مصر عندها انتفاخة شبابية كبيرة, وهي ليست بالضرورة انتفاخة سلبية, بل يمكن أن تكون حميدة. فالدولة التي يكون ربع سكانها شبابا في المرحلة العمرية من18 إلي29 عاما أمامها خياران لا ثالث لهما فهي إما سينوء كاهلها باحتياجاتهم فتغرق بهم, أو ستستثمر فيهم بكل ما لديها من إرادة سياسية وقدرة علي التخطيط فترتقي بهم ولهم. مثلث سوء التعليم والفقر والبطالة يحيط بالشباب المصري منذ سنوات طويلة, ولن نرتقي إلا بالتغلب علي فشل نظام التعليم, وكسر دائرة الفقر, وخلق وظائف. تقرير التنمية البشرية لمصر لعام2010 سلط الضوء علي ما يعرفه عن ظهر قلب كل مواطن مصري, لكنه علي ما يبدو يتجاهله, إما لأنه فقد الأمل في إصلاح الأوضاع, أو لانه منشغل بمشكلاته اليومية العادية من رغيف العيش إلي المواصلات إلي السكن إلي آخر القائمة, أو لأنه قليل الحيلة وأن الشكوي لغير الله مذلة. التقرير الصادر عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي بالتعاون مع معهد التخطيط القومي والصادر قبل أيام يحتم علي كل من يهتم بهذا الشأن أو لديه بقايا من نزعة وطنية أن يفعل ما جاء فيه. والمطلوب بمنتهي البساطة يمكن أن يتم تلخيصه في نقاط محددة. فشل التعليم أولا علينا أن نتغلب علي فشل نظام التعليم. ورغم أن أصوات الخبراء بحت من كثرة المطالبة بالربط بين محتوي التعليم ومتطلبات سوق العمل, ورغم آلاف التحذيرات من الهوة العميقة التي تفصل بين نظام تعليم لا يمت للواقع بصلة وسوق عمل تبحث عن مواصفات لا تمت بصلة كذلك إلي نظام التعليم, إلا أن خطوات الربط بينهما شبه غائبة. التقرير يطالب بإعادة النظر في التوازن في دراسة المواد التعليمية المختلفة, بالإضافة إلي المهارات التي يكتسبها الطالب أثناء الدراسة, أو بالأحري التي لا يكتسبها. أما مشكلة التعليم الفني المزمنة, فمطلوب مراجعة شاملة للمناهج. والمؤسف بحق أن نتحدث في مصر في الألفية الثالثة عن أمية وتسرب من المدارس بين الشباب, ولكن هذا هو الواقع الذي يتوجب علينا مواجهته. ويكفي أن80 في المئة من الأمية والتسرب المبكر من التعليم يعود إلي أسباب تتعلق بالفقر والتمييز ضد الفتيات. إن22 في المائة من سكان مصر في سن الدراسة, أي في المرحلة العمرية بين ستة و17 عاما, بالإضافة إلي ثلث الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين18 و22سنة في التعليم العالي, وهو ما يمثل عبئا كبيرا علي منظومة التعليم بأكملها. التقرير رصد تدهورا ملحوظا في جودة التعليم العالي خلال العقود الثلاثة الأخيرة, وهو ما تجلي في عدم المواءمة بين احتياجات سوق العمل والزيادة المستمرة في عرض الخريجين. كما أن ازدحام الجامعات بالطلاب, وضعف التسهيلات المتاحة, والعدد المحدود من أعضاء هيئة التدريس المثقلين بأعباء العمل كلها عوامل ساعدت علي زيادة هذا التدهور. أمية وتسرب ورغم اعتراف التقرير بأن مصر قد خطت خطوات واسعة نحو التحاق جميع التلاميذ الملزمين بالتعليم الأساسي, إلا أن27 في المئة من الشباب في الفئة العمرية من18 إلي29 عاما لم يستكملوا تعليمهم الأساسي. الضلع الثاني من المثلث الكارثي الذي يحيط بالشباب هو الفقر وهو العامل المشترك في الغالبية العظمي من العوامل المسببة لمشكلات الشباب. فهناك تفاعل متبادل بين الفقر وأسبابه, لا سيما تدني جودة التعليم والمهارات, وعدم توافر وظائف مناسبة. والفقر في مصر متوارث يأخذه الأبناء رغما عنهم من الآباء والأجداد. يقول أحد الشباب ممن شاركوا في