تاريخ السينما لم يصنعه السينمائيين الطليعيون أمثال برجمان و جان لوك جودار و فلليني, بل صنعه مخرجو السينما التجارية في معظمه. مخرجو سينما أنتجوا أفلاما للجمهور الواسع تحت سطوة استوديوهات كبيرة تدار بواسطة مدراء يتدخلون في كل كبيرة و صغيرة بغرض إخراج سينما تلبي مطالب الجمهور. لم يملك هؤلاء المخرجون الحرية الكاملة في تقديم سينما خاصة بهم أو ما عرف بعد ذلك باسم سينما المؤلف, لقد عانوا من التدخلات في أعمالهم و سيطرة نظام الأستوديو علي ألعمل من البداية إلي النهاية و مع ذلك و بالرغم من كل تلك الظروف تمكنوا من تحويل السينما إلي فن مستقل بذاته له لغته الخاصة, من هؤلاء المخرجين العظام هورد هوكس و ألفريد هيتشكوك و فريتز لانج و جون فورد و جان رينوار و كارل دراير و أورسون ويلز و نيكولاس راي و جون هيستون.. و غيرهم من الأسماء الكبيرة في عالم السينما, بعضهم صنع الكثير من الأفلام و بعضهم واجه الصعوبات و لم تتعد أفلامه عدد أصبع اليد الواحدة و لكن كل منهم أسهم من خلال عمل أو عدة أعمال في تطوير فن السينما من خلال أعمال تقليدية( وسترن سينما بوليسية أفلام عصابات. من هؤلاء المخرج الأمريكي أرثر بن الذي فارق عالمنا في28 سبتمبر2010, و الذي كان من أول السينمائيين في هوليود يتأثر بالسينما الأوربية, فقد بدأ العمل في السينما مع ظهور تيار السينما الجديدة عام1958 و المعروف باسم الموجة الجديدة الفرنسية, و تأثر قبل ذلك بالواقعية الإيطالية التي ظهرت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أثرت سينما أرثر بن في كثير من مخرجي السينما في الولاياتالمتحدةالأمريكية الذين أتوا من بعده مثل رومان بولانسكي, فرنسيس فور كوبلا, مارتين سكورسيسي بل حتي سبيلبرج في بعض أعماله. رصد أرثر بن المجتمع الأمريكي في فترة تطوره التي تلت الحرب العالمية الثانية مع عنفه و قسوته في التسابق نحو النمو و ظهور الحلم الأمريكي الذي يتركز علي الأكبر و الأغني و الأقوي.. قد تكون موضوعاته لا ترتكز علي هذا العصر و تعود للماضي و فترة نشوء الولاياتالمتحدةالأمريكية و لكنها كانت تعكس عنف و قسوة تلك الفترة. ولد أرثر بن في فيلاديلفيا عام1922, بعد انفصال والديه ليعيش في مدينة نيويورك مع أمه و أخيه الذي أصبح مصورا كبيرا بمجلة الموضة الأمريكية الشهيرة' فوج', كانت أول علاقة له بالفن من خلال مشاركته في عمل مسرحي كبير أثناء فترة الدراسة عام1943. يدخل الجيش في فترة الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب يقدم علي دراسة الدراما في الولاياتالمتحدة, و يكمل دراسته في إيطاليا في جامعة' بيروز' في مدينة فلورانسا التي كان قد ذهب إليها أثناء تحرير إيطاليا. يعمل آرثر بن في التليفزيون بداية من عام1951 و تعد الفترة من1953 و حتي1958 هي فترة خصبة في حياته حيث قدم و أخرج أكثر من200 لقاء تليفزيوني, و كان قد بدأ الإخراج المسرحي في برودواي منذ عام.1954 جاء أول أفلامه في السينما عام1958 تحت اسم( القاتل الأعسر) مع بول نيومان, يفشل الفيلم و لا يحقق إيرادات و لكن تتم ملاحظته من جانب النقاد الأوربيين و بالتحديد نقاد كراسات السينما