د. أحمد عاطف دره كل شئ فى الكون هو ابن التفاعل، الانسان نفسه يولد من لحظة انصهار بين رجل وامرأة. لحظة الانتخاب التى تحدث من بين ملايين الحيوانات المنوية والبويضات لتصبح علقة كما يقول عنها القرآن الكريم هى بالاساس لحظة اندماج استثنائية. ويقينا انه اذا اندمج حيوان منوى آخر ببويضة أخرى لخرج انسان مختلف. وهو ما أكده لنا العلم فى حالة التوائم. فحتى لو كانت التوائم متطابقة شكلا، لكنها مليئة بالاختلافات والتناقضات. الامتزاج فى الكيمياء مثلا يكون بين سوائل أو منتجات صلبة أو حتى غازات، مما ينتج كائن آخر ممتزج قد تكون له شخصية مستقلة.. أحيانا يكون الانصهار عكسيا. فالأرض نفسها نتجت عن انشطار أو انشقاق لذرة أولية مفردة حسبما يقول الله فى كتابه الكريم «أن السماء والأرض كانتا رتقا ففتقناهما» ذلك الخلق الذى أطلق عليها العلم الغربى نظرية البيج بانج. لأن الذرة متعاظمة فى الكثافة أى الحرارة إلى حد لايعقل. ولم يكن ذلك الانشطار لينتج الكون على شاكلته تلك إلا بانصهار مكوناته الأساسية. السماء تمتزج مع الرياح. والأرض تمتزج مع الزرع. والأمطار تمتزج بالشجر. والبحار تمتزج بالشعب، المرجانية. الحيوانات تمتزج بالعشب والسمك يمتزج بالمحيطات. أما الإنسان فيمتزج مع كل ذلك فى حالات انصهار لاتنتهى وينتج عنها كل شئ حى بالحياة. تمتزج مشاعرنا فنشعر بالتضامن والتعاون والمساعدة. تمتزج مشاعر البشر فيصبحون عشاقا واصدقاء وخلانا. نمتزج مع معلمينا فنتكون شيئا فشيئا. تمتزج الافكار فى عقولنا فيصبح لنا وعى وثقافة ووجهات نظر. نمتزج معت الفنون فتصبح مشاعرنا مرهفة، واحيانا تصبح لنا عقول عميقة قادرة على التفحيص والتمحيص والتحليل. تمتزج الشعوب بصور مختلفة فتفهم بعضها البعض. نمتزج بالثقافات فيتسع ادراكنا للكون والكينونة. نمتزج مع الطبيعة فنفهم حكمتها. لكن ترى ما هو الامتزاج. ما هى شروطه وما هى ملامحه وماذا يميزه عن غيره؟.توصف الصراعات فى اللغة الغربية انها التحام،`لذا فهى عكس الانصهار تماما. ويمكن ان تطلق عليها أيضا ارتطاما أو صداما او احتكاكا. أما الانصهار فهو الميلاد. ويبدو جليا من هذه المقارنة البسيطة ان الانصهار والامتزاج هما أحد مفاتيح الوجود وربما احد أسراره. إذن لا شئ خير أو جميل أو بناء يستطيع ان يتحقق بدون الامتزاج. أتأمل كثيرا امتزاج ألوان الرسم أيا كانت خاماتها زيتية او بلاستيكية. كل منها يتداخل بليونة وانسجام وربما باستسلام لينتج لونا ثالثا ورابعا وخامسا تختلف فى اللزوجة والنعومة كأنها فى حالة انجاب اسطورية لاتنتهى. وأتأمل النغمات وهى تتداخل فى تراكيب مذهلة فتصنع الحانا تحرك الحجر. تطلق مشاعر ربما لم يعهدها الانسان من قبل. وهناك السينما التى تجمع كل الفنون فى تركيب مدهش هى الأخرى. فهى أحد أهم أمثلة الامتزاج بين ما يصعب امتزاجه فى عمل واحد.. فالفنون الدرامية تمتزج مع الفن التشكيلى. والاضاءة تمتزج مع الموسيقى. والجمل الأقرب للشعر تمتزج بفن التمثيل. بل والممثلون أنفسهم يتمازجون فيصبح ما يقدمونه من مشاعر أقرب للحقيقة.. الامتزاج به إرادة حب وإرادة تواصل. به رغبة فى اللقاء ورغبة فى السمو وتوق لشىء اسطورى يحمل كل الجمال وكل الجدة. الامتزاج هو إيذان بالمعجزة ونداء للمقدس واعتراف بفضل الله الذى يصنع ما لا نعلم. هل يعرف الأزواج شكل وصفات طفلهم قبل انجابه؟ هل نعرف ناتج الألوان عندما تمتزج مهما اتبعنا وصفة مجربة؟ فالنسب قد تختلف بمليمترات والخلطة يدخل فى تأثيرها الهواء والحرارة والجاذبية وغيرها. نفس الحال بالنسبة للموسيقى. فحتى مع الألحان العظيمة، فقد يختلف تأثيرها كلما عزفت من أوركسترا مختلف، أو كلما قادها مايسترو غير سابقه.. نحن إذن بصددت حالة انصهار مستمرة فى كل لحظة بالكون.. لحظة اضافة للكون ولحظة تجدد لمقاديره. كلها نابعة من الحب. أى ان طاقة الحب هى التى تجعل الوجود يستمر. وطاقة الصراع تعطل الحياة وتسممها. والغريب ان الإنسان فى عمومه يعشق متابعة الصراع. ويعشق نظرية الاطراف والاضداد والمباراة. وأحد اسباب تعلق البشر بالأفلام والمسلسلات ان أغلبها يعتمد على فكرة الصراع الدرامى كأساس لبناء قصص الاعمال الفنية. رغم انه ليس شرطا ان يكتب فيلما بلا صراع. هل السبب ان الانسان ولدوفى مخيلته صراع طرده من الجنة، وصراعه مع الشيطان ووسوساته والذى أصبح جزءا أساسيا فى يومه ووجوده. أم لأنه تمت تربيته بشكل خاطئ منذ بداية الوجود بحيث يكون حريصا على ضرورة كسب المعارك، وبالتالى أدمن الصراع؟ وهل يستطيع أى إنسان الآن أن يستغنى عن الصراع فى حياته ويدرك انه لايدمره وحده بل ويدمر الوجود معه؟ربما لابد أن نسعى أن يصبح الانصهار هو الاتجاه المسيطر على كل أفعالنا مقتدين بالطبيعة الطيبة حولنا.