أسعار البيض اليوم 18 مايو    أسعار الأسماك اليوم 18 مايو بسوق العبور    التموين توضح سعر توريد أردب القمح وجهود الدولة لتحقيق الأمن الغذائي    برلماني: مشروع قانون منح التزام المرافق العامة لإنشاء وتشغيل المنشآت الصحية يساهم في تحسين الخدمة    فصائل فلسطينية: استهدفنا دبابة إسرائيلية من طراز ميركافا 4 شرق مدينة رفح    زيلينسكي: أوكرانيا ليس لديها سوى ربع الوسائل الدفاعية الجوية التي تحتاجها    رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق يطالب نتنياهو بالرحيل    الأمم المتحدة: لم يبق شيء لتوزيعه في غزة    تشكيل أهلي جدة المتوقع أمام أبها في دوري روشن السعودي    موعد مباراة الترجي والأهلي في ذهاب نهائي دوري أبطال أفريقيا    مواعيد مباريات اليوم السبت.. الترجي ضد الأهلي وظهور ل«عمر مرموش»    مصر تنافس على لقب بطولة العالم للإسكواش ب 3 لاعبين في النهائي    «دخلاء وطائرة درون» الأهلي يشتكي قبل موقعة الترجي    تسريب أسئلة امتحان اللغة العربية للإعدادية في أسيوط: تحقيق وإجراءات رادعة    حالة الطقس المتوقعة غدًا الأحد 19 مايو 2024| إنفوجراف    النيابة العامة تُجري تفتيشًا لمركز إصلاح وتأهيل 15 مايو (صور)    بكاء والدها وقبلة شقيقها.. أبرز لقطات حفل زفاف الفنانة ريم سامي    في اليوم العالمي للمتاحف.. متحف تل بسطا بالشرقية يفتح أبوابه مجانا للزائرين    طارق الشناوي: العندليب غنى "ليه خلتنى أحبك" بطريقة ليلى مراد ليجبر بخاطرها    مفتي الجمهورية يوضح مشروعية التبرع لمؤسسة حياة كريمة    حادث عصام صاصا.. اعرف جواز دفع الدية في حالات القتل الخطأ من الناحية الشرعية    صحة مطروح تدفع بقافلة طبية مجانية للكشف على أهالي النجيلة    حنان شوقى: الزعيم عادل إمام قيمة وقامة كبيرة جدا.. ورهانه عليا نجح فى فيلم الإرهابي    المستشار الأمني للرئيس بايدن يزور السعودية وإسرائيل لإجراء محادثات    البيت الأبيض: أطباء أميركيون يغادرون قطاع غزة    مؤتمر صحفي ل جوميز وعمر جابر للحديث عن نهائي الكونفدرالية    إرشادات وزارة الصحة للوقاية من ارتفاع ضغط الدم    قبل فتح اللجان، تداول امتحان اللغة العربية للشهادة الإعدادية بالشرقية، والتعليم تحقق    حظك اليوم وتوقعات برجك 18 مايو 2024.. مفاجآة ل الدلو وتحذير لهذا البرج    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 18 مايو    أوما ثورمان وريتشارد جير على السجادة الحمراء في مهرجان كان (صور)    ناقد رياضي: الترجي سيفوز على الأهلي والزمالك سيتوج بالكونفدرالية    ذوي الهمم| بطاقة الخدمات المتكاملة.. خدماتها «مش كاملة»!    عادل إمام.. تاريخ من التوترات في علاقته بصاحبة الجلالة    عاجل - تذبذب جديد في أسعار الذهب اليوم.. عيار 14 يسجل 2100 جنيه    عاجل.. حدث ليلا.. اقتراب استقالة حكومة الحرب الإسرائيلية وظاهرة تشل أمريكا وتوترات بين الدول    لبلبة تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: الدنيا دمها ثقيل من غيرك    كاسترو يعلق على ضياع الفوز أمام الهلال    خالد أبو بكر: لو طلع قرار "العدل الدولية" ضد إسرائيل مين هينفذه؟    رابط مفعل.. خطوات التقديم لمسابقة ال18 ألف معلم الجديدة وآخر موعد للتسجيل    الحكومة: تراجع تدريجي ملموس في الأسعار ونترقب المزيد بالفترة المقبلة    مفتي الجمهورية: يمكن دفع أموال الزكاة لمشروع حياة كريمة.. وبند الاستحقاق متوفر    حلاق الإسماعيلية: كاميرات المراقبة جابت لي حقي    إصابة 3 أشخاص في تصادم دراجة بخارية وعربة كارو بقنا    سعر العنب والموز والفاكهة بالأسواق في مطلع الأسبوع السبت 18 مايو 2024    مذكرة مراجعة كلمات اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي نظام جديد 2024    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    بعد عرض الصلح من عصام صاصا.. أزهري يوضح رأي الدين في «الدية» وقيمتها (فيديو)    مصطفى الفقي يفتح النار على «تكوين»: «العناصر الموجودة ليس عليها إجماع» (فيديو)    هل مريضة الرفرفة الأذينية تستطيع الزواج؟ حسام موافي يجيب    طرق التخفيف من آلام الظهر الشديدة أثناء الحمل    إبراشية إرموبوليس بطنطا تحتفل بعيد القديس جيورجيوس    دار الإفتاء توضح حكم الرقية بالقرأن الكريم    أستاذ علم الاجتماع تطالب بغلق تطبيقات الألعاب المفتوحة    ب الأسماء.. التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي مجلس الدولة بعد إعلان نتيجة الانتخابات    البابا تواضروس يلتقي عددًا من طلبة وخريجي الجامعة الألمانية    «البوابة» تكشف قائمة العلماء الفلسطينيين الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا    دراسة: استخدامك للهاتف أثناء القيادة يُشير إلى أنك قد تكون مريضًا نفسيًا (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اغتيال فقه الإمام
