الإخوان المسلمين كبري الحركات الإسلامية في عصرها. الحادث: ويمضي أحمد عادل كمال فيقول في ذات المصدر ص224: منذ وقع النقراشي قرار حل الجماعة وهو يدرك أنه ارتكب حماقة وتهورا يعرضه لما اصابه, فأعد لنفسه حراسة مشددة وبروجا مشيدة. وكان يذهب أياما إلي رئاسة مجلس الوزراء وأحيانا إلي وزارة الداخلية وأحيانا أخري إلي وزارة المالية. وقد استدعي الأمر قيام الإخوان بعملية رصد متوال لمعرفة جدوله في توزيع أيامه علي وزاراته. كذلك كان يغير طريقه من منزله بمصر الجديدة إلي أي من تلك الوزارات بوسط المدينة ولذلك استبعدت فكرة اصطياده في الطريق. وفي صباح يوم الثلاثاء1948/12/28 والكلام ما زال لأحمد عادل كمال ذهبت قوة الحراسة المكونة من الصاغ عبدالحميد خيرت والضابط حباطي علي حباطي والكونستابل أحمد عبدالله شكري إلي منزل النقراشي لاصطحابه, وانتظروا الباشا حتي نزل إليهم قبل العاشرة صباحا بعشرين دقيقة, وركب الأول معه في سيارته بينما استقل الآخران سيارة أخري تتبع السيارة الأولي, ووصل الركب وزارة الداخلية نحو الساعة العاشرة. ونزل الباشا من سيارته أمام الباب الداخلي لسراي الوزارة واتجه إلي المصعد مجتازا بهو الساري وإلي يساره الصاغ عبدالحميد خيرت وخلفه الحارسان الآخران, هذا بالإضافة إلي حراسة أخري تنتظر بالبهو مكونة من كونستابل وصول وأونباشي بوليس. ويواصل أحمد عادل كمال في ذات المصدر ص225: وكان هناك أمام وزارة الداخلية' مقهي الأعلام' تم اختياره مسبقا ليجلس به عبدالمجيد أحمد حسن 21 سنة وقد تسمي باسم حسني في انتظار مكالمة تليفونية لتلقي إشارة بأن الموكب قد غادر بيت الرئيس في طريقه إلي الوزارة. وتمت تلك التجربة مرات قبلها. وفي يوم الحادث تلقي' الضابط حسني' إشارة تليفونية بأن الموكب قد تحرك, فغادر المقهي إلي البهو الداخلي لوزارة الداخلية, وهناك كانوا يخلون البهو من الغرباء في انتظار وصول الرئيس ولكن عبدالمجيد وقد تزيا بزي ضابط بوليس لم يطلب إليه أحد الانصراف فهو من' أهل البيت' إذن. وحين غادر عبدالمجيد مقهي الأعلام كانت هناك عيون علي مقهي آخر ترقبه.. شفيق أنس في زي كونستابل ومحمود كامل السيد في زي سائق سيارة بوليس, فتبعاه إلي داخل الوزارة. اجتاز عبدالمجيد الباب الخارجي ثم الداخلي وانتظر في البهو, وجاء النقراشي بين حرسه متجها نحو المصعد حتي إذا صار علي وشك ولوجه فاجأه عبدالمجيد بإطلاق ثلاث رصاصات من مسدس برتا إيطالي الصنع كان معه, وقد تم ذلك بسرعة خاطفة وأصابت الرصاصات الهدف فسقط النقراشي علي الارض جسدا له شخير وخوار. كانت الساعة العاشرة وخمس دقائق صباحا. وأخذ رجال الحرس بما حدث فلم يستطع أحد منهم عمل شيء قبل إطلاق المقذوفات الثلاثة. القبض مصادفة علي الجاني: ويتابع عادل كمال قائلا: والتفت الصاغ عبدالمجيد خيرت إلي الخلف فاصطدم مصادفة علي ما يبدو بعبدالمجيد فوقعا علي الأرض وهجم الحراس علي عبدالمجيد وفي تماسكهم به انطلقت رصاصة رابعة