الأهرام المسائي تفتح ملفات إصلاح الفكر الديني إيمانا منها بضرورة إعمال العقل وإطلاق الاجتهاد إلي مداه الواسع, دعوة منها إلي وسطية دينية إسلامية ومسيحية, ويقينا منها أن إصلاح الفكر الديني يعد الخطوة الأولي علي طريق المواطنة والحرية والإسهام في الحضارة الإنسانية. أكد الدكتور حنا جريس, الناشط والسياسي البارز ان مصر تعاني من وجود أزمة في الفكر الديني وذلك منذ قرون طويلة لكننا لم نشعر بها إلا عندما طرق بابنا المستعمر الأوروبي القوي, وأنه منذ أوائل القرن التاسع عشر اكتشفنا أن معظم معارفنا القديمة عن الكون المادي وقوانينه وعن حياتنا الجسدية والعقلية, خاطئة أو أسطورية ويري أن أهم ملامح الأزمة هو التردي الأخلاقي الواضح في الوقت الذي تضخم فيه التدين الشكلي إلي درجة غير مسبوقة, وأيضا حالة الغضب الهستيري لكل حادثة اجتماعية مهما كانت صغيرة فإلي نص الحوار.. * هل تعاني مصر من وجود أزمة في الفكر الديني؟ ** حتي يكون الرد منطقيا دعنا نوضح ثلاث نقاط أساسية بشأن قضية الفكر الديني: النقطة الأولي تتعلق بالفكر من حيث كونه عملية عقلية تهدف إلي تكوين رؤية شاملة للحياة باستخدام مجموع المعلومات التي يتحصل عليها الإنسان, فالمعلومات تتحول إلي معرفة والمعرفة تتحول إلي فكر وحكمة. وهدف الفكر في النهاية أن يقدم إطارا معرفيا شاملا لمجمل علاقات الإنسان مع مفردات الحياة, ففي هذا الإطار المعرفي تتحدد علاقة الإنسان بمكنون نفسه وبالكون الذي يعيش فيه, كما يحدد علاقته بالآخرين كأفراد وجماعات كما يرتب علاقته بمؤسسات المجتمع. الفكر إذن هو الساحة العقلية التي يتشكل فيها النسق القيمي والمعايير الأخلاقية. النقطة الثانية هي أن للفكر الإنساني تاريخا تبلورت خلاله مرجعيات كبري في جميع مناطق العالم, وفي منطقتنا كونت الرسالات الدينية السماوية هذه المرجعية الفكرية, ومن ثم فإنه لوقت طويل مضي كان الفكر الديني الإسلامي والمسيحي علي وجه الخصوص هو المنوط به تأسيس هذا العالم الفكري المتناسق لمجمل العلاقات الإنسانية في مجتمعنا. النقطة الثالثة هي أن الفكر الإنساني يتطور, والسر في ذلك أننا نرسم خريطة وعينا بما يتيسر لنا من معلومات ومعارف عن الحياة وبما يتغير في حياتنا الاجتماعية من علاقات, ومن ثم فإن أي فكر يعجز عن تقديم حلول جديدة للمتغيرات الإنسانية التي تستجد بزيادة المعرفة أو تغيير العلاقات الاجتماعية, في أي وقت هو فكر مأزوم, أي فكر في أزمة. كما أن بقاء هذا النوع من الفكر مرهون بقدرته علي ابتكار حلول حقيقية لمشاكل التطور الإنساني. فإذا عدنا لسؤالك, هل هناك أزمة في الفكر الديني في مصر؟ فإن الإجابة تكون, نعم بالتأكيد. * وهل أزمة الفكر الديني هذه قديمة أم حديثة؟ وما هي ملامحها؟ ** أظن أن الأزمة قائمة منذ قرون طويلة لكننا لم نشعر بها إلا عندما طرق بابنا المستعمر الأوروبي القوي, ومنذ أوائل القرن التاسع عشر اكتشفنا أن معظم معارفنا القديمة عن الكون المادي وقوانينه وعن حياتنا الجسدية والعقلية, خاطئة أو أسطورية وعلي الأقل يجانبها بعض الصواب. وعندما قمنا بعملية تحديث المجتمع أخذنا بالتحول إلي فكرة المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلي تغيير كبير في بنية المجتمع, غير أن ذلك لم يصاحبه تطور في الفكر الديني ومن ثم أصبح الفكر في أزمة وأصبح المجتمع في ورطة. وأهم ملامح الأزمة من وجهة نظري هو هذا التردي الأخلاقي الواضح في الوقت الذي تضخم فيه التدين الشكلي إلي درجة غير مسبوقة, وأيضا هذه الحالة من الغضب الهستيري لكل حادثة اجتماعية مهما كانت صغيرة أو تافهة, أيضا من ملامح الأزمة ملاحقة الأعمال الأدبية والفنية والفكرية دينيا. كل هذه ملامح توحي بعجز الفكر الديني( وليس الدين) عن تقديم حلول جديدة وليست تلفيقية أو بلاغية لما جد علي المجتمع من تغييرات جذرية. كما إنها توجه فائض المشاعر الدينية نحو الغضب غير المبرر. وأنا لا أنكر وجود اجتهادات في بعض المجالات إلا أنها حتي الأن تظل اجتهادات فردية لم تلق قبول أهل العلوم الدينية الإسلامية علي الجانب الإسلامي أو رجال الدين علي الجانب المسيحي. * ما هو أثر الصراعات الطائفية في المسيحية علي أزمة الفكر الديني؟ ** أزمة الفكر الديني المسيحي المصري جزء من أزمة الفكر الديني العام, لكن لها بعض الصفات المختلفة, منها علي سبيل المثال أن الفكر المسيحي المصري تحول منذ منتصف القرن الرابع الميلادي إلي الحالة الدفاعية, فهو لاهوت دفاعي يحاول أن يثبت أنه علي الجانب الصحيح من الإيمان في مواجهة من يشككون في ذلك, وقد تصادف دائما أنهم من أهل الحكم. فالفكر المسيحي المصري في حالة دفاع مذهبي أمام المذاهب المسيحية الأخري, كما أنه في حالة دفاع مبدئي أمام الإسلام إذ يحاول أن ينفي عن نفسه تهمة الكفر والشرك بالله. ومن ناحية أخري فإن هذه الضغوط الفكرية والاجتماعية دفعت الشعب إلي أحضان الكنيسة ودفعت الكنيسة إلي الانكماش وتقوية المؤسسة الكنسية علي حساب المواطنة. * هل يعاني الأقباط من تمييز ديني في مصر من وجهة نظرك؟ ** للأسف هناك عدة أشكال من التمييز تجتاح المجتمع المصري, بين الغني والفقير, الرجل والمرأة, الحضري والريفي لكن أخطرها وأكثرها حضورا علي الساحة هو التمييز الديني الذي يعاني منه الأقباط وغيرهم. نعم, صحيح أنه لاتوجد سياسة تمييز ولا قوانين تساعد علي التمييز, بل علي العكس من ذلك فنحن لدينا مواد المواطنة في الدستور وكل قوانيننا فيما أعلم لاتحتوي علي أي نوع من أنواع التمييز بين المواطنين. لكت المشكلة هي أن التمييز يتحرك في المجتمع متجاوزا القوانين, بل ومتجاوزا الرصيد التاريخي من العيش المشترك بين الأقباط والمسلمين. وأنا أخشي أن أقول إن ثقافة التمييز والتقليل من كرامة الآخر الديني وحقوقه أصبحت أكثر تغلغلا في المجتمع المصري مما نتخيل. * ما أسباب تزايد حالة الاحتقان الديني في مصر؟ ** الاحتقان الديني في مصر بدأ منذ أواخر عشرينات القرن الماضي, وأنا أري أنه كان نتيجة لتعثر مشروع الحداثة والدولة الوطنية المستقلة والحديثة في مصر, وبالتأكيد فإن المصالح الأوروبية والاحتلال الانجليزي في مصر كانا من الأسباب الرئيسية لهذا التعثر, لكن أيضا لدينا مشكلة في الفكر السياسي المصري وفي النخبة السياسية المصرية التي تناوبت استخدام الدين في السياسة لتمرير أو تبرير بعض السياسات أو لحشد العاطفة الدينية في بعض القضايا. غير أن التحول الدراماتيكي الذي أحدثه الرئيس الراحل السادات في السبعينيات من هذا القرن أدي إلي حضور أقوي لفكر ديني غير مؤهل لتطوير المجتمع علي الجانبين المسيحي والإسلامي, ومن ثم انجز هذا الفكر ما يستطيعه وهو الاهتمام بالمظاهر الدينية والدفع نحو اعتبار الآخر الديني خطرا يتهدده فكان أن زاد الاحتقان الديني بصورة غير مسبوقة. * وهل الصحافة الخاصة تضيف دورا في زيادة التوتر الديني؟ الصحافة والإعلام بصفة عامة مرآة للمجتمع الذي يصدرون عنه, فإن كان هناك ضعف في الفكر بصفة عامة وتراجع للذوق العام وانتشار للسلوكيات السلبية ستجدها كلها في البيئة الصحفية والإعلامية, وستراها مجسدة فيما تنشره هذه الميديا. فعلي سبيل المثال فإن المسئولية الأدبية والمعايير المهنية الصحفية والاعلامية التي لايمكن أن يفرضها قانون, غير متوافرة بالشكل الكافي في جميع أنواع الميديا المصرية. وعلي الرغم من كل هذا فإن الصحافة المصرية من أقل أدوات الميديا التي تزيد من الاحتقان الطائفي. وذلك قياسا للدور السلبي لهذه المكلمات الدينية, التي لا نهاية لها في الفضائيات الدينية المسيحية والإسلامية. * كيف يمكن حل أزمة الفكر الديني؟ وكيف يمكن تطوير الفكر الديني وخطابه؟ ** الطريق لتجاوز أزمة الفكر الديني الحالية يبدأ بالاعتراف بوجودها, فعلي حد علمي وفي ضوء ما أقرأه وأسمعه وأراه فإن رجال الدين والمفكرين الدينيين لايقرون بوجود مثل هذه الأزمة, بل ان هناك توجها نحو اتهام الآخرين بالتآمر علي الأديان بافتعال هذه الأزمة. المشكلة عندي أن هناك من لايستطيع حتي الآن أن يعترف بمسئوليته في الوضع المتهاوي والضعيف الذي نحن فيه, ففي العشرين سنة الأخيرة لايكف الجميع عن الصياح والمظاهرات كلما جدت علينا محنة من حرب الخليج الأولي إلي الحرب علي غزة, نفس سيناريو الغضب والانتقام بالعمليات الاستشهادية, ولم يتوقف أحد لحساب النتائج وهل نحن نقوي يوما عن يوم أم أننا أضعفنا أنفسنا بأيدينا. وأنا أري أن الخطوة الأولي علي الطريق هو الإقرار بأن لدينا مشكلة والجرأة بالتوجه نحو الحل. وبرأيي وبوضوح ينبغي أن يكون لدينا الدولة القوية القادرة علي حماية حرية الأفراد خاصة المفكرين المبدعين منهم ولا تتركهم يداسون تحت أقدام الغضب الديني التقليدي كما في حالة الراحل نصر حامد أبوزيد. الغريب أنك تجد الوعي بنقد الذات والسعي نحو التقدم والتعلم من الآخرين متوفرا في أوائل القرن العشرين عما هو عليه الآن, وعلي سبيل المثال أنا أدعوك وقراءك إلي قراءة كتاب الإسلام والعلم والمدنية للإمام محمد عبده لتري موقف المصلح الديني الحقيقي والمفكر الجاد كيف يكون. * هل الثقافة لها دور في حل أزمة الفكر الديني؟ وهل المناهج التعليمية لها دور في تعميق أزمة الفكر الديني؟ ** الثقافة كلمة فضفاضة ربما لا تعيننا علي وضع تصور واضح لما نريد من أدوات للتعامل مع الأزمة. ولذلك فإنني أفضل الحديث عن المؤسسات العلمية والبحثية كالجامعة ومراكز الأبحاث والمؤسسات الدينية كالأزهر والكنيسة القبطية, فبرأيي أن هذه الجهات عليها في البداية أن تدير عدة مشاريع بحثية كل في نطاقه علي أن يكون هدف هذه المشاريع البحث العلمي المحايد والجاد للفكر الديني وأزمة الدولة الحديثة في مصر, وأشدد هنا علي استبعاد المشاعر والانحيازات العاطفية, فنحن في منحدر خطر ينبغي علي من يعتقد في نفسه الفكر والمعرفة أن يدرك أن العقل وليس الوجدان والتقوي هو من سيساعده علي تجاوزه. فإن استطاعت هذه المؤسسات البحثية والعلمية أن تخرج ببرامج توعية وتدريب وتثقيف وما إلي ذلك فلديك الخطوة التالية وهي محاولة زرع المبادئ المناسبة في العملية التعليمية, فهي الباب الأساسي لتغيير المستقبل من خلال ما تزرعه في الأجيال الجديدة. وبالرغم من أنني ممن لايعتقدون في فكرة الهندسة الاجتماعية وتوجيه الجماهير وما إلي ذلك فإنني أظن أننا يجب أن نبدأ بما هو متاح بين أيدينا الذي أعتقد أنه سيطور نفسه إذا ترك له أن ينمو في بيئة حرة مطلقة الحرية. * ماتفسيرك للجوء المصريين إلي رجال الدين في مختلف شئون حياتهم؟ وما تفسيرك لتحالف الحكام مع رجال الدين؟ ** إذا لجأ المصريون إلي رجال الدين في غير الشئون الدينية فهذا خطأ الدولة وليس خطأ رجال الدين أو الناس, فعندما تستقيل الدولة من مهامها ومسئولياتها الاجتماعية فأين يذهب الفرد؟ إما إلي رجال الدين أو إلي المجتمع المدني ممثلا في الجمعيات الأهلية ومعظمها بدورها جمعيات ذات صبغة دينية. أضف إلي ذلك أن هناك حالة من فقدان الثقة بين الناس والدولة وبين الناس والناشطين في المجال العام والأهلي, ومن ثم يتقدم رجل الدين الذي يحوز بعض الثقة من موقعه الديني, كحامل كتاب الله, ليكون المرشد في كل مناحي الحياة. أما من ناحية التحالف فأنا أراه تحالفا ثلاثيا بين الحكام ورجال الأعمال ورجال الدين, وفي ظني أن السر يكمن في المصالح الاقتصادية والاجتماعية المتبادلة بين الثلاثة, وظني أن لهذا التحالف نتائج خطيرة علي المجتمع كونه يعيق تقدم المجتمع لصالح مصلحة الأقلية فيه. * في ظل الأحزاب السياسية, هل تعتقد أن الأزهر وجماعة الاخوان والكنيسة أصبحوا أحزابا سياسية قوية؟ ** منذ سنوات طويلة عبر كثير من المفكرين والباحثين عن غياب الحياة السياسية في الشارع المصري, وأهمية الساحة السياسية أنها تمثل الطريقةالسلمية لإدارة الصراع الاجتماعي داخل مجال عام وطني, ولأن المؤسسات البديلة القادرة علي ملء هذا الفراغ هي المؤسسات الدينية, فإن هذا الغياب يؤدي إلي تحويل المجال العام من حالته الوطنية إلي الحالة الدينية, ويحول الصراع الاجتماعي السياسي إلي صراع ديني. وبالتالي أصبحت المؤسسات الدينية هي الأقوي, بينما انكمشت الكيانات السياسية كلها بما فيها الحزب الحاكم وتحول الجميع عن السياسة الحقيقية وتفرغ لتأمين المصالح الفردية الضيقة. هنا أصبحت الكنيسة هي الملجأ المناسب للأقباط للحصول علي هذه المصالح. وأظن أن الكنيسة تلقت هذا الوضع بارتياح وتسعي إلي تثبيته وتقويته لأنه يضيف قوة للمؤسسة بغض النظر عما يصيب الوطن من ضعف كنتيجة لهذا الدور. وعندي أن المسئولية تقع علي المجتمع ككل, علينا جميعا أن نعيد المجال العام إلي حالته الوطنية وأن نعيد الزخم الحقيقي للحياة السياسية. حوار: حفني وافي