ما يحدث وما يجري الآن في مصر من حالة اللغط والتضارب الذي قد يري البعض أنه يعد أمر طبيعي في مرحلة ما بعد الثورات والتي تشكل بعد الاتجاهات وتحدد المسارات.. ولكن الأمر لابد وأن ينظر اليه من منظور موضوعي في ظل مجمل الظروف والمتغيرات المحيطة بنا بعد ما يقرب من ثلاث سنوات.. كما أن علينا ونحن بصدد تقييم ذلك الموقف أن نؤكد علي شيء مهم وهو الخصوصية' لكل تجربة' وأن مصر كدولة وكشعب وحضارة وكمجتمع لها خصائصها التي لابد وأن تصبغ تجربتها.. كما أننا علينا أن ندرك أن هناك متغيرات أخري خارجية لابد وأن تأخذ في الاعتبار عند التعاطي مع ذلك الموقف الذي يثير الحيرة والمخاوف ويضع مصر كدولة علي المحك.. ومن المؤكد أن هناك استحقاقات ثورية تولدت نتيجة ثورة25 يناير وثورة يونيو والتي يلخصها ذلك الشعار الذي رفع خلال الثورتين وهو عيش حرية عدالة اجتماعية.. أي أن استحقاقات هذه الثورات تتمثل في تحسين الحالة الاقتصادية للمواطنين من خلال اعادة توزيع الناتج القومي وعوائد التنمية الاقتصادية والحد من البطالة والفقر بما يوفر حياة كريمة للمواطنين بعيدا عن الحاجة والعوز ويوفر له احتياجاته اليومية أو ما يطلق عليه في علم الاقتصاد بالاحتياجات الأساسيةprimitiveneeds والتي تتكفل بها الدولة وهي المأوي والملبس والمأكل.. وقد رأينا أنه قبل الثورة قد تدهورت الأوضاع الاقتصادية لدي قطاع عريض من الشعب وانتشرت البطالة علي نحو كبير ولاسيما ما بين قطاع الشباب من المتعلمين وحاملي المؤهلات وقد زاد معدل الفقر وارتفع معدل التضخم وتقلص الهرم الاجتماعي في نقطة صغيرة تقع أعلي ذلك الهرم تملك كل شئ وتستحوذ علي معظم الناتج القومي وعوائد التنمية وطبقة عريضة هي قاعدة الهرم من المهمشين والفقراء وقد اختفت تماما الطبقة الوسطي.. وقد كان الدافع الاقتصادي أحد الأسباب والمبررات لقيام الثورة.. أما الاستحقاق الثاني لثورتي يناير ويونيو كان هو تحقيق الديموقراطيية وتوسيع رقعة ممارسة الحقوق السياسية والقضاء علي كل صور التمييز وحق التعبير عن الرأي ومنها حق التظاهر والاحتجاج دون قمع وأن تصبح حقا لكل المواطنين لأنها ثمار جهد وعرق ودماء وتضحيات.. ولكن علينا أيضا أن نؤكد علي مجموعة من الحقائق الأخري التي جاءت بعد الثورة وصارت معطيات هي أن هذه الثورات قد قام بها الشباب من أجل تحقيق عدة أهداف لم تكن معلنة من قبل وقد اشتركت فيها بعد ذلك العديد من القوي السياسية والتي أمتطت الموجة وقامت بقيادة ذلك المد الثوري لتحقيق أهداف سياسية خاصة وتنفيذ أجندات لم يكن من بينها بالتأكيد مصلحة من قاموا بهذه الثورة.. وأن القوة التي كانت أكثر تنظيما هي التي استطاعت أن تأتي الي الحكم وقد وظفت واستغلت كل ما لديها وما هو موجود من ثغرات وسلبيات وتمكنوا من الوصول الي سدة الحكم.. ولكن سرعان ما سقط القناع وأدرك الشعب أنه ذاهب في طريق الهلاك وأنه قد وقع في شراك خداعي أكتسي بالدين. وخرج وثار مرة أخري مفوضا مؤسسته الوطنية وهي الجيش لكي ما يخلصه من ذلك الطاغوت وهو ما حدث بالفعل.. ولكن الأمور لم تنته عند ذلك الحد اذ شنت هذه القوي السياسية حربا ضروسا وارهابا أسود راح ضحيته العشرات وحرقت ونهبت وذبحت واستباحت الحدود وموارد ذلك الشعب وأمواله قبل دمائه وعرضت أرضه في مزاد المصالح الدولية لكي ما تغتنم ما تريد وتحقق ما كانت تحلم به.. ورأينا أن البلد قد اصبح في حالة من الفوضوية وأن هناك خارطة طريق قد توافقت عليها هذه القوي السياسية التي تخرج الآن عن الاجماع وتحاول أن تقلب الموائد مرة أخري بادعاء هو في ظاهره حق ولكن في باطنه يراد به باطل.. وقد كان موقفها بمثابة نوع الأحجية الذي يعرض وطن بأكمله ودولة ذات حضارة وشعب قد عاني الأمرين من حكم الاخوان ومازال يعاني ويبحث عن طريق الخلاص والأمن والحماية واستعادة وطنه والدفء الذي كان يعيش فيه وأن يتطلع نحو ما هو أفضل من سبل الحياة وبين عودة