على كرسى خشبى متهالك .. جلس هذا العم رشاد أمام "ورشته"، متكئا برأسه على راحة يده .. يغمض عينيه أحيانا، وكأنه يهرب من شىء ما .. ربما ضيق رزق .. وربما ينعى ذكريات كانت فى يوم ما تطرق أبواب ورشته .. لتعبر من خلاله وجوه كثيرة .. تدفعها غريزة البحث عن تراث ما .. تطوف بين أروقة المكان .. تتلمس خيوطه .. تصغى لرنين أدواته .. سعادة ودهشة وتساؤلات .. حالة لن تستشعرها إلا وأنت على أعتاب إحداها .. إنها ورشة من كرداسة. هكذا بدأ كاتب الموضوع عصام بدوي فى مجلة البيت بعددها الصادر هذا الشهر عندما وصف كرداسة وبعدسة المصور عماد عبدالهادي جاءت تلك الكلمات.. على بعد عشر دقائق فقط من أحضان أهرامات الجيزة، تغازل عينيك قرية صغيرة صنعت السياحة بأدوات بسيطة استوحتها من بيئها المحلية .. آلاف من ورش المنسوجات اليدوية يختلط ضجيج أنوالها معا ويخفت فى وقت واحد .. سائحون من هنا وهناك يتهافتون على منتجات غزلتها أنامل هذا العجوز ومثله المئات، وربما الآلاف الذين برعوا فى تلك المهنة وتوارثوها منذ سنوات طويلة. نبرة حزينة، خرجت تلك الكلمات من بين شفاه هذا العجوز الأسمر، وصف بها حالة كانت هنا، رحلت وتركت كل شىء يئن .. كساد وضيق رزق بفعل أحداث عنف خيمت على القرية منذ شهور وانقضت، إلا أنها أوقعت أرزاق أصحاب الورش فريسة لحالة من الحظر والقلق والخوف، تبدد معها كل آمال لعودة تلك القرية إلى ما كانت عليها. أغلقت الورش .. هجرها الحرفيون .. خلا السوق من ضحكات ومناكفة الزبائن .. خلا من ضجيج الأنوال لا يكاد تسمع سوى وطء أقدام البائعين يتجولون بين ورش ومحلات السوق وتمتماتهم، تنعى أيام لم يستطع فيها الحرفى أو البائع الحديث مع زميله إلا بعد موعد الإغلاق من شدة الإقبال وحركة البيع والشراء. وبطريقة "الفلاش باك"، اصطحب هذا العجوز، ويدعى "عم رشاد"، خيالنا ليبحر به فى عالمه الخاص وبين أروقة ورشته .. هنا كان يجلس عم صابر على نول النسيج، يغزل كليم وأحيانا أخرى جوبلان، وهنا كان يطرز عم عزيز بأنامله عباية فيرزيه "شغل بارز" وأخرى صوف، وبالقرب منهما يشد عم مناع خيوط نوله استعدادا لنسج ملاءة ليبية وسيوية، 16 ساعة يوميا من العمل الشاق، وبجواره يدير عم غزالى "الدولاب" .. عجلة فرد الخيط قبل استخدامه على النول .. كرات من خيوط الصوف هنا وهناك، وأخرى من القطن والحرير تتدحرج بالقرب منها بألوانها المميزة. .