احتفت الأوساط الثقافية الأسبوع الماضى بذكرى ميلاد «أمير الرواية العربية» نجيب محفوظ، واحتفت وزارة الثقافة المصرية هذا العام بافتتاح معرض فنى يضم نحو (150 بورتريه) لكل من «محفوظ وماركيز»، افتتحته د. إيناس عبد الدايم بمتحف محمود مختار لتحقق رغبة كثيرا ما راودت صاحب نوبل، لكن الظروف حالت دون تحقيقها، وهى لقاؤه بماركيز.. أما «الأهرام العربى» فقد احتفلت بأديب نوبل على طريقتها الخاصة والتقت ابنة نجيب محفوظ «هدى» وفتحت معها خزائن الذكريات، لتنفرد بنشر عدد من الوثائق والصور النادرة. كان نجيب محفوظ قد تلقى رسالة من ماركيز، عندما تعرض لمحاولة الاغتيال الآثمة يحثه فيها على أن يكتب فى جميع الأحوال قائلا: ”الكاتب لا يجب أن يترك القلم” وفى المرة الأولى كتب له مهنئا بفوزه بجائزة نوبل عام 1988. فى خزائن الذكريات، كانت هناك صور لمحفوظ مع أسرته أثناء الاحتفال بعيد ميلاده، وتحدثت د. هدى نجيب محفوظ إلينا عن طقوسه فى هذا اليوم قائلة: إنه كان لا يحب صخب الاحتفالات، وكان يوم ميلاده يقضيه كأى يوم عادى، لكن والدتى ونحن، كنا نحرص على الاحتفاء به، فكنا نحضر التورتة، وكانت الوالدة تهتم بإحضار الهدايا لنجيب محفوظ، فى هذا اليوم، وكانت تختلف كل عام عن الآخر، أحيانا كانت تهديه ساعة، وأحيانا أخرى تشترى له معطفا، وفى أوقات ثانية كانت تحضر له زجاجات العطور. رسالة ملك البحرين وتضيف د. هدى: أما نحن ففى طفولتنا كانت نوعية الهدايا التى نقدمها لوالدى بسيطة، من مصروف الجيب، لكن عندما كبرنا، وأصبحنا نسافر خارج مصر، كنا نحضر له أحذية من أجود أنواع الجلود، نظرا لأنه كان يعانى من مرض السكرى، ويحتاج إلى أحذية مريحة. وتواصل: كنا نحضر إليه جميع المأكولات، الخاصة بمرض السكرى، كالبسكويت والخبز، لأنه كان يفضل بعض أنواع الحلويات، لكنه كان يتناول الخاصة منها بمريض السكرى، وهذه المنتجات كانت متوافرة أكثر خارج مصر فى ذلك الوقت، لذلك يوم عيد ميلاده كان يتناول قطعة تورتة صغيرة جدا، لأنه كان يفضل الأكل الصحى، ويتناول كميات قليلة، وكانت المربى والملوخية من أحب الأشياء إلى قلبه. الاحتفاء الثانى بعيد ميلاد محفوظ كان يقوم به أعضاء شلة الحرافيش، وكلهم رحلوا: المخرج توفيق صالح، الفنان أحمد مظهر، الكاتب محمد عفيفى، الرسام بهجت عثمان، وأحيانا صلاح جاهين، كانوا يحرصون على الاحتفال به كل عام، ومع تعدد المجالس المحفوظية، كان كل فريق يقدم احتفاليته الخاصة به، وفى بعض هذه الاحتفالات، كان عدد من الفنانين حاضرا، منهم عادل إمام وفاتن حمامة، وكذلك ليلى علوى، لكن يظل الاحتفال الأشهر والأهم هو احتفال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل و”الأهرام” بعيد ميلاد محفوظ الخمسين، فقد حضرت مصر هذا الاحتفال، وكان على رأس الحضور أم كلثوم وتوفيق الحكيم وغيرهما من رموز مصر الثقافية والفنية. رسالة إلى فرانسوا ميتران كما أن الجامعة الأمريكية تحتفى بمحفوظ فى هذا اليوم، على طريقتها