ومات النقراشي بعد قليل. وقد ذكر بعض الشهود أنه انطلق نحوهم عيار آخر أصاب الحائط, مما أوحي بوجود شركاء آخرين, ولكننا نسبتعد ذلك, فتلك شهادة لم تذكر أمام النيابة في التحقيق وإنما ذكرت أمام المحكمة بعد أن عرف أن شفيق ومحمود كامل كانا هناك. وهي رواية ابتدعها البوليس للتأثير علي عبدالمجيد بإيهامه أن الإخوان أرادوا قتله بعد الحادث. كما ظن البعض من هذه الحكاية أنه كان هناك تدبير لتهريب عبدالمجيد. ولكن الذي نعلمه أنه لم يكن هناك أي تخطيط للفرار بعبدالمجيد وإنما كان الهدف من وجود شفيق ومحمود هو اغتيال ابراهيم عبدالهادي وعبدالرحمن عمار حين يحضران علي أثر مصرع النقراشي. غير أنه صدرت الاوامر بإغلاق كل الأبواب وتفتيش المكان فبادر محمود بالانصراف متخطيا سور الوزارة كما خرج شفيق من الباب وكان عليه حرس من عساكر البوليس فقال له أحدهم إن الأوامر تمنع خروج أي إنسان فأجابه علي الفور:' نعم.. لا تسمح لاي إنسان كان بالخروج' وخرج! وأبلغ صابر طنطاوي مدير الأمن العام الحادث تليفونيا إلي النائب العام محمود منصور باشا فانتقل إلي مكان الحادث وباشر التحقيق. تقرير الطبيب الشرعي: ويواصل عادل كمال في ذات المصدر ص226 و227: قد جاء بتقرير الطبيب الشرعي أن جثمان المجني عليه به ثلاث إصابات نشأت عن مقذوفات نارية, الأول أصاب الجهة اليسري من الظهر مقابل المسافة الضلعية التاسعة وقد نفذ العيار للتجويف الصدري ثم لتجويف البطن في اتجاه من الخلف واليسار للأمام واليمين بميل قليل لأسفل, وقد وجد المقذوف مستقرا بجدار البطن الأمامي واستخرجه الطبيب من تحت الجلد. أما الثاني فقد أصاب أعلي البطن الأيسر أسفل الضلع الأخير نشأ عنه جرح نافذ حيوي إلي تجويف البطن من الخلف واليسار للأمام واليمين, وقد استقر المقذوف أيضا بجدار البطن الأمامي واستخرجه الطبيب الشرعي. وقد اصاب الثالث مقدم الكتف اليسري وطية الإبط وامتد علي جدار الصدر الأمامي وانتهي بجرح هو فتحة الخروج. واستنتج الطبيب الشرعي أن' الجاني' كان خلف' المجني عليه' وإلي يساره وعلي مسافة تزيد علي النصف متر وكان مصوبا سلاحه بميل قليل إلي أسفل وأن الوفاة قد نشأت عن عياري الظهر وما أحدثاه من إصابات بالرئة اليسري والكبد والأوعية الدموية والأمعاء, وما ترتب علي ذلك من نزف دموي وصدمة عصبية, أما عيار الكتف اليسري فلا دخل له في الوفاة. الرأي العام في إنجلترا وفي مصر: ولا ينسي عادل كمال أن يأتي بعدد من تعليقات الصحف آنذاك حول الجريمة إذ يقول في ذات المصدر ص: علقت جريدة' المانشستر جارديان' البريطانية علي الحادث فقالت: 'إن مقتل النقراشي باشا رئيس الوزراء المصري لهو عمل سوء. وقد حدث بعد سلسلة من الاعتداءات كانت ايدي جماعة الاخوان المسلمين واضحة فيها, فمنذ ثلاثة أسابيع قتل حكمدار بوليس القاهرة في أحد الشوارع( تقصد سليم زكي) وفي21 نوفمبر دمرت الدار التي تحوي مكاتب اكبر جريدتين فرنسية وانجليزية في مصر( تقصد شركة