نشر في بوابة الأهرام يوم 26 - 12 - 2020


تكتب
مصر منارة الإسلام الوسطى المعتدل، فضلا عن دورها الرائد فى العالمين العربى والإسلامى منذ ارتفع فيها صوت إمامها الوسطى الليث بن سعد «93ه 175ه» سيد الفقهاء الذى اعتذر عن ولاية مصر ليتفرغ للعلم، فنصح الخليفة العباسى المنصور أهل العلم فى سائر الأمصار بالذهاب إلى الفسطاط لتلقى العلم عن الفقيه المصرى الشاب الذى لم يلق المنصور أَفْقَه منه بالشريعة، ولا أحفظ منه للحديث، ولا أحدَّ منه بصيرة أو أفصح لساناً أو أعدل أو أعفّ أو أوسع علماً بمعارف الأوائل وحكمتهم، ولا قدرة على الاستنباط، ولا أسلم منه رأياً... ثم أرسل المنصور إلى والى مصر وقاضيها أن يستشيرا الليث بن سعد فى كل أمورهما.. وعندما كبر على بعض فقهاء العرب أن يضع المنصور أحد الموالى سكان مصر الأصليين فى هذه المكانة فوق الوالى والقاضى العربي، أخذوا يكيدون له لدى الخليفة بأن ابن سعد يستغل رضاه فيتعالى وينشر بأنه أمير مصر، فما كان من المنصور العالم بقدر ابن سعد إلا بتنصيبه كبيرًا للديار المصرية ورئيسها بحيث لا يقضى فى مصر شيء إلا بمشورته..
ولم يستخدم الليث تلك الثقة إلا فى صالح الرعية، وكان أشد ما يسوؤه من ولاة الأمر أن تصل أحدهم هدية، وكان يجهر بقوله إنه إذا دخلت الهدية من الباب خرجت العدالة من النافذة، وكان لا يغشى مجالس الولاة فإذا ما استدعاه أحدهم يرسل إليه قائلا: «إن مجيئك إلىّ زين لك، ومجيئى إليك شين علىّ»، وقد أخذ على أحد ولاة مصر هدم الكنائس، فكتب إلى الخليفة طالباً عزله لأنه مُبتدع مخالف لروح الإسلام، فعزله الخليفة بجريمته، وأشار على الوالى الجديد أن يعيد بناء ما هدم من الكنائس، وأن يبنى كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون فى مصر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالقبط خيرًا»،
ولأن الكنائس التى كانت قائمة بمصر إنما بناها الصحابة ممن قادوا جيش الفتح الإسلامى، وإجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو فى قوة السُنَّة.. وبهذا الفكر المستنير انطلق الإمام الليث يعظ المسلمين ويوثق العلاقات بين مواطنيه من مسلمين وأقباط ليكونوا رحماء بينهم، وكانت له هو نفسه صداقات وثيقة مع الأقباط الذين عرفوا صدق الأخوة من المسلمين بحسن إسلامهم..
على أن هذا كله أغضب المتعصبين فى مواقع التأثير، وما كانوا لينالوا من الإمام وهو حى يملأ الأجواء من حوله بالمحبة والخير ونور العلم، فانتظروا حتى إذا مات وثبوا على ذكراه، وثاروا على فقهه، وحاولوا أن يطمسوا كل آثاره، وأن يهيلوا التراب على آرائه وأفكاره ذلك التعصب المدمر الذى مكث متجزرًا فى بعض النفوس عبر أجيال وأجيال ليصيب الشيخ السمح الجليل الإمام الذهبى فى مقتل، ويعتدى بالأمس القريب على الإمام على جمعة مفتى الديار فى محاولة لإسكات صوت الإسلام الوسطى المعتدل حتى أن الإمام الشافعى لم يعثر على كتاب واحد للإمام الليث بن سعد عند حضوره إلى مصر، وظل بلا طائل يبحث عن مؤلفه «مسائل الفقه» الذى كتبه الليث بيده، وكتابه «التاريخ» وكتابه «فى التفسير والحديث» وكتبه عن منابع النيل، وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوى من أساطير وروايات تصور تاريخ الفكر المصرى والشخصية المصرية، ولم يعثر الشافعى إلا على بعض اجتهادات حفظها بعض تلامذة الإمام الذى اغتيل تراثه واندثرت آثاره ولم يمض على رحيله غير ثلاثة أعوام!!
الليث ابن قرية «قلقشندة» التابعة لمركز طوخ بالقليوبية، المولود فى ليلة النصف من شعبان من العام الثالث والتسعين للهجرة الذى شبَّ على خضرة الأرض وانسياب النهر ومواكب الطير، ومراكب السمر ورقص الخيل، وعبق الزنابق والنسيم العليل، الذى رأى الدنيا من منظار الجمال فما أن تعلم القرآن وحفظ الحديث حتى روى أول ما روى من أحاديث «إن الله جميل يحب الجمال»، وأرسل الأب واسع الثراء فتاه مليح الوجه متوقد الذهن ابن القرية ليخوض ليل الفسطاط المضيء بالثقافة والمعرفة، فاتجه إلى جامع عمرو منارة العلم حيث لم تزل باقية إشعاعات دروس أبى ذر الغفارى وعبدالله بن عمرو وسائر الصحابة الذين جاءوا إلى مصر منذ الفتح الإسلامى وعلموا الناس أمور الدين وفقهوهم بالقرآن والسُنة، ليتردد فى جنبات الجامع الكبير أسلوب مصرى خاص لتلاوة القرآن يختلف عن أساليب تلاوته فى العواصم الإسلامية الأخرى، وفى جامع عمرو حلقات كثيرة لدراسة القرآن وتفسيره ودراسة الأحاديث والسُنة والفقه ترك فيها كل صحابى أثرًا إلى جانب حلقات لدراسة كل ما كان فى مصر من معارف الأقدمين..