الخاصة، حيث كانت تعلن كل عام عن الفائز بجائزة نجيب محفوظ للرواية، وقد فاز بها عدد كبير من الروائيين المصريين والعرب، وكانت زوجة محفوظ تحضر هذه الاحتفالية، التى لم تغب عنها التورتة، إلى أن توقفت هذه الاحتفالية العام الماضى، نظرا لوجود خلافات بين الجامعة وكريمة نجيب محفوظ، حالت دون إقامة الحفل. مسجد نجيب محفوظ من ضمن الصور التى أمدتنا بها د. هدى نجيب محفوظ صورة لافتة خاصة بمسجد يحمل اسمه، والمسجد موجود حاليا فى الكيلو 63 طريق مصر الإسكندرية الصحراوى، اللافت للنظر فى الموضوع أن “صاحب نوبل” كان قد خصص جزءا من قيمة الجائزة، لإنشاء مسجد على طريق مصر الإسكندرية الصحراوى، وعن حكاية هذا المسجد تشير د. هدى إلى أن والدها “قرر أن يتبرع بجزء من الأموال التى حصل عليها من جائزة نوبل لبناء هذا المسجد، وكانت قيمة المبلغ تساوى نصف مليون جنيه، طبعا المسجد عليه لوحة من الجرانيت تحمل اسم “نجيب محفوظ”، وتم افتتاحه عام 2008، حيث تكفلت والدتى بجميع احتياجات المسجد ومساحته تبلغ 430 مترا يتسع لاستقبال ألف مصل”. رسالة من رمسيس نجيب وتضيف د. هدى: أن المسجد افتتحه الدكتور محمود حمدى زقزوق رحمة الله عليه، وكانت والدتى تجلس فيه لقراءة القرآن الكريم، وكذلك شقيقتى فاطمة (رحمة الله عليها) عندما توفيت، خرجت جنازتها من هذا المسجد، وتم دفنها بجانب والدها، طبعا هذا المسجد كان بالقرب من قرية العزيزية، وكان بها منزل محاط بحديقة، يذهب إليه الكاتب الكبير بين الحين والآخر، للمكوث به قليلا من الوقت، نظرا للهدوء الذى تتمتع به هذه القرية. طقوس إسكندرية تقول د. هدى: كان والدى يفضل السفر للإسكندرية لقضاء إجازة الصيف هناك، وكنا نلتقط الصور معه على الشاطئ، طبعا لمدينة الإسكندرية طابع خاص عند نجيب محفوظ، وظهر هذا فى روايته “ميرامار”، حيث بدأها بعبارة: ”الإسكندرية أخيرا، قطر الندى، السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع”. عندما كان يسأل عن رأيه فيها كان يقول: ”يعجبنى جوها، لا فى صفائه ولا إشعاعاته الذهبية الدافئة، ولكن فى غضباته الموسمية” فقد كان صاحب نوبل يفضل الذهاب إلى الإسكندرية فى شهر مايو من كل عام، ويستمر بها حتى الأربعاء الأخير من أغسطس، وكان من ضمن طقوسه اليومية، التى كانت تبدأ فى التاسعة صباحا، وتنتهى فى السادسة مساء، الجلوس على مقهى “دى لاتيه” أو تريانو بمحطة الرمل. كان “محفوظ” يلتقى طوال أشهر الصيف بمجموعة من أدباء الإسكندرية، كما كان يلتقى هناك بالكاتب توفيق الحكيم يوميا، وتحكى د. هدى: والدى كان يحرص على الذهاب معنا إلى الشاطئ، وكان يحرص على التقاط الصور بواسطة أحد المصورين المنتشرين آنذاك، وكان التقاط الصور للمصطافين مصدر رزقهم. مع أدباء الإسكندرية خطاب بالفرنسية حصلت “الأهرام العربى” على خطاب من نجيب محفوظ مكتوب باللغة الفرنسية، وموجه إلى الرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا ميتران، حيث أرسل “ميتران” خطابا