توقفنا فى المقالة السابقة عند اللحظة الدرامية التى ينسب لها علماء الطبيعة المعاصرون نشوء الكون، فى أسطورة حديثة تستبدل جسيمات المادة والمادة المضادة متعاكسة الشحنة الكهربية بصراع الأرباب عند الإغريق والبابليين والمصريين القدماء. وقلنا إن السالب والموجب فى كهرباء الكون يوحى للمتفلسفين الهواة من أمثالى بنظرات عميقة فى الوجود والحياة الإنسانية والحياة عموماً (البيولوجيا)، تبدأ من مكونات الذرة لتتوقف قليلاً عند مكونات المجموعات الشمسية، لكى تنتقل بعد ذلك من المادة للمجاز والأفكار المجردة. ولا أحسب أنى أضيف جديداً إذ أقول إن المجموعة الشمسية ما هى إلا ذرة عملاقة نواتها الثقيلة موجبة الشحنة هى الشمس وإلكتروناتها السالبة المسلوبة الحرية التى تدور حول النواة (النجم) هى الكواكب فقد قالها ويا للعجب سيدى جلال الدين الرومى منذ ألف عام، حيث رأى فى بيت من شعره الملهم أن فى الذرة شمسا وكواكب. ولكن ربما أضيف من عندى أن حلقة الذكر التى ابتدع الرومى رقصتها تلخص حركة الدوران حول الذات وحول النواة أو النجم (القطب الذرى أو الشمسى) التى تنتظم الكون كله. فالذاكر الصوفىّ فى حلقة سيدى جلال الدين إلكترون سالب الشحنة سليب اللب، والمريدون يلتفون حول القطب (شيخهم) كما تلتف الكواكب حول نجمها فى رقصة كونية لا تنتهى.. إلا بإذن الله. وطواف الحجاج حول الكعبة المشرفة تلخيص لتلك الحركة الدائرية ؛ ذلك الطواف الذى يبدأ من الجسيمات متناهية الصغر التى تدور حول مركز أثقل منها، ولا ينتهى عند المجرة الحاوية مليارات النجوم والمجموعات الشمسية الطوافة حول مركز تلك المجرة. كما أن المجرات كلها تطوف حول مركز الكون الذى لم يدركه العلم بعد. الموجب والسالب الدائرة والدوران. النجم الموجب يشحن الكواكب السالبة المسلوبة الإرادة بالدفء والضوء والكهرباء. وفى حياة الناس أيضاً تلك الظاهرة التى يفسرها البعض بأنها طاقة مادية، أو هالات خاصة تشعها هامات بعض الناس: الكاريزما أو موهبة القيادة، التى تجعل من آحاد من الناس أقطاباً تجذب فى مدار إرادتها ورؤيتها أناساً خفافاً منقادين كإلكترونات الذرة أو كواكب الشموس أو أقمار الكواكب. حتى فى الحب والغرام تحدث الجاذبية والطواف غير الإرادىّ حول المحبوب الذى يسلب العاشق المغلوب على أمره استقلاليته وأحياناً عقله.. وكم من إلهامات يوحى بها تأمل فكرة الموجب والسالب، والثقل والخفة, والجاذبية والدوران. أما الدائرة فهى الخط المستقيم فى الكون. ويقول هوكينج فيما يقول إن ذلك الخط المستقيم يتقوّس تحت ثقل الكتلة, وأرى فى هذا صورة شعرية: الظهر المنحنى تحت أعباء الوجود وأثقالها. وربما كانت نظرة هوكينج الموضوعية العلمية المحايدة لما فى الكون من عجائب، ورفضه فكرة الإله، نتيجة لثقل مرض ساحق رهيب، كثعبان يتلوّى ببطء زاحفاً نحوه، ذلك الشلل التدريجى الذى استغرق عشرات السنين ليشل كل شىء فيه تماما إلا عقله.. ربما كان عبء ذلك الداء ما جعله يتمرد على فكرة الحَكَم العدل الرحمن الرحيم، ليرى الحياة والإنسان امتداداً لميكانيكا نشوء الكون وتطور مادته. لكننى لا أستطيع قبول هذه النظرة أمام بهاء الوجود وجلاله وإعجاز الموجودات خاصة الإنسان. فحتى لو سلمنا بإمكانية ما يمكن تسميته بميكانيكا التطور، وحتى لو قبلنا مؤقتا فكرة أن الإنسان هو المنتوج الأعلى لهذه العملية، وأن هذا البنان الممسك بالقلم ليكتب، أو بالصحيفة ليقرأ، هو نتاج آلاف السنين من ذلك الكدح الميكانيكى الأعمى - فكيف بالله يفسِّر لنا العلم بصمة ذلك البنان العجيب الذى سوّاه الخلاق العظيم سبحانه بحيث تختلف بصمته حتى بين توأمين متماثلين هما نتاج بويضة منقسمة وحيوان منوى واحد منفلق نصفين؟.. فسبحان الله فالق الحَبّ والنوى، مُسَوِّى بنان الإنسان! لمزيد من مقالات بهاء جاهين