وكانت اللغة القبطية لم تزل حية لتنقل الإعجاز المصرى القديم فى علوم الفلك والطب والرياضيات والطبيعة والهندسة، وتراث اليونان والرومان وغيرهم إلى اللغة العربية التى لم تكن قد انتشرت فى مصر، فالقبطية كانت السائدة، ولكن الليث كان يتقن اللغتين العربية والقبطية إلى جانب اليونانية واللاتينية مما أتاح له فى شبابه ثراء فريدا فى جميع ميادين الثقافة.. وفى بحثه الظامئ عن أسرار المعرفة أدرك أن النصوص ليست ظاهرًا فحسب..
وليست مجرد كلمات بل هى روح لها دلالات وفحوى وعِلل، وإذن فالذى يتقن العربية يفهم النصوص وروحها، والأحاديث النبوية تفسر كثيرًا من نصوص القرآن، وفهم الأحاديث يقتضى أيضاً فهم أسرار اللغة العربية وروحها، وليس كل عربى بقادر على إدراك معانى الأحاديث أو فهم ما أنزله الله بلسان عربى مبين، فهذا الأمر يستلزم إتقاناً خاصاً وتذوقاً خاصاً للغة، ومن هنا عكف الليث بعد حفظه للقرآن والأحاديث على حفظ الشعر العربى الذى قيل قبل نزول الوحى وخلال نزوله ليدرك أسرار اللغة جميعاً، ولَكَمْ نصح الليث مستمعيه أن يخرجوا إلى البادية فيتعلموا «كلام هزيل» ويحفظوا شعرهم، فهزيل أفصح العرب، وشعرهم عامر بكنوز اللغة، وقد استشهد الليث بأشعارهم فى تفسير بعض كلمات القرآن, وعاش يتغنى بما يروق له من الشعر بصوته الجميل، على أنه قرر وهو يحضر حلقات الشيوخ أن يتخذ له مذهباً وسطياً بين أهل النصوص وأهل الرأى.
ويسمع الليث عن شهرة العالم شهاب الزهرى بالمدينة، فيقرر السفر إليه ليتزود منه علمًا ولكنه يفاجأ بموت أبيه وعليه التزام بإدارة ثروة الأسرة الواسعة، وما يكاد يتولى الزمام حتى يأمر الوالى بهدم بيت الأسرة فيعيد الليث البناء، فيهدمه الوالى مرة أخرى، ويعيد الليث البناء، فيهدمه الوالى ثالثاً ويبيت الليث مهموما من اضطهاد الوالى العربى لأنه قد خرج بأفكاره الوسطية عن طاعة بعض الشيوخ ممن ينحاز لهم الوالي، وتثقل عليه الهموم فيدعو ربه ليزيل كربه بترديد قوله تعالي: «ونريد أن نمن على الذين استُضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين»، ولا يشرق الصبح على صاحبنا إلا وقد أصيب الوالى بالشلل، ليوصى كل من حوله بألا يظلموا الليث بعده.. ويموت الوالى بعد أيام قلائل، ويتهامس الناس لينتشر القول بأن الله قد دافع عن الليث، فالله يدافع عن الذين آمنوا..
ويسافر الليث للحج ليبحث هناك عن العالِم شهاب الزهرى فيجلس إليه ويعجب بعلمه حتى ليمسك له بالركاب فى تجواله، وفى الحجاز يتعرف على فقهاء العصر من أهل السُنة وأهل الرأى، ويتبادل الحديث مع الإمام مالك، وكانا فى نفس العمر وقتها حيث كان مالك يكابد الفقر فى سبيل طلب العلم، فأخذ الليث يحتال ليمده بالمال حتى إذ أرسل إليه مالكٌ طبقاً فيه بلح رطب فقبل الهدية ورد الطبق مملوءا بالدنانير، ليظل بعدها يصل مالكُ من مصر بمائة دينار كل عام.. وكان مالك قد قبل من الرشيد ثلاثة آلاف دينار بعدما أفضى به التفرغ لطلب العلم إلى بيع خشب سقف بيته.. وكان الليث بعد رحلة الحج الأولى قد بنى دارًا كبيرة فى الفسطاط لها عشرون باباً زرع فى وسطها حديقة غناء، وملأ حجراتها بما استطاع الوصول إليه من الكتب والمخطوطات، وفتحها لأصحاب الحاجات.