بعد حصول نجيب محفوظ على نوبل يهنئه فيه بالجائزة، ووقتها ردت الخارجية المصرية على هذا الخطاب، أما المرة الثانية فأرسل ميتران خطابا يدعو محفوظ فيه للاحتفاء بالعيد القومى لفرنسا، لكن نجيب محفوظ اعتذر عن عدم الحضور، وكان الخطاب بتاريخ 8 يونيو 1989 يقول محفوظ فيه: ”سيدى الرئيس: لقد تلقيت دعوتكم الكريمة للمشاركة فى احتفالات الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية المجيدة وأشكركم من كل قلبى، إنه لشرف عظيم أن تدعونى لهذا الاحتفال، ولولا حالتى الصحية كنت سأكون سعيدا جدا بالحضور، ومع ذلك لم يمنعنى هذا من تقديم مساهمتى المتواضعة هنا فى القاهرة، حيث قمت بتسجيل لقاء مع المركز الفرنسى بهذه المناسبة، علاوة على ذلك، فإنه من خلال التلفاز والراديو والصحافة، هناك أكثر من فرصة للتعبير عن كل ما تمثله الثورة الفرنسية التى أعطت للعالم الإعلان الأول لحقوق الإنسان، الاحتفال بهذه المئوية الثانية يتزامن مع الفترة الثانية فى رئاسة الجمهورية الفرنسية، وهى علامة مشرفة لمساركم أبجلها بشدة، أرجو أن تتقبلوا سيدى الرئيس أعمق امتنانى وأخلص تمنياتى بالنجاح”. مع ابنته على الشاطئ كان الرئيس “ميتران” مولعا بالثقافة العربية، وظهر ذلك فى لغته، حيث أكد مستشاره الثقافى أنه كان يتمتع بحس شعرى مرهف ولغة أدبية راقية، كما أنه كان يحب قراءة “زقاق المدق” و “قصر الشوق” لنجيب محفوظ، وكان له رأى خاص فى الثلاثية، وهنا لابد أن نشير إلى أن العديد من أعمال محفوظ قد ترجم إلى اللغة الفرنسية منها: ”ميرامار - الثلاثية - اللص والكلاب” وبعد حصوله على جائزة نوبل ترجمت “أولاد حارتنا - عبث الأقدار - خان الخليلى - القاهرة الجديدة” كما ترجمت دار “أكت سود” الفرنسية كتاب مذكرات وذكريات نجيب محفوظ الذى أعده رجاء النقاش والذى يضم اللقاءات التى دارت بينه وبين “محفوظ”. أوراق عن التصوف وكتبت الناقدة الفرنسية “نيكول شارديرد” إن نجيب محفوظ كان حكاء شرقيا، لعبت أعماله دورا فى التراث الروائى الحقيقى، أعماله لا تقل أهمية عن تولستوى ومارسيل بروست، فهو كاتب مهموم بقضايا مجتمعه الكبرى، وشخصيات رواياته ديناميكية متحركة مع الزمن. وهناك بعض الدراسات التى قامت بها الباحثة الفرنسية مارى فرانسيس التى تحمل عنوان “نجيب محفوظ ابن الشارع” تقول فيها: شىء مدهش أن المسار الطويل الذى أوصل ابن أحد الأحياء المتواضعة فى القاهرة إلى جائزة نوبل والتكريم العالمى، فلابد من الاعتراف العالمى بشهرته وأعماله المفعمة بحب العدالة الاجتماعية والحرية التى وضعته على قمة الأدب العربى”. مع والده وإخوته تشير فى دراستها إلى أن “محفوظ” استطاع التوفيق بين اللغة العربية والكلاسيكية ولغة الحياة اليومية ما ساعده على الوصول إلى قطاع عريض من جماهير العالم فهو من قال على لسان إحدى شخصيات روايته “أولاد حارتنا”: “إما أن تكون مسئولا عن البشرية كلها أو لا تكون” وكان وزير الثقافة الفرنسى الأسبق رونو دونديو يقول