الفرنسيين الذين يرون فيه المخرج الذي يدمر سينما رعاة البقر, حيث بطله بول نيومان يحاول الانتقام من قتلة سيد عمله و ينجح, و لكنه يصبح مطاردا و مطلوبا للشنق, و ينتهي به الأمر مقتولا و هو أعزل بلا سلاح. تلك الشخصية مغايرة لشخصيات بطل أفلام الغرب الأمريكي التي تقدم البطل المنتصر علي الأشرار الذي ينتهي به الفيلم دائما راحلا علي حصانه وحيدا في الصحراء دون أن يصيبه مكروه بعد أن يقتل جيشا جرارا. أنتظر آرثر بن أربع سنوات ليخرج فيلمه الثاني( معجزة العاملة) فيقدم من خلاله تحفة إنسانية عن حياة' هيلين كلير' الصماء البكماء التي تحدت الإعاقة و نجحت في تعلم الكتابة و القراءة عبر طريقة' بريل'. تحصل أن بانكروفت التي قدمت شخصية مدرسة هيلين كلير علي أوسكار أحسن ممثلة في حين تحصل الممثلة باتي دوك و التي قدمت شخصية هيلين كلير علي أوسكار أحسن ممثلة مساعدة. الفيلم قدم معاناة مدرسة هيلين كلير الصماء البكماء و التي ترفض التعلم و عنفها تجاه مدرستها إلي أن تنجح في النهاية في تعليمها عبر مشقة كبري و هو ما سيعد معجزة لم يتوقع أحد لها أن تحقق. قدمت أن بانكروفت دورا أكثر من رائع للمدرسة العمياء التي تتذكر أيام حياتها في ملجأ العميان و الصعوبات التي وجهتها شخصيا, رشح آرثر بن للأوسكار عن هذا الفيلم و لكنه لم يحصل عليه. فيلمه التالي( ميكي واحد1964) هو أول تعاون بينه و بين الممثل الكبير وارن بيتي و الذي يقدم من خلاله فنانا و موسيقيا كبيرا و مالكا لملهي ليلي علي علاقة بالمافيا مما يجعله يترك ديترويت ليعيش في شيكاجو متنكرا و لكنه يعيش مع خوف العثور عليه من قبل المافيا. و كانت تلك أول معالجة في السينما عن علاقة أهل الفن بالمافيا في الفترة التي ساند فيها المطرب و الممثل فرانك سيناترا الرئيس جون كينيدي في حملته الانتخابية و هو الذي كان معروفا بعلاقاته بالمافيا. الفيلم متأثر بروح الموجة الجديدة الفرنسية و بالتحديد فيلم( علي آخر نفس) لجان لوك جودار, وقد أعلن بعد ذلك كل من سكورسيزي و فرانسيس فورد كوبلا أن الفيلم كان أحد مصادر ألهامهم عند تقديم أفلامهم عن المافيا. في عام1966 يقدم تحفة عن أمريكا الرئيس ليندون جونسون, أمريكا الاغتيالات و الحقد العنصري من خلال فيلم رائع( المطاردة) مع مارلون براندوا في دور الشريف و روبرت ريدفورد في دور السجين الهارب و جين فوندا في دور زوجة السجين الهارب. حيث يهرب سجين من السجن و يعود لبلدته لرؤية زوجته و يحاول الشريف القبض عليه و حمايته من أهل بلدته الصغيرة في تكساس الذين يحاولون النيل منه و اعمال عدالتهم الشخصية بتصفيته و القضاء عليه. يقدم الفيلم سيطرة رأس المال علي مقدرات الجنوب الأمريكي في تلك الفترة و تحكم ثري المدينة في قانون البلدة و انتشار التعصب بين سكان القرية و محاولة فرض قانونهم الخاص و هو إشارة واضحة للعنف الذي كان يسود الولاياتالمتحدةالأمريكية حينئذ وينتهي الفيلم بمصرع السجين الهارب روبرت ريدفورد علي سلالم دار العادلة بيد مهووس مخمور عند محاولة الشريف ترحيله لسجن المقاطعة, الفيلم رسم درامي لأمريكا التعصب المحافظ الذي كان يفرض نفسه بالعنف. [email protected]