وكان يدعو أصدقاءه إلى الطعام ويخبئ لهم الدنانير فى «الفالوذج» كى لا يحرجهم، وكان يقوم الليل حتى إذا أقبل الفجر خرج على فرسه إلى جامع عمرو يحضر الحلقات ويفتى الناس دون الجلوس فى مكان المفتى، وبعد العصر يرتدى أجمل ثيابه ويتعطر ويتمشى على ضفاف النيل، وعندما سمع مالك بما يصنعه الليث كتب إليه معاتباً: «بلغنى أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق وتمشى فى الأسواق»، فرد عليه الليث بقوله تعالى: «قل من حرَّم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون».. وظل الليث يرتدى الرقاق ويأكل الرقاق ويقتنى أفخر الدواب ويهدى أصدقاءه منها، وقد أهدى مالك عددًا لا بأس به منها كما تعود أن يهديه كل عام قماشاً من أجود كتان مصر بما يكفيه طوال العام، وكان عند الليث ثياب بعدد أيام السنة فما كان يلبس الثوب يومين متتاليين، ولعل مالك قد اقتنع برد الليث فشرع هو الآخر يعتنى بملبسه ومأكله، ويرتدى الرقاق ويبتعد عن لباس الصوف الغليظ، الذى قال عنه «لا خير فى لبسه إلا فى سفر»، على أن الليث لم يستمتع بطيبات الحياة وحده، وما أكل وحده قط، وكان يُطعم فى كل يوم ثلثمائة فقير غير الصحاب وأهل العلم، ومن حلواه كانت الهريسة بعسل النحل وسمن البقر، واللوز بالسكر، وعاش عمره يعطى السائل، وعندما طلبت منه أم قدرًا من عسل لتعالج ابنها فى وقت شح فيه العسل أمر بأن تعطى مرطاً من عسل نحو مائة وعشرين رطلا فقال كاتبه: «سألتك قدرًا أتعطيها مرطا؟!»، فقال الليث: «سألتنا عن قدرها ونحن نعطيها على قدرنا»..
وكانت له ضيعة بالفرما «قرب بورسعيد» يأتيه خراجها، فلا يدخل داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين ليوزّعه صررًا لا يقل ما فى كل منها عن الخمسين دينارا، وكانت أرضه الواسعة فى قلقشندة وما حولها تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام فما يمر العام وعنده دينار واحد إذ ينفق كل دخله بما أحل الله له، ويقتنى أغلى الكتب وأندرها مهما يكلفه فى الحصول عليها.. ويسأله هارون الرشيد: يا ليث ما صلاح بلادكم؟ فيجيبه: صلاح بلدنا فى رعاية نيلها وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتى الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي، فأمر الرشيد ألا يتصرف أحد فى مصر إلا بأمر الليث بن سعد وعاد الرشيد ليقطعه أرض الجيزة، أخصب أراضى مصر، فتضاعفت ثروة الليث، وكان دخله عشرين ألف دينار فى العام فأصبح مائة ألف فازداد سخاءً وبعد أن كان يطعم ثلاثمائة مسكين كل يوم أمر بإطعام مثلهم بعد كل صلاة، ولم ينس نصيبه من الدنيا، فقد روى أحد معاصريه: عدنا مع الليث من الإسكندرية وكان معه ثلاث سفن، سفينة فيها مطبخة وسفينة فيها عياله، وسفينة لضيوفه، وكان إذا ما حضرته الصلاة يخرج وحيدًا إلى الشط فيصلى خاشعاً..
وما كاد يبلغ الثلاثين حتى بدأ يعلِّم ويفتى.. وقد أحسن تقسيم وقته اليومى فى أربعة مجالس.. فالأول للوالى والقاضى وأولياء الأمور والثانى لأهل الحديث، والثالث للإفتاء للناس عامة حيث يجيب مستوحياً من القرآن، فإن لم يجد لجأ إلى السُنة، وبعدها فإلى النصوص، ثم يلتمس الجواب فى إجماع الصحابة وإن كان من رأيه أن إجماعهم نادر، فإن لم يجد اجتهد رأيه لاجئا إلى القياس وإلى العادات والعرف ما لم تخالف نصاً.. أما مجلسه الرابع فكان فى داره مخصصاً لحاجات الناس، وقد استقل فقه الليث عن فقه أكبر عالمين فى عصره وهما أبوحنيفة النعمان وصديقه مالك بن أنس، وكان قد التقى بأبى حنيفة فى مجلس مالك فى المدينة، واختلف معه فى كثير من الآراء، وأشهر خلاف كان حول الوقف، حيث كان أبوحنيفة لا يجيزه لأنه يرى فيه حبس المال قيدا وضررا، وبهذا الرأى أخد أحد قضاة مصر فنبهه الليث إلى خطأ هذا الرأى ومخالفته للسنة، ولكن القاضى ظل يحكم بإبطال الوقف، فجاءه الليث مخاصماً فى مجلس القضاء، لكن القاضى رفع المجلس، فكتب الليث إلى الخليفة بشأنه فأمر بعزل القاضى لأنه عندما يخالف الرسول لا يصلح للقضاء..
وكان خلاف الليث ومالك فى الفقه مثالا للحرص على الحقيقة، وشجاعة العالم فى مواجهة الخطأ وقدرته على الرجوع إلى الحق.. قال الليث: أحصيت على مالك سبعين مسألة قال فيها برأيه وكلها مخالفة لسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اعترف بأنه أخطأ فى بعضها، ومن هذه المسائل: أن الجنين يستقر فى بطن أمه ثلاث سنوات وهذا مخالف للعقل والعلم والطب.. وليس فى الشرع ما يخالف العقل، ورأى مالك هذا يفتح باب الفساد للنساء اللاتى يغيب عنهن الزوج بالطلاق أو الوفاة أو السفر أو لأى سبب آخر.. ولقد تقبل مالك نقد الليث ولم يعد يفتى بهذا.. ومن الاختلافات بين فتوى مالك والليث كان فى مسألة الكفاءة فى الزواج، ف«مالك» يعتد بالنسب، فلا يصح لديه زواج القرشى بغير القرشية، أو العربى بغير العربية، أما الليث فالمعول عنده على الإسلام، فكل مسلم كفء لكل مسلمة، والقول بغير ذلك يخالف القرآن «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ويخالف الحديث: «لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوي»..