عنه” نجيب محفوظ رسم لوحات دقيقة لمجتمعه وخصوصا حارات القاهرة”. هدية بحرينية عندما حصل محفوظ على جائزة نوبل أرسل له أيضا الملك عيسى بن سليمان آل خليفة ملك البحرين خطابا رسميا يقول فيه: ”لقد أسعدنا النبأ السار بفوزكم بجائزة نوبل للآداب لهذا العام، وإننا نبعث لشخصكم الكريم خالص تهانينا، كما يسرنا أن نقدم لكم هدية تذكارية من صنع البحرين آملين أن تبقى تذكارا لهذه المناسبة الأدبية الكبيرة” وكان هذا الخطاب مؤرخا بتاريخ 3 نوفمبر 1988. وضمن ما زودتنا به د. هدى نجيب محفوظ بعض “المسودات” التى تحتوى على تعريفات للصوفية، وغيرها من عبارات خاصة بهذا الفضاء الكبير، الذى استعان به محفوظ فى أعماله الروائية. وتؤكد د. هدى أن صاحب “الحرافيش “كان دائما يقرأ فى كتب الصوفية وكان يعبر عن رأيه فيها من خلال مسودات على ورق، وتحكى أنها عندما كانت صغيرة شاهدته يقرأ كتابا عن الصوفية ويكتب رأيه فى مسودة، فقامت بعمل شخبطات على الورقة. طبعا اهتمامه بالصوفية، راجع لتكوينه ونشأته فى حى الجمالية بالقرب من مسجد سيدنا الحسين، كما أن دراسته للفلسفة أيضا أثرت عليه فكان يقول عنها عبر لسان كمال عبد الجواد أحد أبطال “الثلاثية”: الفلسفات قصور جميلة لكنها لا تصلح أبدا للسكنى” طبعا هو مارس السياسة والفلسفة والتصوف عبر الأدب، الذى أخلص له إخلاصا تاما، تابع وقرأ كل المذاهب والفلسفات، لكنه طوعها وفق رؤيته المحفوظية بعيدا عن الإخلاص لجمود أى فكرة. مع والده وإخوته وتشير د. هدى أن والدها عندما كان يخط هذه المسودات كان يشرع فى كتابة روايته “الشحاذ” كان يعتبر الكتابة نوعا من الجذب الصوفي، والمبدع درويش مجذوب من أول البصيرة النافذة، إلى الولى من أصحاب الكرامات ومن أهل الخطوة، ذلك الذى يرى من خلف الحجب ما لا يراه الآخرون، وظهر الحس الصوفى بشكل كبير فى روايته “حديث الصباح والمساء” وكذلك رواية “أولاد حارتنا” التى كان يعتبرها نوعا من الاشتراكية الصوفية. من عالم نجيب محفوظ المغموس بالروح الصوفية إلى عالم السينما، التى ألقت الضوء على أعماله، حيث تحول العديد من رواياته إلى أفلام سينمائية، أثرت السينما المصرية، وأثرت فى أجيال عديدة، طبعا كانت هناك علاقة قوية تربط بين نجيب محفوظ ورمسيس نجيب، منتج الجواهر فى تاريخ السينما المصرية، فله تاريخ حافل، حيث أنتج العديد من الأفلام التى أخذت عن روايات “محفوظ” ومنها “الفتوة، السكرية، القاهرة 30، ، زقاق المدق”. لافتة المسجد شيك بدون رصيد ومن المواقف الطريفة التى تعرض لها “صاحب نوبل” من رمسيس نجيب، أنه عندما أنتج فيلم “زقاق المدق” كتب له شيكا بدون رصيد وكان إخراج الفيلم بتاريخ 1961، ولم يحصل محفوظ على مستحقاته سوى عام 1965، عندما حكى هذه الواقعة لإحدى الصحفيات، ونشرتها، غضب رمسيس نجيب، وذهب على الفور إلى نجيب محفوظ يعاتبه عما بدر منه، وطلب رمسيس من محفوظ أن يكتب له معالجة سينمائية للأعمال التى سينتجها ويحصل على مستحقاته دفعة واحدة.