ذلك الكابوس مرة أخري وقد يكون علي نحو أشد وأنكي.. ولاسيما وأن البلاد قد أصبحت الآن في مواجهة معركة شرسة مع هذه القوي السياسية التي نزعت من الحكم والتي لديها اصرار كامل علي استعادة ما كان لها وتحقيق أحلامها أو علي الأقل حرق البلد بما عليها وذلك لخدمة مصالح قوي دولية نعلمها جميعا.. من الأمور الأخري المهمة التي لابد وأن ندخلها في الاعتبار أن هذه القوي الثورية لم تكن منذ البداية فاعل أو لاعبا أساسيا في الثورة ولكنها قد اشتركت في الثورة لكي ما يكون لها دور ونصيب في مكاسبها واستحقاقاتها وهي لم يكن لديها أهداف محددة من قبل.. لذلك انقسمت بعد أن تم اسقاط النظام السابق وبعد ذلك حاولت هذه القوي أن تلعب لصالح نفسها وأن تستاثر بالنصيب الأكبر من مكاسب هذه الثورة لذلك لم يكن هناك توافق بينها وقد استمر ذلك حتي الآن وهو ما يقف عائقا يحول دون اسراع الخطي نحو تنفيذ خطوات خارطة الطريق واعادة بناء المؤسسات وصياغة الدستور.. كما أن ما يحدث الآن انما يرجع الي غياب مفهوم المصلحة القومية لدي هذه القوي وشيوع حالة من الانفرادية والتخوين وعدم الثقة سواء في الدولة والحكومة من جهة علي الرغم من أنها هي التي قد أتت بها وبينها وبين بعضها البعض من جهة أخري.. وقد كان أول اختبار لهذا التماسك لهذه القوي الثورية هو اصدار قانون تنظيم التظاهر والذي يعد مطلبا أساسيا وحتميا علي ضوء تحديات المرحلة الراهنة التي قد معها الدولة بأكملها للاطاحة وأن ذلك يعد ثغرة كبيرة يمكن للقوي السياسية المناهضة والتي نحن في حالة حرب معها أن تدلف منها وتستقوي بها وهو ما يعني المزيد من المخاطر والتقويض لما سبق من خطوات نحو استعادة ليس فقط قوة الدولة وبناء مؤسساتها بل وحقوق المواطنين في الحياة الكريمة والهادئة والمستقرة.. لقد اعترض البعض من هذه القوي السياسية علي ذلك القانون ولا ندري ما هو وجه الاعتراض وما هي مبرراته فالقانون لم يوقف التظاهر ولكن ينظمه مع العلم بأنه من منطلق المسئولية المجتمعية فانه كان علي هذه القوي السياسية من تلقاء نفسها أن تدعو الي وقف التظاهر وعدم الخروج للشوارع.. لكي ما تحقق هدفين الأول هو سد الطريق علي القوي المضادة للمجتمع وذلك بالحد من حالة الفوضوية التي تسعي اليها وترتضيها لأنها تتمشي مع تحقيق أهدافها في هدم الدولة وجعلها في حالة من العجز والشلل وبذلك تؤكد علي فشل الثورة وما لها من مكتسبات.. ومن ناحية أخري حتي تمكن قوات الأمن الجيش والشرطة من التفرغ للمواجهة مع هذه القوة التي تهدد الأمن القومي للبلاد وذلك بمعاونة قوي خارجية قطر وتركيا والولايات المتحدة مثلث الشر.. ومن المؤكد أنه كان لابد من التصدي لخرق ذلك القانون من جانب قوات الأمن والا بذلك تكون الفرصة قد أتت علي طبق من ذهب لجماعة الاخوان لتوسيع نطاق التظاهر وعمليات التخريب وفي ذات الوقت ارهاق قوات الأمن والجيش وتبديد جهودهم.. وأعتقد أن هذه الحركات وهي حركة كفاية وحزب الدستور والاشتراكيين الثوريين والتيار الشعبي وحركة لازم التي خرجت للتظاهر وقامت بتهيج الجامعات التي يعبث فيها الاخوان من أجل اثارة الفوضي وعرقلة خطوات الاستقرار كان يتوجب عليها ألا تعلن حربها وعداءها ضد الداخلية التي تحملت العبء الأكبر من التضحيات وهم يرون بعين رءوسهم كيف يخوضون هذه العمليات ضد جماعات ارهابية مسلحة ويسقط منهم شباب يوميا.. ومن يطلبون تطهير الداخلية من هؤلاء الأبطال من الشباب الذين يعرضون حياتهم يوميا للموت ويخلفون وراءهم أبناءهم وزوجاتهم وأمهاتهم تعتصرهم الحصرة والألم.. أن ما يحدث هو أمر غير منطقي بالكلية ونحن لا نعرف علي وجه التحديد ماذا يريدون ؟ وهل هم يريدون أن تستمر مصر في حالة من الفوضوية العارمة أم أن تستعيد البلاد عافيتها وتستفيد من استحقاقات الثورة التي كان ثمنها هو دماء أبنائنا ومعاناة كبيرة. دكتواره في العلوم السياسية [email protected] رابط دائم :