ولقد كان الليث ومالك يتحاوران حول ما يختلفان فيه، على ضيق مالك بالمناظرة، وكثيرا ما كانا يتبادلان الرسائل حول المسائل المختلف عليها، وقد لا يرد مالك على بعض آراء الليث الذى يفهم من عدم الرد أن صاحبه قد عدل عن رأيه.. ومنها أن الإمام مالك أجاز ضرب المتهم بالسرقة للحصول على اعترافه حماية للأموال، مما يحقق مصلحة عامة هى أولى بالرعاية من مصلحة المضروب! ويتساءل الليث عجباً عما إذا ثبت أن المتهم برىء؟! فإن حماية البرىء أولى من عقاب المذنب، ولأن يفلت عشرة مذنبين خير من ظلم برىء واحد، ثم إن الضرب فى ذاته عقوبة لا يقضى بها إلا بعد ثبوت الجريمة، وإلا فالضارب والآمر بالضرب ومن أفتى بجوازه.. كلهم مسئولون.. كما اختلف الصديقان مالك والليث فى حكم الشركاء فى القتل.. فذهب مالك إلى قتل جميع الشركاء كالفاعل الأصلى.. وهذا هو القصاص.. أما الليث فرأى أن هذا يخالف روح آيات القصاص، فالمقصود بالقصاص هو الفاعل الأصلي، وعقابه فى جريمة القتل هو القتل، أما الشركاء فالحبس مدى الحياة حتى الموت.
الليث بن سعد لم يكن يحدِّث بكل ما يعرف من أحاديث، بل يختار ما يطمئن إلى صحته، ولم يكن يكتب كل ما يتحدث به فقيل له: إنا نسمع منك الأحاديث التى ليست فى كتبك.. فقال وكان على ظهر مركب لو كتبت ما فى صدرى فى كتبى ما وسعه هذا المركب.. وكان يعدل عن الرأى إذا تبين له أنه أخطأ وأن هناك رأياً أوجه منه.. تكلم مرة فى مسألة فقال له أحدهم: فى كتبك غير هذا؟! فقال الإمام الليث: «فى كتبنا ما إذا مر بنا هذبناه بعقولنا وألسنتنا»..
وظل الشيخ يعلم الناس ويعين الآخرين ولم ينقطع يوما عن حلقته فى مسجد عمرو أوفى بيته حتى بلغ الثانية والثمانين ليرحل فى ليلة النصف من شعبان عام 175ه تماما فى مثل الليلة المكرمة التى ولد فيها عام 93ه.. ويبكيه المصريون أحرّ بكاء ولكن ماذا يجدى البكاء عليه بعد أن أضاعوه!! ليقول عنه الإمام الشافعى الذى قام بزيارة قبره بمجرد استقراره فى مصر ليتساقط دمعه ومن معه حزنا عليه قائلا: «كان الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه ضيعوه، وهو الذى حاز أربع خصال يكملن صرح العالم الجليل: العلم، والعمل، والزهد، والكرم»..
وعن الإمام الليث قوله: «ماالرحمة بأسرع إلى أحد منها إلى مستمع القرآن، لقوله تعالي: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون» (لعل) من الله تفيد الوجوب.. هذا هو السامع فما بالكم بالقارئ، وما بالكم بالحافظ..
صورة الأم
عند الشروع فى إصدار مجلة «نصف الدنيا» فى فبراير 1990 نعمت بأقلام ثلاثية الإبداع فى مصر الذين طلبوا منى حجز صفحاتهم الأسبوعية فيها.. الأستاذ أحمد بهاء الدين سيكتب مقالاته حول جدية التذوق الفني، والعملاق نجيب محفوظ سيمنحنى كل ما يجود به قلمه ليكون حِكرًا علينا وحدنا، والدكتور يوسف إدريس يحجز من الآن الصفحة الأخيرة: «سأكتب أخطر أعمالى الأدبية التى فيها تعرية للنفس والتاريخ والأصل والنسب والأسباب والمسببات ودور الأم والأخت والجدة وأصل المعرفة والحب والجنس».. وبدأ إدريس يكتب فصلا وآخر وآخر، ونرسل إلى المطبعة بفيض الاعترافات تحت عنوان «ملكة» وتتصل بنا صحف عربية تريد نشر المسلسل الروائى فى نفس التوقيت معنا، وأسارع بتهنئة يوسف إدريس، ويمتد خيط الاعترافات ليصل إلى بدايات شعور طفل القرية بدبيب الرجولة، واقرأ تلك الحلقة بالذات ويسقط فى يدى فقد كانت عبارات الأديب الجرئ التى تتجول بحرية جامحة فى عالم التعرف على الجنس لا أستطيع مواجهة بعض سطورها وسطوتها وصراحتها وكشوفاتها واجتياحها، ولم أجد لدىّ الشجاعة ولا الحق ولا الجرأة للتصدى لها وسحب تلك الكلمات المتجاوزة من تحت عيون القارئ، فلجأت إلى رجاء زوجة إدريس اقرأ لها ما خشيته فشاركتنى تخوفى ونصحتنى بالتقاط بعض الكلمات ووضعها جانبًا وطمأنتنى بقيامها بدور المحامى فى مواجهة غضب الكاتب الكبير الذى ابتلع غضبته ودارى استياءه ليؤجل كل صراحته لحين نشر عمله كاملا فى روايته القادمة..
