لن أقتنع بعزم مصر علي الإصلاح إلا بمحاكمة أباطرة الفساد السياسي; إذ يبدو أنه محصن ضد القانون, وضد المساءلة; بدليل أن مصر تقوم بثورة تلو الأخري وتحتج وتعتصم وتضرب, وبدلا من نسف هذا الفساد نجده يتشكل ويغير ملامحه ويزيد انتشاره مع كل نظام جديد. المؤسف أن نوعية الفساد السياسي التي استوطنت في مصر وتحولت إلي مرض مزمن علي أرضها من النوع كثيف النمو, متعدد الطفرات, ويتمتع بقدرة عجيبة علي تبديل خلاياه في كل أنواع التربة السياسية, ومن فرط قوة رجاله بات يمتلك مقاومة بلا حدود في وجه القانون والملاحقة ليس لأنه كائن زئبقي ولكن لأنه لا يخشي أحدا ويمتلك مفتاح السر الذي يمنحه القدرة علي ارتداء ما يشاء من أدوات للحماية, بعضها يكون من السلطة التنفيذية, والآخر من القضاء, والثالث من الشرطة, ورابعها يكون من الأجهزة الرقابية, وخامسها من جيوش المشهلاتية ووسطاء المنكر. ولنا أن نتذكر أن ثورة25 يناير رفعت بين أهم أهدافها محاربة الفساد وما كان يطال المصريين جراءه من ذل وإهانة وعدم تكافؤ الفرص,وليس نهب أكثر من ألف مليار جنيه فقط, وبمجرد سقوط مبارك خرجت علينا تقارير بكشف أكثر من40 ألف قضية فساد لرموز دولته تم التعامل الديكوري معها بصورة عمقت الفساد السياسي; فقد جرت وقائع مدبرة ومخططة لتشويه ميدان التحرير وميادين الحرية وقصف رقاب المطالبين بمحاربة الفساد بصورة أسرع من محاكمات من وجهت لهم تهمه, بل إن الفساد السياسي تواري قليلا لالتقاط نفس عميق ليعود مجددا للملاعب بفضل ما يتمتع به من قدرة علي انتاج نفسه من جديد, وكأن صيحات المصريين في ال18 يوما من الثورة تم التعامل معها بطريقة انتقائية وانتقامية قامت بحماية الفساد السياسي وأعادت تسمين رجاله من جديد ومنحتهم قدرات عجيبة للتعامل مع الوجوه الجديدة في الحكم. فالمصريون ثاروا علي فساد بيت الرئيس والحكومات والوزراء والمحافظين وحصانة البرلمانيين المزورة في انتخابات2010 للشوري والشعب وباقي عموم الانتخابات في مصر وكان وراء ذلك من فسد سياسيا وحرك أذرع انتشاره وعدواه لتوطين الفساد في كل مجال, وللأسف لم نسمع عن محاكمة شخص بتهمته رغم أن كل صور الفساد في مصر كانت بمظلة السياسة وأفعالها الفاضحة التي تحولت أيضا إلي أداة للإفساد; فالوزير يدير شركته ومستشفاه ومكتبه, ورئيس الوزارة مستشار لرجل أعمال خليجي, والقضاة يعملون بالوزارات في زواج غير شرعي بين سلطتين تراقب إحداهما الأخري, ومسئولو الأجهزة الرقابية يحصلون علي مرتبات ومكافآت باهظة من الوزارات التي يراقبونها, بل ويعقدون مؤتمرات صحفية للدفاع عن تلك الوزارات, وحينما حان وقت المحاكمة حوكم وزير علي مليوني جنيه وآخر علي وساطة غير بريئة وثالث علي شقة دون وجه حق وآخر علي بضع جنيهات من الذهب وآخر علي تسهيل بيع أراض, وبرلماني علي شقة وتصالح آخرون في نهب أراض لشباب الخريجين, وجرت أكبر عملية من التغفيل السياسي للمصريين حينما كان المجلس العسكري مفوضا بإدارة شئون البلاد, ولم يقترب أحد من هذا الفساد باستثناء تنفيذ حكم بحل شكلي للحزب الوطني وعودة مقاره المنهوبة إلي الدولة والتفكير ثم التراجع في تطبيق العزل السياسي. وكنت أظن أنه بمجرد وصول الإخوان إلي الحكم سوف ينسفون جمهورية الفساد بما فيها الفساد السياسي; فكم قالوا إنهم تحملوا فاتورته ولكني صدمت بمهرجان البراءة في المحاكم وأوكازيون المصالحة السرية خارجها بل اتخذ الفساد السياسي طابعا جديدا في حماية الأهل والعشيرة الذين لم يختلفوا عن رموز دولة مبارك, وما بينهما نواب سابقون في البرلمان, ومتاجرون بالمعارضة, ولاعبون بالبيضة والحجر السياسي ضد الشعب لصالح مصالحهم مع الجماعة ومرشدها بعد أن فسدوا وأفسدوا وقبلوا اللعب غير النظيف بمجلس الشعب فالشوري وسلق الدستور والقوانين, واستمر جني ثمار هذا الفساد في الحصول علي أراض وعقد صفقات مع شيطان السياسة الذي تغيرت ملامحه بعد أن أطلق لحيته وأمسك بسبحة يعد عليها ضحايا عملياته القذرة في مصر. ويبدو أن الفساد السياسي يريد ألا يوقف انتشاره في مصر ما بعد ثورة30 يونيو مع اختلافات طفيفة وهي عودة الوجوه إلي سابق عهدها من التبجح والغش والتلون بحثا عن صفقة برلمانية قادمة أو مصلحة سياسية مع بداية الانطلاق في خارطة الطريق, ويكفي أن تتعمق في ملامح من يطبلون ويزغردون ويحملون مباخر الترشح للانتخابات الرئاسية وسوف تتذكرها دون جهد فقد هلل بعضها لمبارك وتحالف بعضها الآخر مع الإخوان مع تغييرات بسيطة في الشكل وبقاء المضمون الذي يعتمد علي نية ثابتة وهي إحياء ذكري الفساد السياسي. لهذا, أريد ممن يعتزم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة أن يضمن برنامجه آليات قوية وحادة لنسف دولة الفساد السياسي, رغم أن الفساد كمفهوم عام يعتمد علي سوء استغلال سلطة المال وسلطة السياسة أيضا, كما حدث في عهود مبارك والمجلس العسكري والإخوان ويحدث مع السلطة الحالية, وبالتالي فإن الفساد سيظل جزءا من كل شوكة في صبار سياسي مر, وسم في نهر للسياسة عديم الجريان, وكسرة خبز يحيطها عفن النفاق وتعفن التلون لن يقربها إلا مدمنو المكر السياسي المدربون علي الاقتراب من مملكته دون ألم من شوك ولا تضرر من سم ولا تأثر من ميكروب. نريد رئيسا لا يعترف بشرعية العمولات والصفقات وله إرادة سياسية قادرة علي وقف قدرات الذين يقتربون منه بسلم السياسة فينهبون ثروات الوطن دون حق, وينشرون عدوي المحسوبية والوساطة وعدم تكافؤ الفرص, ويتاجرون بعيش الفقراء وآلام البسطاء ومذلة الفقراء, ويتلاعبون بالعدل والعدالة, وينسفون ما لاح في الأفق من حرية للوطن والمواطن.