الاعلانات المصرية) وفي الشهر نفسه وقع حادث الاعتداء الرابع في مدي عامين علي النحاس باشا( كان من تدبير السراي ولا شأن للإخوان به). (انظر كيف يعترف الرجل بشكل غير مباشر بارتكاب الإخوان لحوادث مقتل حكمدار القاهرة والهجوم علي شركة الإعلانات المصرية بإنكاره قيام الجماعة بحادث الاعتداء علي النحاس باشا). ويواصل عادل كمال نقله لما جاء في التايمز فيقول: وفي أول العام قتل أحد القضاة ممن حكموا علي أفراد تلك الجماعة( تقصد الخازندار). ولقد لقي النقراشي باشا حتفه عقب قراره الذي تأخر كثيرا بحل جماعة الإخوان علي أساس أن وجودها يهدد الأمن والنظام.. وكان ذلك هو جواب الإخوان عليه. وقالت الديلي تلجراف: وهذه الجريمة لن تحقق غرضا وستقابل بالسخط والاستنكار في جميع أنحاء العالم, وقد محت من سجل الوجود رجلا برهن خلال حياته السياسية الطويلة علي أنه أقوي رجل سياسي في مصر!. ويعلق عادل كمال في ص228 قائلا: ذلك كان رأي صحافة الإنجليز في الباشا النقراشي وفي حادث مصرعه.. أما في مصر فقد عمت الفرحة الناس بقتل النقراشي ورقص بعضهم فاعتقل. وتقلد مقاليد السلطة من بعده إبراهيم عبدالهادي باشا. وإذا كان النقراشي قد بدأ فتح المعتقلات فقد قرر إبراهيم عبدالهادي أن يملأها, وإذا كان النقراشي قد بدأ سياسة البطش والتنكيل فقد فاقه إبراهيم عبدالهادي في ذلك. كما كان تكليف عبدالهادي بتأليف الوزارة من بعد النقراشي يعني علي الأقل موافقة الملك علي تلك السياسة. عود إلي القضية: ونواصل مع عادل كمال في ذات المصدر حيث يقول في ص229: في1949/3/22 توصل التحقيق إلي من وصفه رئيس المحكمة بأنه' مهندس الجريمة' وهو ضابط البوليس أحمد فؤاد عبدالوهاب وكان قد نقل أثناء التحقيق إلي مدينة بنها, وذهب البوليس بصحبة النيابة للقبض عليه وتفتيش منزله, وتذكر التحقيقات أنه تمكن من التغرير باحد زملائه الضباط وركب سيارة البوليس وانطلق هاربا وتبعته قوات البوليس لمطاردته في حقل علي مقربة من الطريق الزراعي إلي القاهرة, وحاول أحمد فؤاد الهرب عندما شاهد رجال البوليس يقتربون من مكانه في الحقل وعبر بملابسه إحدي الترع فأطلق عليه البوليس النار فاستشهد علي الأثر. كذلك تناول عبدالمجيد بأقواله في22 مارس1949 محمد مالك, فانتظره البوليس الملكي في مسكن اثنتين من أقربائه, وحضر مالك إلي المسكن فظنه رجل البوليس زميلا له كذلك كان مستوي الذكاء وسأله عن اسمه فتسمي مالك باسم عبدالمنعم إبراهيم, وأخبره رجل البوليس بأنه مكلف بأن يحضر إلي قسم البوليس أي شخص يجيء إلي المسكن, فغافله مالك وعاجله بضربة بكرسي علي رأسه وبادر بالفرار, ولم يتمكن رجل البوليس المضروب علي رأسه من اللحاق به. وظل محمد مالك مختفيا رغم المجهودات المكثفة التي بذلها البوليس للقبض عليه والإعلانات المتكررة التي ملأت الصحف والجدران وكل مكان تحل صورته ووعد بمكافأة قدرها ألف جنيه لمن يرشد عنه. وأرشد كثيرون عن أشخاص تبين أن ليس منهم محمد