صلت الي مركز فلسطين الطبي فور بلوغي بما حدث, وقفت اشاهدها من خلف الباب الزجاجي لحجرة العناية المركزية, جسدها ممدد فوق السرير, اسلاك وخراطيم كثيرة من البلاستيك خارجة وداخلة الي جسدها الهزيل بابا عينيها قد اغلقا تماما, تلكما العينان الخضراوان كلون الزيتون بعد جمعه, تلكما العينان اللتان لم تغلقا قط, حتي عندما يغلبهما سلطان النوم دون ارادتهما, اراهما مفتوحتين علي اتساعهما, وكثيرا ما طلبت منها في رجاء ان تريح تروس عقلها المتحرك دائما, وان تنام نوما عميقا فجسدها قد صار هزيلا, بعد ان ذاب جمالها, حتي انني في بعض الاحيان اشعر اني قد انجبت ولدا, لقد اشعرتني بحقيقة هذا الامر بعد ان اختفت معالم انوثتها تماما تبتسم في وجهي كعادتها قبل أن تجيبني عن اي سؤال, راحت تقول وهي عاقدة يدها خلف ظهرها تجوب حجرة نومها: ابي.. كيف تطلب مني ان اخذ نصيبي كاملا من النوم والقدس اسير؟! لم اجد بديلا, اغلق باب حجرتها, واتركها وحيدة فكرها, فقد اقترب موعد صلاة الفجر. وعند عودتها من مدرستها القدس الابية تجدني اجلس في انتظارها بعد ان انتهيت من اعداد وجبة الغداء, تقبلني قبلات العودة, اثنتين علي خدي, ومثلهما علي يدي اليمني, تضع كراريسها التي احتضنتها طيلة ذهابها وعودتها من المدرسة, في سعادة راحت تفرغ جيوبها المثقلة بالاحجار, تلك الاحجار التي استطاعت جمعها وهي في طريق عودتها من المدرسة, اجد السعادة كل السعادة تجلس متربعة علي خديها, وهي تحدق في وجوه الاحجار الجالسة من حواليها, تمسك حجرين تضربهما في بعضيهما, ضربتين قويتين, علي الفور تخرج من جوفهما حصوات صغيرة قد ولدت لتوها تمسك الحصوات حديثة الولادة, لواحدة تلو الاخري, وكأفضل صانع اجدها تمرر المقدمة فوق حجر من الجرانيت الصلب, حتي تخرج مقدمة الحصوات في النهاية مدببة كحد السكين, ثم تحدثها في تمن من وقت لاخر: احبابي جنودي الابطال البواسل, عندما تخرجون من نبلتي ارجوكم ان تصيبوا هدفكم تماما مثل كل المرات السابقات, اخرجوا لتدخلوا في رؤوس او أعين اعدائنا, فإذا كنا لا نملك طلقات الرصاص التي نضعها داخل الاسلحة, لكننا قادرون بأمر الله ان نصنع من الاحجار طلقات رصاص فتاكة, تصيب اعداءنا في مقتل, اليس كذلك ايها الابطال...؟! كثيرا ما حاولت ان امنعها من الخروج, بعد ان اغلق الابواب والنوافذ, ورغم انها لم ولن ترفض لي مطلبا, ورغم اني انا الذي اغلقت كل مخارج ومداخل دارنا, الا انني اقوم بفتحها كما اغلقتها, بعد ان اري دموعها وهي تتساقط سريعة ملتهبة علي خديها وهي ترجوني: هذا البلد له حق علينا, وما افعله تجاهه واجب, بل اقل بكثير من كلمة واجب اصرخ في وجهها: ولكني اخشي عليك من ان يخطفك الموت, وانت صغيرة.. صغيرة يا ابنتي علي الموت و.... تضع اصابعها الصغيرة التي ابريت هي الاخري كاحجارها علي فمي وهي تقول: قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا اخجل من نفسي, ومن قوة ايمانها ووطنيتها, علي الفور تجدني اهرب منها, ومن ضعفي, وقلة حيلتي بفتح الابواب علي مصراعيها. لا إله إلا الله تقولها وهي خارجة في همة ونشاط ارد عليها وقلبي ينزف الما وخوفا: محمد رسول الله امسك بالمصحف الشريف بين يدي, منذ اللحظات الاولي لخروجها, اقرأ ما تيسر لي من القران, كي تهدأ انفاسي وخوفي, الشيطان الرجيم ظل متربصا بي حتي اوقعني فريسة سهلة, اغلقت المصحف بعد ان تأكد لي ان لساني يردد الآيات فقط دون وعي او ادراك رحت اجوب