د. عبد المنعم سعيد الفارق بين الدول المتقدمة والأخرى التى ليست كذلك، أن الأولى يقوم تقدمها على إدارة الثروة بالتعبئة المستمرة للموارد البشرية والمادية فى الدولة؛ أما الثانية فتقوم حالتها على إدارة الفقر حيث يجرى تحصين الفقراء داخل فقرهم، مع تقديم العون والحصانة لبقية المجتمع لتأخير ساعة سقوطه إلى وهدة الفقر ما أمكن. إحدى علامات ثورة 30 يونيو 2013 أنها اختارت الطريق الأول، والذى يعنى أن طريق الحداثة لابد له من المرور بعملية صعبة وشائكة لتنمية الثروات المصرية، ليس فقط من حيث الكم ومعدلات النمو، وإنما من حيث النوع أيضا وهو ما يجعلها قابلة للاستدامة والاستمرار والاندماج فى العالم المعاصر بآفاقه التكنولوجية والإبداعية. قبل أسبوع، وبدعوة كريمة من الوزيرة القديرة د.هالة السعيد جرى عرض حلقة جديدة من حلقات إدارة الثروة المصرية على جمع إعلامى واسع ربما يشكل سابقة تحتذى كلما كان الأمر متعلقا بمبادرة مهمة لتعبئة القدرات والموارد فى طريق تطبيق رؤية مصر 2030. المسألة هذه المرة كانت صندوق مصر السيادى حيث جرى العرض والشرح من قبل الوزيرة ثم وبتفصيل أكثر من د.أيمن سليمان الرئيس التنفيذى للصندوق. وإذا كان يمكن أن يطلق على العمليات الكثيفة لإنشاء البنية الأساسية المصرية نوع من تعبئة الثروات المصرية، وأن تكون المشروعات العملاقة شاهدا على تنمية هذه الثروات، وأن تكون خطط التنمية المختلفة ومكوناتها الاقتصادية والمالية وسائل لإدارة هذه الثروات؛ فإن الصندوق السيادى يعنى حرفيا إدارة هذه الثروة فيما يدفع دماء جديدة وغزيرة إلى عروق التنمية والنمو والغني، وباختصار التقدم فى مصر. ولمن لا يعلم فإن الصناديق السيادية هى واحدة من الوسائل التى اتبعتها الدول المختلفة لتعبئة مواردها الاقتصادية وكان أولها الصندوق السيادى الكويتى فى عام 1950 لاستغلال الفوائض النفطية؛ وفى العموم فإن هناك نوعين منها: الأول هو الأكثر شهرة والناجم عن وجود فائض مالى من تصدير موارد طبيعية، حيث يؤخذ هذا الفائض أو نسبة منه إلى هذا الصندوق حيث يجرى استثماره لصالح الأجيال المقبلة. المثال التقليدى لهذا النوع من الصناديق يوجد لدى الدول المنتجة للنفط والغاز والثروات المماثلة. الثانى لا يعتمد على مصادر الثروة الطبيعية، وإنما على بعث الحياة فى أصول وثروات معطلة لسبب أو آخر، هو إحياء لرأس مال ميت لا يستخدم على الإطلاق، أو بعث الحياة فى أصول لا تعطى ما تستطيع من عائد. وما بين النوعين يوجد 93 صندوقا سياديا فى العالم قيمتها 8.2 تريليون دولار، ويقع قرب وسطها تقريبا صندوقنا السيادى بترتيب 43 وينتمى إلى النوع الثانى من الصناديق. الصندوق السيادى المصرى لا يزال فى أولى خطواته التى بدأت بتحديد الأوضاع القانونية التى تحدد التأسيس وطرق الحساب والبنيان الإدارى والتنفيذي. ما يهمنا أمران: أنه أولا سوف يضم جميع الأصول من أراض وعقارات ومواقع سياحية إما أنها غير مستخدمة على وجه الإطلاق؛ أو أن أستغلالها لا يرقى إلى