وظل يوسف إدريس يكتب أحداث حياته، وفجأة وجدت صوته يعتذر عن التكملة.. أرجوك.. لماذا؟!.. لقد تعلق بها الجميع بشغف بالغ.. حرام عليك.. سرد لى يومها أكثر من حجة لم يطاوعنى مخى على تصديقها، وصدق حدسى فى أن صعوبة وحساسية كتابة السيرة الشخصية قد صنعت قفلة لدى المتدفق الفضفاض صدقًا.. كانت روايته «ملكة» قد فتحت جراح طفولته التى ظل يتهرب منها دومًا.. عندما وضع الكاتب المحلل أحداث حياته أمامه على مسرحه الخاص لم يستطع تحمل زخمها ولا تداعى وتفاقم مواقفها فتوقف.. وصمت السرد للأبد.. وذهبت أنا أبحث عن طفولته فى قرية البيروم شرقية التى ولد فيها ابنا لبرج الثور فى التاسع عشر من مايو 1927 حيث تم انتزاعه طفلا فى الثامنة من أسرته ليبعث به إلى جدته لكى يكون قريبًا من المدرسة الابتدائية،
وكان عليه الاستيقاظ فى الخامسة صباحا فى الشتاء البارد ليمشى 4 كيلو فى الطريق إلى المدرسة، وعادة يصل قبل أى تلميذ من المدينة خوفًا من التأخير، وكان يصل فى حالة يرثى لها حذاؤه عليه أكوام من الطين، وملابسه مبللة، ويجىء المفتش للطابور ليفتش على الأحذية فيكون أسوأ تلميذ مظهرًا.. «كل يوم آخذ علقة فى الطابور وظللت أرجو والدى أن يعطينى أجرة القطار لكى أذهب وأرجع به ولكنه كان خائفًا ويتصور باستمرار أننى سأقع تحت عجلات القطار وأموت، حتى عندما كنت أسير على السكة الزراعية التى لا تخترقها عجلات القطار، وفى هذه الطفولة كنت أشتهى تناول الطعمية ولا أستطيع لأننى آخذ تعريفة فى اليوم، وأتذكرنى طفلا يذاكر على لمبة جاز واتثاءب وعلىّ أن أطفئ المصباح لأنى نسيت مرة أن أطفئه فأخذت علقة. كنت أفقر تلميذ فى المدرسة لأنى بعيد عن أهلى وكم حلمت أن أجلس مع إخوتى نأكل طعاما قامت أمى بطهوه، لأننى كنت آكل مع هذه العائلة الزراعية الكبيرة الكادحة.. ثلاثون رجلا وامرأة أصغرهم عمره يصل إلى ثلاثين عاما وكان عمرى وقتها ثمانى سنوات.. كنت الطفل الوحيد بينهم وكنت بالتالى أعامل معاملة الكبار.. هل يصدق أحد أن أول مرة تقبلنى فيها أمى كانت عندما التحقت بكلية الطب؟! كانت تُؤمن بالتربية الصارمة، وكانت شخصيتها أقوى من شخصية أبى.. أمى سيدة لا تقرأ ولا تكتب وكانت دعوتها الدائمة لى كلما زرتها: روح يا يوسف يابنى ربنا يتوب عليك من الكتابة!
الأم لا تعطيك الحنان والحب والأمان والعطف فقط، بل تمنحك خلاصة الإنسانية، ومن خلالها تحب فيها جنس النساء! الأم تعمل ما هو أخطر وأهم من كل ذلك! إنها أول امرأة تعرفها، فإذا كانت العلاقة بينك وبينها علاقة تفاهم، فإنك ستنعم بالتفاهم مع كل النساء وبالعكس، وعمرك ما تلقى واحدة عندها أمومة فائضة إلا إذا كان عندها أنوثة فائضة، ومن فيها جدب فى الأمومة محال تشع ولو فولت واحد أنوثة».
وتُذكرنا صرامة أم يوسف إدريس بأم الأديب الفرنسى ألبير كامى (1913 1957) المولود فى مدينة «مندوفى» التابعة لمديرية قسطنطينية بالجزائر، والحاصل على نوبل بعد وفاته فى 1957 التى عُثر بعدها على مخطوطة تروى تفاصيل طفولته وصباه فى الجزائر، حيث ولد وتربى داخل غرفتين فقيرتين مع أمه وجدته وخاله وأخيه الأكبر عندما كانت الأم تعمل كخادمة لتقيم أود الأسرة الكبيرة.. يكتب كامى عن أمه بعد زيارتها فى صورتها النائية فى عزلتها، المسربلة فى صمتها، الوحيدة أمام نافذة تطل على الطريق الصاخب دونما أى اندماج فيه.. كانت هناك بشعرها الغزير الذى أصبح أشيب منذ سنوات.. مازالت منتصبة القامة رغم سنواتها الاثنتين والسبعين..