المكان, عاقدا يدي خلف ظهري.. توتري وخوفي الشديدان عليها جعلاني اشعل سجائري من وقت لآخر, مستعينا بأكواب من الشاي والقهوة لعلها تهدئ من روعي وقلقي اللذين جعلاني لقمة سهلة مضغها, تماما مثل كل الليالي السابقة.. وجدتني اقف لاحدث صورة وطنية زوجتي رحمها الله: أرأيت يا وطنية ما تفعله معي ابنتنا, لها رأس من حديد, مثلك تماما, لم تترك منك شيئا, سبحان الله العظيم في خلقه, وكأنكما كما يقول المثل فوله وانقسمت لنصفين تري هل تفلح رصاصات الاعداء في اصابتها هذه المرة, حتي تكون جليستك في قبرك..؟!! تري هل ستكتب الايام علي باب بيتي ان اعيش بقية عمري وحيدا..؟! لازوجة ولا اولاد... تطمئنني ابتسامة زوجتي الصافية كاللبن الحليب, اتركها وافتح كل النوافذ التي تطل علي شوارع المدينة, اترقب قدومها في لهفة.. طنون.. احتمالات... خوف... قلق... خيول عربية جامحة راحت تتحرك بشدة داخل صحراء رأسي, لا تهدأ, ولا يهدأ لي بال الا عندما اراها امامي, يتساقط عرقها الذي كاد يغسلها لكثرته, وقلبها الذي كاد يخرج من مكانه من جراء هروبها المتواصل بعد تنفيذ مخططها اليومي, اغلق ما فتحته من أبواب وشبابيك, ادخلها في حضن حضني, تقبل يدي, اقبل رأسها وانا اتمتم بحمد الله وشكره لعودتها سالمة, مبتسمة تقول كما قالت من قبل وهي تلهث: لقد وفقني الله عز وجل في اصابة الكثير من جنود الاحتلال, لقد جعلتهم يلعنون يوم مولدهم, لقد جعلتهم يصرخون دمعا والما, ويشهد علي ذلك ربي, وعلم فلسطين المصغر الذي اجفف به عرقي من وقت لاخر, وبعض الشباب الاحرار الاوفياء لتراب هذا الوطن ورغم خوفي الدائم عليها الا انني سعيد وفخور بان هذه ابنتي, لا.. بل ابنة هذا الوطن. ورغم انشغالها الدائم طيلة النهار في صنع رصاصها الحجري وممارسة نشاطها القتالي كل ليلة, الا انها متفوقة دراسيا, بل والاكثر من هذا انها تخرج الاولي علي مدرستها كل عام, كيف يحدث ذلك..؟! لا ادري. شد حيلك.. قالها الطبيب بعد ان وضع يده علي ظهري, قلت والدموع المخبأة داخل عيني طيلة الايام الماضية تغسل وجهي: اخبرني عن حالتها.. قال وأهداب عينيه تسقط مكان وقوفه: جاءتنا ابنتك غارقة في بحر دمائها, اخرجنا من جسدها ما تيسر لنا اخراجه من طلقات رصاص اخترقت جسدها الواهن, لك ان تتخيل اننا اخرجنا ما يقرب من احدي عشرة طلقة, ولم تتبق غير اثنتين.. اثنتين فقط يصعب علينا اخراجهما, لانهما ملتصقتان تماما بالقلب.. الصمت القاتل راح يلفنا.. خوفه الشديد علي, جعل الطبيب يتوقف عن حديثه, سألته وانا اعرف الاجابة جيدا: ماذا تريد ان تقول ايها الطبيب..؟!! رفع رأسه.. راح يحدق فيها من خلف الزجاج, ثم التفت ناحيتي, وراح يقول في اسي وحزن دفين: اقولها لك بكل صراحة, حتي تدبر احولك, عليك ان تحتسب ابنتك عند الله و... قاطعته بقولي: ماتت.. لا.. ولكنها في طريقها للموت.. نعم في طريقها للموت لا محالة.. الهذا الحد قد عجز الطب والاطباء عن انقاذها من الموت المحقق..؟!! لقد بذلنا اقصي ما في وسعنا لانقاذها, لا تضيع وقتك, اذهب واقم لها مراسم تشييع جثمانها, فما بين اللحظة والاخري ننتظر خروج روحها الي بارئها.. سألته في عجز: اليس هناك سبيل لانقاذها.. رد في أسي وانكسار: لا.. لقد اوشكت النهاية او حتي بصيص امل.. صدقني اذا قلت لك اننا جميعا نعيش علي الامل, وبدون امل مؤكد سوف نموت في بطء شديد, اجعل املك في الله اوله واخره.. صمت برهة ثم عاد يقول بعد ان وضع يده فوق كتفي: اعلم جيدا ان