د. مراد وهبة فى عنوان هذا المقال حرف الجر فى يعنى أن العلمانية فى صميم خطة ترامب للسلام. ولا أدل على ذلك من أن رحلة بومبيو وزير خارجية أمريكا إلى السودان انتهت إلى إعلان السودان دولة علمانية. وقد سبق هذا الإعلان بيان إماراتى-أمريكى- إسرائيلى جاء فيه أن المعاهدة التى عرفت أمريكيا باسم اتفاق ابراهيم ستوفر تفكيرا جديدا حول معالجة مشاكل المنطقة وتحدياتها. وإذا كان التفكير السائد هو التفكير الأصولى فالبديل تفكير علمانى بحكم التناقض الحاد بين هذا وذاك. وإذا كانت العلمانية تخص كلا من الدولة والدين فمعنى ذلك أن يكون من اللازم فى البداية بيان معنى كل من الدولة والدين. الدولة، تاريخيا، لم تنشأ منذ بداية الحضارة إنما المدينة هى التى نشأت فى البداية، ويقصد بالمدينة اجتماع عدة قرى فى هيئة واحدة وكانت تكفى نفسها بنفسها وتضمن لأفرادها المعاش الحسن لكى يبلغ أفرادها السعادة. ومع تطور المدينة واشتغال سكانها بالتجارة والصناعة تحولت إلى دولة يخضع مواطنوها للقانون من أجل تحقيق العدالة. وفى هذا المعنى نشأت الدولة الحديثة فى القرن السادس عشر وقيل عنها إنها دولة القانون. وفى هذا المعنى أيضا يكون للدين دور بحكم القيمة المشتركة بينه وبين الدولة وهى العدالة مع فارق أن الدولة تستند إلى قانون فى حين أن الدين يستند إلى الموعظة. وبالرغم من هذا الفارق إلا أن التداخل بينهما ممكن بحكم القيمة المشتركة وهى العدالة. ونشأ من هذا التداخل بين الدولة والدين مصطلحان: دولة الدين ودين الدولة. ولكن إذا تعددت الأديان فالصدام حتمى بين أتباع الأديان لحسم أى الأديان هو الكفيل بالتحكم فى الدولة. ومع عدم الحسم تنشأ الحروب الدينية كما كان الحال بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا حيث استغرقت الحرب ثلاثين عاما. ولكن إذا حُسمت فيكون الفضل فى ذلك الحسم إلى العلمانية على نحو ما أرى. والسؤال إذن: ما معنى العلمانية؟ الجواب عن هذا السؤال يستلزم تعمقا فى معنى الدين على ضوء العلمانية. وفى هذا السياق يكون للدين معنيان: الدين بمعنى الإيمان والدين بمعنى المعتقد. الإيمان هو التصديق بالقلب برسالة هى عبارة عن إخبار وبيان. ومع التطور تطور التصديق إلى الاعتقاد، ومن ثم قيل الاعتقاد فى رسالة. ومن هنا جاء المعنى الثانى للدين هو أنه معتقد ويقال عن صاحبه إنه صاحب عقيدة. والعقيدة عبارة عن القرارات التى يلتزم بها المؤمن وتكون صادرة من سلطان آخر غير عقل المؤمن. وقيل عن هذا السلطان إنه علم العقيدة وهو فى المسيحية اسمه علم اللاهوت وفى الإسلام اسمه علم الكلام. وهو فى الحالتين علم بالمطلق. والمطلق، سواء فى اللغة العربية أو فى اللغة الأجنبية هو ما لا يقيد بقيد أو شرط. إلا أن العقل الإنسانى محكوم فى مجال المعرفة بشروط المعرفة ومن هنا تكون المعرفة المشروطة عاجزة عن قنص هذا المطلق اللامشروط. وقد فطن الفيلسوف الألمانى العظيم كانط إلى هذا التناقض بين العقل والمطلق.وجاءت مؤلفاته تعبيرا عن ذلك العجز. وإذا لم يفطن العقل إلى هذا العجز فإنه يتوهم قدرته على قنص ذلك المطلق. والسؤال بعد ذلك: ماذا يحدث فى حالة هذا الوهم؟ تحكم المطلق فى النسبى أو بالأدق تحكم المعتقد الدينى فى النظام السياسى. وفى العالم الإسلامى المعاصر ثمة حركتان تعبران عن هذا التحكم: حركة الإخوان والحركة السلفية. وهما توأم بالرغم مما بينهما من افتراق من حيث سرعة التحكم. أما من حيث الاتفاق فيكمن فى رؤيتهما للدولة الغربية التى ترتكز فى رأيهما على ثلاث دعائم: العلمانية والقومية والوطنية، والديمقراطية أو حكم الشعب. العلمانية، عندهما، تعنى فصل الدين عن الحياة بمعنى عدم تدخل الدين فى مجالات الحياة المتباينة. والدافع إلى رؤية العلمانية على هذا النحو مردود إلى سيطرة السلطة الدينية والتى بدورها تمنع التقدم. وجاءت العلمانية لتقف ضد هذا المنع. أما الإسلام فليس فى حاجة إلى العلمانية لأنه دين ودولة. أما القومية أو الوطنية فهى فى رأيهما أنها جاءت رفضا لسيطرة البابا والقياصرة على شعوب أوروبا. أما الإسلام فليس فى حاجة إليها لأنه دعوة عالمية. تبقى بعد ذلك الديمقراطية وهى مرفوضة لأنها فى رأيهما خالية من الثوابت ولهذا فهى ليست صالحة للاسلام لأنه يستمد قوانينه من شرع الله، وشرع الله ثابت. وبناءً عليه فإن الحضارة الإسلامية ترفض الحضارة الغربية الأمر الذى يفضى إلى حضارة غربية وحضارة اسلامية تستند إلى معتقد مطلق هو الشريعة. وإذا رفضنا الأصولية فالعلمانية هى البديل لأنها النقيض بحكم أن الأصولية هى التفكير بالمطلق فى حين أن العلمانية هى التفكير بالنسبى والدين المقبول فى حالة هذا البديل سواء كان مجرد إيمان أو معتقد مطلق، هو أن يكون حالة فرد وليس حالة مجتمع لأنه فى حالة مجتمع فإنه يكون مؤهلاً للصدام مع معتقدات أخرى مطلقة هو لا يريد لها البقاء. وخطة ترامب للسلام تمنع هذا الصدام.