مالك, ولكن تشابه في الصورة, حتي قبض عليه بالاسكندرية في14 مايو1949, ونشأت عن ذلك قضية أخري عرفت باسم قضية إخفاء مالك اتهم فيها محمود يونس الشربيني محام تحت التمرين وملازم أول طبيب جراح السيد بهجت الجيار والسيد محمد شامة وسعد محمد جبر وأحد البساطي وآخرون. وقبض علي مالك بعد تبادل إطلاق النار ولم تكن جدوي من المقاومة فقد كان البيت محاصرا ونفدت ذخيرته. الإخوان وطريقة تقييمهم لرجال القضاء: ونمضي مع عادل كمال حيث يورد تقييم الإخوان للنائب العام آنذاك المستشار محمد منصور فيقول في ص230 تولي تحقيق قضية اغتيال النقراشي النائب العام محمود منصور باشا بنفسه, وهو الذي كان رئيسا للمحكمة العسكرية التي حاكمت محمود عيسوي, رحمه الله, الذي قتل أحمد ماهر في فبراير1945 وحكمت عليه بالإعدام. ومحمد منصور هذا هو الذي أراد ضم قضية السيارة الجيب وقضية مقتل النقراشي في قضية واحدة. ولقد حقق معي هذا الرجل عدة مرات فكان يعتمد اعتمادا أساسيا علي جهاز البوليس السياسي بضغطه علي المتهمين واصطناع الشهود وشرائهم. ويضيف: كانت حيثيات الحكم في قضية اغتيال النقراشي علي النقيض من حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب. في قضية النقراشي كان رئيس المحكمة محمد مختار عبدالله متحاملا علي المتهمين وعلي جماعة الإخوان المسلمين بشكل ظاهر, في حين كان رئيس المحكمة في قضية السيارة الجيب أحمد كامل بك متفهما للدعوة وأهداف الجماعة متجاوبا ومقتنعا بمواقفنا وأكثر من ذلك كان معجبا بنا, فوصفنا الأول بأننا جماعة إجرامية وإرهابية ووصفنا الثاني بأننا شباب وطني يهدف إلي تحرير بلاده. الحكم: ويورد عادل كمال في ذات المصدر ص231 الحكم في القضية قائلا: في يوم الخميس1949/10/13 صدر الحكم في القضية كالآتي: أولا: معاقبة عبدالمجيد أحمد حسن بالإعدام. ثانيا: معاقبة كل من محمد مالك والدكتور عاطف عطية وشفيق إبراهيم أنس ومحمود كامل السيد بالأشغال الشاقة المؤبدة. ثالثا: براءة كل من كمال سيد القزاز وعبدالعزيز البقلي والشيخ السيد سابق والسيد فايز عبدالمطلب ومحمد صلاح الدين عبدالمعطي وعبدالحليم محمد احمد ومحمود حلمي فرغل ومحمد أحمد علي وجلال الدين يس ومحمد نايل إبراهيم مما أسند إليهم. وكان المستشار محمد مختار عبدالله وهو ينطق بالحكم يملؤه الغيظ والتشفي ومما قال:' ومما يؤسف له أن مهندس الجريمة يقصد الأخ احمد فؤاد عبدالوهاب رحمه الله ليس حاضرا, وأنه فضل رصاصات البوليس علي حكم الإعدام الذي كان مؤكدا أن هذه المحكمة ستصدره عليه'! وكان يتهدد أصحاب البراءة بأن موعده معهم سيكون في قضية السيارة الجيب, ذلك أنه كان من المقرر, حتي حينذاك أن ينظر قضية السيارة الجيب ايضا, ولكن مختار عبدالله قدر فقتل كيف قدر, وقدر الله وما شاء فعل. وتم تنفيذ حكم الإعدام في عبدالمجيد أحمد حسن رحمه الله يوم25 أبريل1950 في عهد وزارة الوفد بعد أن رفض التماس أسرته بالعفو عنه. [email protected]