ابنتك شهيدة.. نعم شهيدة الوطن.. ثم قال بعد ان مسح دموعه المتساقطة: بسم الله الرحمن الرحيم ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون صدق الله العظيم.. لاتحزن لموت ابنتك, بل ادع لها بالرحمة والمغفرة, وادع لنا ان نموت في سبيل الوطن. .... انا لله وانا اليه راجعون.. انا لله وانا اليه راجعون, رحت ارددها في همس وانا في طريقي للخروج.. انتظر من فضلك... توقفت, التفت خلفي فوجدته ذات الطبيب, اقبل نحوي وهو مازال يمسح دموعه, ثم قال في فخر: خذ هذه الاشياء وجدناها, داخل جيوب ابنتك, مصحف صغير, وعلم فلسطين, وهذه النبلة.. تركني واسرع بالفرار من امامي, قبل ان ينهار باكيا, فردت العلم ووضعت بداخله المصحف والنبلة, ثم ألقيت عليها نظرة الوداع وانصرفت لأقيم مراسم تشييع الجثمان والعزاء 2 فور وصولي الي البيت, امسكت سماعة الهاتف واسرعت وقلبي يتمزق الما لفراقها بإخبار الاهل والاقارب والاصدقاء, الذين حضروا مسرعين فور سماعهم النبأ الاليم. وطأت اقدامنا انا ومن اراد مرافقتي الباب الرئيسي لمركز فلسطين الطبي .. وقفت امام موظف الاستقبال, وكلما هممت بان اتحدث للموظف باسمها, واننا جئنا لنتسلمها جثة هامدة, وجدتني اتراجع.. تقف الكلمات في حلقي, حتي وجدتني انخرط باكيا, اسرع احد الاصدقاء وضمني الي صدره ورحنا نبكي معا, وتقدم اخر من خلفنا وراح يملي علي الموظف بيانات ابنتي.. هذا الاسم ليس موجودا في الكشف. قالها موظف لاستقبال, ورحنا نحدق فيه جميعا, وجدتني اسال نفسي في صمت: اذا لم يكن اسم ابنتي في الكشف.. اذن اين ذهبوا بها...؟! اين ابنتي.. ؟! اتكون ايادي الاعداء قد وصلت الي هنا لخطفها.. ؟! انتقاما لما فعلته معهم, اسرعت الي الموظف انتشلت من بين يديه الدفتر, ورحت ابحث عن اسم ابنتي بنفسي, لاكتشف عدم وجوده, عدت ابحث عنه مرة ثانية وثالثة وعاشرة, وعندما فشلت توجهت اليه بسؤالي للموظف الذي راح يحدق في وجهي: اذا لم يدون اسم ابنتي في كشف الاموات.. فأين هي اذا..؟! ارجوك اجبني لا تتركني هكذا..؟!! سألني بدوره: متي رأيتها أخر مرة..؟! قلت وانا اموت غيظا منه ومن سؤاله: رأيتها صباح اليوم وهي مازالت داخل حجرة العناية المركزة.. طفت علي صفحات وجه موظف الاستقبال ابتسامة طفيفة, ثم قال: اذهب سوف تجدها كما تركتها.. اسرعنا, فوجدناها ممددة علي سريرها, الابتسامة تملا وجهها, وعيناها الخضراوان تضيئان الحجرة, جلسنا نتأملها من خلف الزجاج لساعات طويلة ونحن ندعو لها اما بالشفاء او... طالبت الاهل والاصدقاء والجيران الذين حضروا معي ان يرحلوا حتي يدبروا حاجاتهم ويرعوا مصالحهم التي عطلت, امتنعوا جميعا في باديء الامر, ولكنهم استجابوا لي بعد ذلك. صارت ابنتي حديث العالم باسره.. وراحت الصحف والمجلات العربية والعالمية تفرد صفحاتها الاولي الاخبارها وصورها.. صارت اخبارها وصورها تبث كل يوم عبر الاقمار العربية بل والاوروبية.. بل ان عميد كلية الطب صار يصطحب طلابه كل يوم, ويشرح لهم حالة ابنتي التي من المفترض ان تكون قد فارقت الحياة منذ شهور طويلة مضت, علي حد قوله, وقول الاطباء من قبله.. بل والاغرب من هذا ان هناك رسائل دكتوراه تناقش الان في جامعاتنا العربية عن صلابة وقوة ابنتي, ورفض جسدها الاستسلام للموت, شهورا طويلة.. طويلة مضت لا اعرف عددها لكثرتها, وانا قابع هنا امام حجرتها اشاهد ابنتي زهرة المدائن وهي تصارع الموت كل لحظة بسلاح الامل. محمود احمد علي محافظة الشرقية