توحى بأنها أصغر بعشر سنوات عن سنها الحقيقية نظرًا لنحافتها المتناهية ونشاطها الذى لم يزل واضحًا».. وكما فى كل مرة يلتقيان تقبله مرتين أو ثلاث مرات، ثم تضمه بكل قواها حتى يشعر بضلوعها وعظامها الصلبة المرتعشة قليلا.. تُقبله ثم تتركه وتعود لتسترجعه لتُقبله مرة أخرى كما لو أنها ترى فى كل مرة أنها لم تستطع أن توصل إليه مقدار حبها، وكانت تقول له: «يابنى.. لقد مكثت بعيدًا طويلا».. وفور طقوس أمومتها تلك تستدير لتجلس ثانية فى قاعة الطعام أمام النافذة، وكأنها لم تعد تفكر فيه ولا فى أى شىء آخر، بل أحيانا تنظر إليه بعدها بتعبير غريب وكأن صخب قدومه قد أزعج العالم الضيق الهادئ الذى اعتادت أن تتحرك فيه وحيدة. ذلك ما كان عليه الوضع بعدما أصبح رجلا نائيا أما فى طفولته فكان «كامى» إذا ما عاد متأخرًا خلال تناولهم العشاء، ينال علقة دامية بالكرباج الخشن من الجدة حيث لم تكن الأم تتدخل إطلاقا، وإنما تنظر ناحيته بعيونها الجميلة العذبة الحانية بعدما ترى دموعه لتقول: «اشرب حساءك.. انتهى الأمر.. لا أسمع لك صوتا».. وفى تذكر كامى لجلسة أمه التى ظل خيالها ماثلا أمامه يكتب: «فى جلستها على المقعد غير المريح تعطى جانبًا واحدًا من وجهها، الظهر محنى بعض الشىء بفعل التقدم فى السن ولكنه لا يسعى بفقراته إلى الاستناد إلى ظهر المقعد، واليدان معقودتان حول منديل صغير تكوّره من آن لآخر بأصابعها المنحدرة، ثم تتركه فى حجر الثوب بين يديها الساكنتين بينما تدير رأسها قليلا إلى الشارع..
إنها هى نفسها من ثلاثين عاما مضت بالوجه الذى ظل نضرًا بمعجزة».. ويستعيد كامى بعضًا من ملامحها: «كانت دائمًا متأنقة على طريقتها الخاصة، ومهما تكن ملابسها فقيرة لا يتذكر أنه رآها ترتدى شيئا قبيحا.. وفى نظرتها للحياة تراها كلها مصنوعة من كبد الشقاء الذى لا نستطيع شيئًا حياله، وكل ما نقدر عليه هو أن نتحمله.. وبعد استعادة كثير من تفاصيل طفولته ينتهى كامى إلى تلخيص حياة أمه بأنها كانت شخصية مستكفية منها فيها ولم تكن تذهب قط للحفلات، ولم تكن تعرف القراءة والكتابة، بالإضافة إلى أنها كانت نصف صمّاء، وكانت مفرداتها محدودة وإن كانت أكثر من مفردات أمها، وظلّت حياتها خالية من الترفيه، ولم تذهب إلى السينما على مدى أربعين عاما سوى مرتين أو ثلاث مرات ولم تفهم شيئا مما جرى على الشاشة، ولم يكن بإمكانها أيضًا سماع الراديو، أما الصحف فكانت تتصفح المجلات المزينة بالصور وتقرر أن ملكة انجلترا تبدو دائما حزينة.. وفى المرة الوحيدة التى تأنقت فيها أمه وقصّت شعرها واستعادت شبابها ونضارتها عندما قام بزيارتهم تاجر الأسماك وصديق الخال المدعو أنطوان حيث لم يعجب الجدّة الحال لتعترض عليها بقولها أنها تبدو فى زينتها مثل الغانية، ومن يومها عادت الأم إلى أثوابها السوداء أو الرمادية وهيئتها الصارمة.. وبعد رحيل الجدّة عاش الأخ والأخت معًا لا يستطيعان أن يتخلى أحدهما عن الآخر، يتعاونان على الحياة، ويتابعان حوارا أخرس تضيئه على فترات متباعدة نتف من الجمل.. وبعد وفاته لم تشعل فى البيت مصباح البترول، تاركة الليل يجتاح الغرفة تدريجيًا، وكانت هى نفسها تمثل كتلة أكثر إعتامًا وكثافة وهى تنظر بتأمل للنافذة الصاخبة، لكنها صامتة بالنسبة لها.. ولم يزل كامى يذكر أن أمه لم تسأله عن شيء قط، وعندما كان يصيح بأنه حصل على درجات جيدة كان الجميع منصرفًا عنه، وفى نهاية كل عام دراسى كانت الجدّة والأم تحضران حفل توزيع الجوائز والشهادات، وفى البيت بعد عودتهم، وقبل أن ينتهى من حصر ما حصل عليه من جوائز ودرجات يرى أمه قد غيّرت ملابسها، ولبست خفّها وزررت قميصها الكتانى وراحت تجذّب مقعدها نحو النافذة لتبتسم له قائلة: (لقد عملت بجد) ثم تهز رأسها وهى تنظر إليه وينظر إليها فى انتظار شيء لا يعرفه لا يأتى أبدًا، بينما تذهب الجدة إلى المطبخ تلعن الإرهاق وتعب الأبناء وعيشة الكفاح..
وفى صفحات الختام يعترف ألبير كامى عمّا يجيش به صدره من مشاعر تجاه أمه: «ما كان ينتظره من أمه ولا يحصل عليه أو ربما لا يجرؤ على الحصول عليه يجده بالقرب من الكلب بريان عندما يتمدد إلى جواره فى بقعة الشمس ويهز فى وضعه الرابض طرف ذيله دليل الرضا عما حوله».