مجموعات النقاش التي أقيمت علي هامش إعداد التقرير أجدادي هم المسئولون. فهم لم يرسلوا أبناءهم للمدرسة, وهو ما أدي إلي امتداد الفقر إلي أبنائهم. سيناريو الفقر سيناريو الفقر بسيط ومعروف. أسرة عائلها أمي, ولا يمتلك أصولا منتجة. أطفاله يعانون علي الإرجح من سوء التغذية نتيجة جهل الأبوين أكثر من عدم قدرتهما علي توفير الغذاء السليم. وبالتالي يصبح أولئك الأطفال أكثر عرضة للإصابة بالأمراض والتي تؤثر سلبا علي قدراتهم الجسمية. وهم لا يلتحقون بالمدارس, وإن التحقوا بها تسربوا بعد فترة وجيزة وذلك ليتمكنوا من الالتحاق بسوق العمل, والذي عادة يكون في ظل ظروف سيئة. ويدخل أولئك الأطفال مرحلة المراهقة والشباب بمهارات وقدرات ضعيفة للغاية. وتكتمل الحلقة وتصبح محكمة تماما حين يبدأون في تكون اسرة من خلال الارتباط بزوجة تعيش في ظروف اقتصادية وتعليمية واجتماعية مماثلة, وهكذا, وتزداد دائرة الفقر استدارة وإحكاما. وسواء أغضبت السطور التالية البعض أم لا, فإنه يتحتم علينا الإنصات لها جيدا, فالتقرير يؤكد أن فقراء مصر تعرضوا علي مر سنوات كثيرة للتهميش وحرموا من أغلب حقوقهم التي كان يمكن أن تخرجهم من حلقة الفقر المفرغة. والواقع أن مصر مازالت متأخرة عن البلدان متوسطة الدخل في النهوض بالمستويات الأساسية للصحة والتغذية والتعليم لمعظم الفئات الأكثر تأثرا بالفقر, أي الأطفال والشباب. توريث الفقر تحليل التقرير لفقر الشباب خرج بعدد من النقاط الجديرة بالاهتمام. فأطفال الفقراء هم أكثر الفئات التي يتوقع أن تظهر عليها كل أعراض الفقر. وقليلون جدا هم الشباب الذين ينجحون في الإفلات من خلفياتهم الفقيرة. كما أن استهداف الفقر في اماكن تركزه يبدو الحل الأمثل. فالفقر المصري يتركز بشكل واضح في أربع محافظات في الوجه القبلي, وهو ما يعني أنه يسهل تطويقه وعلاجه. أما العشوائيات فهي مرض معروفة أعراضه وكذلك سبل علاجه. فالمناطق العشوائية والأحياء الفقيرة هي التي تولد السلوكيات الخطيرة. والشباب الذي يسكن العشوائيات لا يتحتاج فقط إلي مساعدات تخرجه من الفقر, ولكنه كذلك قادر علي المساهمة في تحقيق رفاهة المجتمع الذي يعيشون فيه. وما زالت الوظيفة الحكومية هي حلم الغالبية من الفقراء, وهو ما يستوجب مجهودا مضاعفا من الحكومة ليس لتشغيل الشباب في قطاعاتها المختلفة, ولكن لتغيير الثقافة السائدة في هذا الشأن ودعم القطاع الخاص لاستيعاب أكبر عدد ممكن منهم, ولكن بعد إصلاح نظام التعليم الذي يعد وحده القادر علي تزويد أولئك الشباب بالمهارات والتعليم المطلوب. كارثة البطالة كل هذا يؤدي إلي كارثة البطالة. وأعلي معدل للبطالة يكون بين الذين يبحثون عن عمل للمرة الأولي, نظرا لأن التعليم لم يزود كثيرين منهم بالمهارات المطلوبة في سوق العمل, ولا بالمهارات المطلوبة في القطاع الخاص. وتبدو مستويات البطالة واضحة بشكل خاص بين خريجي الجامعات والتعليم الفني. والشابات هن الأكثر تأثرا بالبطالة, فقد بلغت نسبة مشاركتهن في سوق العمل أقل من20 في المئة. وهذه الفئة بأكملها من الإناث المتعلمات, إما خرجن من سوق العمل أو لم تدخله أصلا بسبب ظروف العمل السيئة, بما في ذلك انخفاض الأجور وطول ساعات العمل. ولا يمكن التطرق إلي الشباب دون الإشارة إلي المشاركة الشبابية التي تعاني الكثير من العقبات والعوائق. السؤال الأول الذي طرحه التقرير هو لماذا فشلت مراكز الشباب ومنظمات المجتمع المدني والعمل التطوعي في أن تجذب الشباب إليها؟ وتتوالي سلسلة من الأسئلة التي يدور جميعها حول أسباب فشل مشاركة الشباب. ليس هذا فقط, بل هناك مشكلة حقيقية في مشاركة الشباب السياسية. ويجوب التقرير في أرجاء هذه القضية, بدءا بمنهج التربية القومية الذي يخصص جانبا لا بأس به لدراسة ثورة يوليو1952, ولكن دون تقييم موضوعي, ودون أي ذكر عن الأحزاب السياسية الحالية ودورها في تحقيق الديموقراطية أو حقوق المواطنين أو واجباتهم. سلبية مبررة من جهة أخري, فإن السلبية السياسية الشديدة لدي الشباب يعود جزء كبير منها إلي اقتناعهم بأن صوتهم لا جدوي منه. فهم علي يقين بأنه يتم التلاعب في أصواتهم الانتخابية, سواء كانت في الاتحادات الطلابية أو علي المستوي السياسي. كما يشير التقرير إلي' التحرش الخفي' و'أحيانا الصريح' بطلاب الجامعات من قبل قوات الأمن إذا ثبت انخراطهم في أنشطة داخل الجامعة يتم تصنيفها علي أنها سياسية أو لا تتسق وفكر الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. وكثيرا ما ينصح الآباء الأبناء بعدم المشاركة السياسة أو حتي التفكير في شئون السياسة كنوع من الحماية لهم ومنعا لنشوء مشكلات مع الجهاز الأمني. ويري التقرير أن الحظر الذي تفرضه التشريعات المختلفة, وقانون الطوارئ وسياسة الإعلام القومي كلها أتت بآثار سلبية علي الشباب. كما يري أن محتوي البرامج والإعلانات ترسل رسالة واحدة للشباب في أغلب الأحوال, وهي أن الترفيه أهم من كل شئ آخر. وبدلا من الدعوة إلي إصدار المزيد من الصحف التي تتناول موضوعات يمكن إدراجها كمسكنات للشباب, أو تطوير المواقع الإلكترونية التي تتناول قضايا محددة مسبقا عن الشباب, ينبغي مناقشة العقبات الحقيقية التي تعترض حرية الشباب في التعبير. لا للآخر مشكلة أخري لا تقل أهمية عن مشكلات تدهور التعليم هي مشكلة الثقافة لدي الشباب, ولعلها هي الأخري عرض عكسي لتدهور التعليم. فالتقرير يرصد شواهد عدة لتراجع التسامح واحترام الآخرين, سواء تجاه من لهم انتماءات دينية مختلفة أو من الجنس الآخر. وتشير تلك الشواهد إلي أن قيم وتوجهات المعلمين والمحتوي المحدود للمناهج الدراسية مسؤولة جزئيا عن هذا التدهور. والتركيز علي المواد التعليمية الليبرالية والموسيقي والمسرح والفنون من شأنها أن تنمي الفكر الخلاق والقدرات الابتكارية البعيدة عن التعصب. والحقيقة أن هذا التقرير يعد ودون مبالغة تلخيص بمشكلات مصر الحقيقية, وقراءة سريعة لما ورد فيه كفيلة بأن تشخص الحالة وتطرح الحلول المطروحة لعلاجها. تسع نقاط علاجية يمكن أن تكون بداية الحل الحقيقي لمشكلات الشباب والتي في إمكانها أن تساعد علي تحقيق طموحاتهم وتعزز مشاركتهم وتمكنهم من خدمة بلدهم. النقاط التسع هي: التغلب علي فشل بنظام التعليم, كسر دائرة الفقر, حلق وظائف آمنة ومجزية, التركيز علي الثقافة, القضاء علي التمييز المرتبط بالنوع, متابعة التقدم نحو تحقيق رفاه الشباب, تعزيز مشاركتهم لتحسين الأداء الحكومي سواء من خلال نظام الأجر مقابل الأداء أو استخدام نظام الحكومة الإلكترونية لمكافحة الفساد, دعم وتنظيم عمليات الهجرة الشرعية المنظمة مسبقا, وتوفير الأصول الرأسمالية المادية للشباب. مرة أخري, مصر لديها انتفاخة شبابية, لكن في إمكانها تحويلها إلي عنصر تنمية وتقدم كما في إمكانها كذلك تحويلها إلي عنصر هدم وضعف. لدينا مشكلة, ونعرف أعراضها وأسبابها ونعرف كذلك سبل حلها. ما الذي يمنعنا عن حلها هو السؤال الذي ربما يحتاج إلي سلسلة من التقارير.