الاستغلال الأمثل. وثانيا أنه سوف يضم مشروعات جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة وطرحها للاستغلال الخاص أو العام. الباب هنا مفتوح لقدر هائل من الأصول الخاصة بالوزارات والهيئات الحكومية أو العامة والتى انتهى استخدامها من قبل الدولة مثل مجمع ميدان التحرير، وأرض مبنى الحزب الوطنى الديمقراطى السابق، وغيرها من أصول مماثلة، أو التى سوف تخلو نتيجة انتقال الحكومة إلى العاصمة الإدارية. هذه الأصول ليست عالية القيمة فقط، وإنما هى قابلة للاستثمار، وتكوين فائض للقيمة يضيف ولا يخصم من الثروات القومية. وفى العموم فإن إحياء الأصول الميتة لايتوقف فقط عند المؤسسات العامة، وإنما ينبغى له أن يمتد أيضا إلى مؤسسات خاصة نجدها منتصبة فى قلب المدن المصرية دون استخدام لعشرات السنين، مع الاختفاء لكل الفرص فى المستقبل المنظور للاستثمار فيها. المثال الحى على ذلك البناء القائم فى قلب جزيرة الزمالك لقرابة أربعة عقود دون استغلال على وجه الإطلاق؛ وعلى هذا الشكل يوجد عشرات دون استخدام. الأمر بالطبع يحتاج إلى الكثير من المراجعات القانونية، ولكن ذلك يشمل حاليا أيضا أصولا قائمة للدولة ولدى المؤسسات المشرفة عليها تحفظات على نقل استثمارها إلى الصندوق السيادي. الأمر فى الأول والآخر ربما يحتاج قانونا شاملا يعرف ويحدد سمات ومواصفات الأصول غير المستخدمة أو الميتة التى لم يشملها تطويرا أو استثمارا أو تنمية أو استغلالا مفيدا خلال سنوات طويلة. التفكير يمكن أن يمتد إلى ما هو أكثر لأصول باتت متاحة للدولة المصرية وقابلة للكثير من الاستثمار، أو الشراكة، أو الاستغلال قصير أو طويل المدي. المثال نتج عن تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية حيث اكتسبت مصر مساحة اقتصادية خالصة فى البحر الأحمر قدرها 61 ألف كم2، أى قدر مساحة سيناء. هذه المساحة يجرى فيها الآن استكشافات بحثا عن النفط والغاز وموارد طبيعية أخري؛ ولكن ما تحتويه من ثروات يوجد فى 81 جزيرة تكاد تكون كلها خالية ويمكنها أن يكون لها ما كان للجزر اليونانية فى شرق البحر المتوسط من سكن وسياحة فى بيئة مثالية. والحقيقة أن جهدا سعوديا يجرى الآن فى المنطقة المقابلة على الشاطئ الآخر من البحر ليس فقط لإنشاء مدينة نيوم، وإنما أيضا استغلال الجزر القابلة للسكن والسياحة وأغراض أخري. بنفس الطريقة يمكن التفكير فى 155 جزيرة تقع داخل نهر النيل فى مواقع مختلفة يوجد منها 15 فى القاهرة، وكلها تمثل أصولا معطلة أو غير مستغلة استغلالا كافيا ما عدا جزيرتى الزمالك والمنيل. أخيرا فإن مصر لديها الكثير من الأراضى الشاسعة، التى ربما آن الأوان لإنشاء بنك للأراضى تابع للصندوق السيادى يستحوذ عليها ويتيحها للاستثمار الذى تكون عائداته موجهة للأجيال القادمة. الخلاصة هى أن مصر دولة بالغة الثراء بالأصول البرية والشاطئية غير المستغلة، وإذا جرى استغلالها كان ذلك محدودا أو فقيرا، وقد آن الأوان لبعث الحياة فى هذه الثروات الطائلة.