يمتد حوارنا مع الأستاذ سمير مرقص رئيس مجلس أمناء مؤسسة المصري للمواطنة والحوار وعضو لجنة المواطنة بالمجلس الأعلي للثقافة الي عدة مساحات.. أولا محاولته الربط بين الفكر الديني واللحظة التاريخية المنتجة له, وثانيا مسار الفكر الديني في الدولة الحديثة, حيث يرصد أربع مراحل سار فيها الفكر الديني. وثالثا يحاول أن يقرأ اللحظة الراهنة التي يمر بها الفكر الديني من خلال قراءة مقارنة لتجارب عدة للفكر الديني نتجت في سياقات متعددة في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية وأمريكا اللاتينية قام الباحث بدراستها مبكرا وهي حركة مدارس الأحد في مصر1983, تجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية1994, اليمين الديني في أمريكا2000, والصهيونية المسيحية2002, ورابعا يطرح الباحث رؤيته لتجديد الفكر الديني في مصر.. * هل تعاني مصر من وجود أزمة في الفكر الديني ؟ ** بداية لابد من التأكيد علي أن هناك علاقة شرطية وجدلية بين الفكر الديني وبين اللحظة الزمنية التي يتم فيها انتاج هذا الفكر الديني, بمعني أن الفكر الديني هو ابن زمانه, وهنا نفرق بين الدين الموحي به سواء في المسيحية أوالاسلام, وبين الفكر الديني الذي هو نتاج جهد مبذول في التفكير فيما جاء بالنصوص ودراستها بما يوفر إجابات لأسئلة يطرحها الواقع في لحظة زمنية معينة.. وهو مايمكن أن نطلق عليه الاجتهاد الفقهي أو التجديد اللاهوتي.. إنها المحاولة البشرية المبدعة في إعادة قراءة النصوص الدينية في لحظة تاريخية معينة. والحقيقة أن الفكر الديني يتأثر إيجابا أو سلبا باللحظة التاريخية التي ينتج فيها.. أو بحالة المجتمع.. فكلما كان المجتمع يناضل من أجل النهوض ينعكس ذلك ايجابا علي الفكر الديني من حيث أولوية الموضوعات التي يناقشها, وجدية مايطرح والحرص علي إيجاد إجابات مبدعة ومتجددة للتحديات الفكرية المطروحة.. والعكس صحيح, حيث نجد الفكر الديني يميل الي المحافظة ويميل الي الجمود والركود.. * وبالنسبة للفكر الديني المصري, سواء الاسلامي أو المسيحي ؟ ** في هذا السياق يمكن القول ان الفكر الديني في مصر قد مر بأربع مراحل خلال ال200 سنة الماضية وذلك كما يلي: المرحلة التأسيسية وهي اللحظة التي حدث فيها استنفار للفكر الديني وهذه المرحلة بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مع بدء الاحتكاك بالغرب سواء علي المستوي الاسلامي الحضاري.. أو علي مستوي المسيحية مع بدء صراعها مع الارساليات التبشيرية.. وفي هذه المرحلة بدأت المؤسسات الدينية تقوم بعملية إحياء ذاتي تعليمي, أيضا بدأت في إعادة بناء مؤسسي داخلي تجلي في إصلاحات الأزهر علي الجانب الإسلامي.. وفي إعادة تأسيس الإكليركية وتكوين حركة مدارس الأحد في سنة1898. والمرحلة الثانية بدأت مع ثورة1919 وحتي1969 والتي اتسمت بالليبرالية/ التعددية ثم بالراديكالية, حيث كان الفكر الديني معني بدرجة أو أخري بقضايا التحديث والحداثة.. وكان الفكر الديني في هذه المرحلة الممتدة يخوض في مناطق كان لا يخوض فيها من قبل حيث قام بمقاربات عقلية للإيمان وتطرق لقضايا التطور والعلوم التطبيقية الجديدة ويمكن الرجوع لمجلة الكرمة لحبيب جرجس ومجلس مدارس الأحد التي رأس تحريرها نظير جيد( البابا شنودة ثم وليم سليمان قلادة علي التوالي), كما أهتم الفكر الديني بالقضايا المجتمعية مثل قضايا الفقر والمساواة بين الطبقات والتنمية.. * يبدو من كلامك ان إعاقة ما قد حدثت في طريق هذا الفكر الإحيائي ؟ ** هنا نأتي للمرحلة الثالثة ونسميها المرحلة المحافظة للفكر الديني وكانت من1969 الي1979, وهي التي اعتبرت الحداثة عدوها الاول لانها تتلاعب بسنن الله.. ويلاحظ ان هذه المرحلة هي المرحلة التي شهدت قيام الثورة الايرانية واختطاف التيار المحافظ لها كذلك حصار حركة لاهوت التحرير وبزوغ اليمين المسيحي الجديد في امريكا اي غلبة التيارات المحافظة في الفكر الديني.. ونحن لم نكن بمعزل عن هذا السياق.. بدليل التوتر الديني الذي شهدته مصر خلال هذه الفترة.. ثم تأتي المرحلة الرابعة, وهي مرحلة متراوحة , ساهمت الليبرالية الجديدة التي سادت خلال هذه الفترة والي الازمة الاقتصادية الاخيرة في كيفية إيجاد نمط من العلاقات يقوم بتسويغ وتبرير اقتصاد السوق وفي نفس الوقت الحماية الاخلاقية من آثاره, وتسويق ان الفقر تتم معالجته بالاعمال الخيرية. لذا تراوح الفكر الديني بين استعادة كتب التراث دون اجراء معالجات تجديدية لما جاء فيها وفي نفس الوقت لم يستطع الفكر الديني ان يتجدد حيث كانت مهمته تسويغ ما هو قائم او تبريره او احتمال اثاره... لذا غابت المقاربات العقلية للقضايا الايمانية كما توارت المقاربات المجتمعية المعنية بالمساواة وفهم ما طرأ علي البني السياسية والاجتماعية والاقتصادية. * وما الاثار التي تركها الفكر المحافظ؟ ** لقد ركز الفكر المحافظ علي مناهضة الاجهاض, وابحاث الخلايا الجزعية, والهندسة الوراثية, وملاحقة الابداع الفني والادبي.. الخ, وفي مقابل التركيز الشديد علي هذه القضايا لم يلتفت التيار الديني المحافظ الي شراسة سياسات الليبرالية الجديدة وما ترتب عليها من آثار ضارة علي الشرائح الوسطي والدنيا من الجسم الاجتماعي. المفارقة ان القاعدة الاجتماعية للتيار الديني المحافظ, في الاغلب, هي من الشرائح الوسطي والدنيا. اي ان هذا التيار لعب دورا حمائيا لكل ما يتهدد هذه الشرائح من الناحية الاخلاقية وما يمس وحدة الاسرة وتربية اولادها ولكنه لم يهتم بحماية نفس الشرائح التي يستمد منها شرعيته, من تداعيات السياسات النيوليبرالية. * في هذا السياق هل كان للتعليم دور في ازمة الفكر الديني؟ ** طبعا فالتعليم يميل الي الطابع المحافظ القائم علي التلقين اكثر من الجانب الراديكالي والابداعي واصبح التعليم لا يهتم بالبشر وفهم الواقع والسياق الذي يعيشون فيه. وعليه سيكون الاهتمام بالدين في بعده اليقيني الذي لا يعطي مجالا للاجتهاد والتجديد والتأويل. * الفضائيات والاعلام الخاص هل عمقا من أزمة الفكر الديني؟ ** الفضائيات لعبت دورا كبيرا في الازمة بسبب الجانب التجاري فضلا عن انها جسدت حالة الاحتقان الحادثة في الواقع ومالت الي ما اسميته مبكرا الي السجال الديني حيث اعيد توظيف الاختلاف باعتباره خلافا يستعدي القتال والسجال والنزاع فيقوم كل طرف باستدعاء كل ما يبرر له الانقضاض علي الطرف الاخر او ما يمكن ان نطلق عليه نفي الاخر باهماله او انكار وجوده او هدر دمه, ما يعني التدمير. وصارت الفضائيات الدينية تمارس عملية المفاضلة بين الدينيين بدلا من ان تجتهد في تقديم فكر ديني مواكب للعصر وقضاياه المركبة. انه تأسيس للخلاف واعلان حرب في واقع الامر والذي يعني الانتصار ل نفي الاخر علي فكرة الحياة المشتركة . * يبدو ان لجوء المصريين إلي رجال الدين في مختلف شئون حياتهم يتعلق بذلك؟ ** من الاهمية بمكان معرفة انه من اهم الظواهر التي ميزت الثلث الاخير من القرن العشرين الحضور الفاعل للدين في المجال العام. فالدين لم يقف عند حد العلاقة الخاصة بين الانسان وربه في اطار ما يعرف بالمجال الخاص, وانما امتد ليتشابك مع حركة الانسان في المجال العام اي فيما يتعلق بالمدني والسياسي والاقتصادي وبطبيعة الحال الاجتماعي. وذلك لاعتبارات تتعلق بتأزم الواقع امام الشرائح الاجتماعية الوسطي والدنيا, في بعض الحالات, من جانب, وبالصراع الثقافي في البلدان المتقدمة بين التيارات الليبرالية والراديكالية والمحافظة من جانب ثان, ولاسباب تتعلق بالتنافس بين النخب السياسية في بعض الحالات, من جانب ثالث. بيد انه في كل الحالات نجد الدين قد بات حاضرا في المجال العام بدرجة او اخري. ونتج عن ذلك ان صار الدين, وبالنسبة للافراد, طرفا في النزاعات اليومية للمجال العام بابعاده المختلفة. وتشكل حركات سياسية واجتماعية وثقافية ذات مرجعية دينية في كل بقاع الارض. وعندما تتداخل المساحات والادوار تختلط الامور ويجيب الدين بالنيابة عن العلم والطب والهندسة وتموت العلوم الانسانية ولا تتم الاستفادة من مناهجها المعاصرة في تطوير الفكر الديني. * كيف يمكن تطوير الفكر الديني وخطابه؟ ** لا يمكن ان يتطور الفكر الديني وخطابه الا بعدة امورمنها ان يدخل الفكر الديني في عملية جدلية مع واقع الانسان المعاصر باشكالياته التي يواجهها مثل الفقر والظواهر المجتمعية الجديدة.. وعليه فإنه يجتهد بابداع فكر ديني يتعلق بتمكين الانسان, وقبول الاخر, واعلاء من قيمة الانسان باعتباره خليفة الله في الأرض والمكلف بإعمارها وحمايتها من الفساد والإفساد. ولابد أيضا من المصالحة مع الحداثة. هل تقصد بذلك أن ممارسة الدين أصبحت شكلية؟ ليس من المعقول أن يشغل الدين بالقضايا الشكلية سواء كان ذلك في الإسلام أو المسيحية, فمثلا من القضايا التي يجب أن تأتي علي رأس قائمة الاهتمام لفت النظر إلي مساوئ السياسات النيوليبرالية ومواجهة الفقر والأفكار التي تبرره باعتباره مسألة قدرية ومن ثم علي الفقراء الاستسلام له, والقبول بالحلول الخيرية. وأن تقدم تفسيرات عملية لأسباب الفقر وكيفية الخروج منه وتمكين الناس انطلاقا من أن الله قد منح الجميع قدرات, وعليه يجب أن تتوافر أمامهم الفرص المتساوية لإطلاق قدراته. لماذا يستخدم رجال الدين في خطاباتهم الدينية لغة الأمر والجبرية؟ يتمسك بعض رجال الدين في خطاباتهم الدينية بلغة الأمر, لأن هذه هي سمة الخطاب المحافظ والذي يتصور أنه وصي علي المؤمنين باعتبارهم غير ناضجين كفاية.. بيد أنه يجب أن تتعدد الخطابات الدينية حتي تتناسب مع الاختيارات الإنسانية المتنوعة وخاصة مع اختلاف الأجيال الجديدة والتي تتسم بتكوين ثقافي مغاير تماما. * ما تفسيرك لتحالف الحكام مع رجال الدين؟ ** لأن الحكم الاستبدادي في حاجة إلي ما يدعم موقفه, والدين أحد العوامل الداعمة للحكم الاستبدادي, ونستطيع أن نري ذلك علي مر التاريخ والحكم الاستبدادي يستغل الدين لتحقيق شرعية له والسيطرة علي الناس... كما لابد من الإشارة أيضا إلي تحالف الثروة والدين الذي لا يقل خطورة عن السلطة والدين. وماذا عن جماعة الإخوان المسلمين باعتبارهم جماعة سياسية ذات توجه ديني في دولة من المسلمين والأقباط؟ عندما بدأت الجماعة في المشاركة في الحياة السياسية المصرية كانت العبارة الوحيدة التي تكتفي بإعلانها فيما يتعلق بالأقباط هي( لهم ما لنا وعليهم ما علينا) دون الدخول في التفاصيل التي تترتب علي هذه العبارة. والمشكلة في تحول العمل العام السياسي والاجتماعي إلي عمل ديني ليصبح بموجبه التنافس في هذا المجال أو الشأن بين إسلام ولا إسلام, بين مسلمين وغير مسلمين وليس بين تيارات وتوجهات وأفكار متنوعة قابلة للاختلاف, فرفع شعار الإسلام هو الحل جعل من مجال مدني الطابع أن يصبح دينيا, ويجعل التنافس السياسي والمدني تنافسا مع مطلق. وهو ما يحمل ضمنا إعادة تقسيم المجال العام علي أساس ديني ومن ثم يصبح الأقباط بالنتيجة كتلة دينية طائفية. إن إضفاء المقدس أو الديني علي الشأن العام كبديل للسياسي والمدني يمثل إشكالية لابد من التعامل معها: إشكالية الديني والمدني وحدود كل منهما.