ولا بطبعه اللوم
بيرم التونسى مكث طويلا سادرًا فى اللهو وحياة الليل والكأس والسهر وصحبة العبث إلى أن اختفى فجأة فاعتقد الجمع أنه قد تم اعتقاله أو نفيه من جديد، وتأتى المفاجأة بأنه لبى نداء ربه لزيارة بيته الحرام ليؤدى فريضة الحج، حيث كتب قصيدته «القلب يعشق كل جميل» التى غنتها أم كلثوم بعد رحيله بعدة سنوات وكان قد دوَّن جميع أبياتها الخالدة فى الروضة الشريفة: «القلب يعشق كل جميل.. ويا ما شفت جمال يا عين.. واللى صدق فى الحب قليل.. وإن دام وصاله يوم ولا يومين.. واللى هويته اليوم.. دايم وصاله دوم.. لا يعاتب اللى يتوب ولا بطبعه اللوم.. واحد مافيش غيره.. ملى الوجود نوره.. دعانى لبيته.. لحد باب بيته.. ولما تجلىّ لى بالدمع ناجيته.. كنت أبتعد عنه.. وكان ينادينى ويقول مصيرك يوم تخضع لى وتجينى.. طاوعنى يا عبدى.. طاوعنى أنا وحدى.. مالك حبيب غيري.. قبلى ولا بعدي.. أنا اللى أعطيتك من غير ما تتكلم.. وأنا اللى علمتك من غير ما تتعلم.. واللى هديته إليك لو تحسبه بإيديك.. وتشوف جمايلى عليك.. من كل شيء أعظم.. سلّم لنا تسلم.
مفترق الطرق
إذا ما كانت هناك علاقات مثالية ووطيدة ومنسجمة ومتلاحمة ومتناغمة وناجحة وحميمة وأبدية وعفوية ومتزنة ومتفاهمة ومتوائمة ومتفاعلة ومتداولة ومتعاقبة ومتماشية مثل علاقة العسل الأسود بالطحينة، والحمام بالفريك، والملوخية بالأرانب، والجبن بالبطيخ، والبيض بالبسطرمة، والبسبوسة بالقشدة، والفسيخ بالبصل، والمدمس بالزيت الحار، والموزة بالفتّة، والزبادى بورق العنب، والكوارع بالخل والثوم.. فهناك أيضًا علاقات محسوسة تجمع بين أسماء وكلمات وعبارات وتوارد أفكار وخواطر وجدتها تتآلف وتتزاوج على اللسان، فما أن تبزع الأولى إلا وتتبعها رادفة الثانية لتلحق بها دوغرى أى لتكون الاثنتين بمثابة الكلمة ورد غطاها، فعلى سبيل المثال ما أن تقول مجدى يعقوب إلاّ ويعقبها «من القلب للقلب»، وتذكر ناعسة لتتبعها ب«أيوب»، والعاصمة «الجديدة»، وصراع «الحضارات»، والحمل «الكاذب»، وخاصمك «النبى»، وكلام «فى سرك»، وتعالى «أقول لك»، وزاهى «حواس»، وجلابية «بارتى»، والمشى «البطّال»، ورعاية «أمريكية»، وفهمنى «يا قمر»، وماما زمانها جاية، وبطاطس «على أرض الطريق»، والفيروس تيدروس أدهانوم»، وكلا «وألف كلا»، وسورة يوسف «كاميرا صوت مصطفى إسماعيل»، والقوى «الناعمة»، وزحف «الشيخوخة»، ومفترق «الطرق»، وأبو«رجيلة»، والخيانة «العظمى»، وأجواء «ملبدة»، والسجادة «الحمراء»، والحركة «التشكيلية»، وميلانيا «الطلاق»، وبى بى «سى»، ومهرجان «الكورونا»، وبشر «الصابرين»، وكائنا «ماكان»، وحبيبى «يسعد أوقاته»، وابن «المقفع»، والخاطف «والمخطوف»، والعلم «نورن»، والسمع «والطاعة»، ومضيق «هرمز»، وفايزر «موديرنا»، وعزلة «بريطانيا»، ومجموعات «التقوية»، والمدح «والقدح»، وتجديد «الخطاب الدينى»، والقذافى «لوكيربى»، والملف «الإيرانى» وعروس «بيروت»، وسايق «عليك النبى»، وقيمة «وقامة»، وقناة «العربية»، وعبدالعاطى «سد النهضة»، ودعاء «الكروان»، وفيلسوف «الغبرة»، وقولا «واحدًا»، وإنت «شايف إيه؟»، والتنمية «المستدامة»، والحلو «مخاصمنى»، وفاروق «حسنى»، والتوحيد «والنور»، وفصل «الدولتين»، والمستحيل «والممكن»، والترعة «البولاقية»، والوكالة الدولية «للطاقة الذرية»، ومصطفى «النحاس»، وصدر «الإسلام»، والظروف «المواتية»، ولا غالب «إلا الله»، والأصالة «والمعاصرة»، وكلام الليل «يطلع عليه النهار يسيح»، وكلمة منى «وكلمة منه»، والتلميح «والتصريح»، ودوام الحال «من المحال»، والراعى «والنساء»، وساكن قصادى «وبحبه»، وعجبى «چاهين»، والقول «الفصل»، والمصالح «تتصالح»، وبلاوى «أردوغان»، وكافة «الميادين»، وأنيس «منصور»، ولانكشاير «ويوركشير»، وليلى «فى العراق مريضة»، واسم «على مُسمى»، ورقيق «الحاشية»، وياسين «ولدى»، وروح «الزمالة»، والأعمار «بيد الله»، وخالى «الوفاض»، ومحطة «الرمل»، وجبران «خليل جبران»، وسلامتها «أم حسن»، والواد «خللى بالك منه»، وكش «ملك»، وآه «لو لعبت يا زهر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.