د. مراد وهبة شاهدت هذا الفيلم الذى يتخيل صراعا حادا بين بابا روما بنديكت السادس عشر والبابا فرنسيس الثانى عندما كان اسمه الكاردينال بيرجوليو وهو من الأرجنتين. وهو تخيل يكاد يكون واقعيا إذ الأول منغلق والثانى منفتح. وأنا كنت مهموما ومازلت بين قضيتى الانغلاق والانفتاح فى أثناء إعدادى رسالة الدكتوراه فى الفلسفة المعاصرة فى عام 1954 وكانت هاتان الظاهرتان هما محور الفصل الأول من الرسالة. ثم تطور تفكيرى فى شأنهما إلى البحث فى ظاهرتين أخريين وهما المطلق والنسبى وأصدرت عنهما كتابى المعنون قصة الفلسفة ومنهما انتقلت إلى ثنائية جديدة هى بين الأصولية والعلمانية. وفى هذا السياق الأخير قرأت مؤلفات البابا بنديكت عندما كان اسمه الكاردينال جوزيف راتزنجر. وكان قد تم تعيينه فى عام 1981 من قبل البابا يوحنا بولس الثانى رئيسا لمجمع عقيدة الايمان الذى هو امتداد لديوان التفتيش فى العصور الوسطى الذى كان مكلفاً بإدانة كل مَنْ يخرج عن عقيدة الكنيسة الكاثوليكية التى يقال عنها باللغة اليونانية القديمة دوجما ويقال عن صاحبها إنه دوجماطيقى، أى مالك للحقيقة المطلقة. ومع ذلك فقد أصدر البابا يوحنا بولس الثانى قرارا فى عام 1983 بإنشاء المجلس البابوى للثقافة برئاسة الكاردينال بول بوبار. وفى عام 1986 تسلمت خطابا من الأب كارييه أمين عام هذا المجلس ينبئنى فيه بأن الكاردينال بوبار قد وافق على عقد مؤتمر مشترك بين المجلس والجمعية الفلسفية الأفروآسيوية التى كنت أشرف بتأسيسها ورئاستها تحت عنوان الثقافات فى صراع أم فى حوار. وقد انعقد ذلك المؤتمر فى نوفمبر من عام 1990. وأهم ما جاء فى الكلمة الافتتاحية للكاردينال بوبار: إننا اليوم أكثر من أى وقت مضى فى حاجة إلى الكشف عن عوامل الصراع بين الجماعات البشرية، وإلى البحث عن حلول تستند إلى العقل والعدالة والحب الأخوى خاصة أن مصر مازالت حتى يومنا هذا نموذجا أصيلا لملتقى الثقافات بين الغرب والشرق. وفى هذه العبارات يبدو أن ثمة تناقضا خفيا بين مجمع عقيدة الإيمان والمجلس البابوى للثقافة من حيث إن الأول يدور حول المطلق فى حين أن الثانى يدور حول النسبى. وفى الفيلم يوجه البابا بنديكت تحذيرا إلى الكاردينال بيرجوليو الذى سيصبح فيما بعد البابا فرنسيس الثانى من الوقوع فى النسبية بسبب دعوته إلى أن تكون الكنيسة عصرية على الدوام، أى أن تكون داخل الزمن وليس خارجه وهى رؤية مناقضة لما يراه البابا بنديكت. وبناء على هذا التحذير طالب الكاردينال بوبار البابا بنديكت بضرورة إعفائه من منصبه. إلا أن الذى حدث بعد ذلك أن البابا بنديكت هو الذى طالب بأن يعفى من منصبه. وهذا هو الذى حدث ليس فى الفيلم فقط بل فى الواقع. ومع ذلك فقد تم تزييف الواقع عندما قيل إن البابا بنديكت استقال بسبب الشيخوخة مع أن الشيخوخة لا تأتى فجأة بعد مرور عامين على انتخابه بابا روما. وبعد إقالته تم انتخاب الكاردينال بيرجوليو ليكون هو البابا تحت اسم البابا فرنسيس الثانى وهو أول بابا لروما يأتى من خارج أوروبا أو بالأدق من أمريكا اللاتينية وبالذات من الأرجنتين التى تموج بالثورات. ومن هنا قيل إن البابا فرنسيس اختار هذا الاسم تأسيا بالقديس فرنسيس الأسيزى المدافع عن الفقراء. وفى هذا السياق أظن أنه يمكن إخراج فيلمين آخرين أحدهما يمس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والآخر يمس الجامع الأزهر. فى الفيلم الأرثوذكسى لدينا بابوان هما البابا شنوده الثالث والبابا تواضروس الثانى. الأول لم يكن منفتحا وكان يقول إن الحق فى قبضته. ومع هذه القبضة لا تفاهم ولا تنازل. وفى حوار معه منشورا فى مجلة مدارس الأحد فى مايو 1992 قال: إن الرسل عاشوا من أجل الحفاظ على قول الحق. وقد ذكر هذا القول فى سياق دخوله فى صراع مع البابا كيرلس عندما كان أسقفا للتعليم. وبعد ذلك دخل فى صراع مع الأب متى المسكين فحرض على عدم قراءة كتبه ثم سحبها من الأسواق. كما فصل الدكتور جورج بباوى من الكلية الاكليريكية بدعوى أنه من تلاميذ الأب متى المسكين. أما البابا تواضروس فقد كان متسامحا مع ما حدث. وفى فيلم الشيخان لدينا فضيلة الامام الأكبر الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود وفضيلة الإمام الأكبر الشيخ الدكتور حسين طنطاوى حيث الأول انحاز إلى الأصولية ولا أدل على ذلك من مقاله المنشور بصحيفة الأهرام حيث كفَر فيه الفلاسفة المسلمين من أمثال الفارابى وابن سينا وابن رشد لأنهم تأثروا بفلاسفة اليونان الوثنيين من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو. اما الثانى فقد كان مرافقا للقس الدكتور صموئيل حبيب رئيس الطائفة القبطية الانجيلية فى رحلة إلى أمريكا استغرقت ثلاثة شهور قبل أن يتم تعيينه شيخا للأزهر الشريف. والمعروف عن الأول أنه صاحب العبارة الشهيرة الله فوق كل الأديان, وهى فى رأيى عبارة تنطوى على نسبية الأديان أما الثانى فبعد أن عين شيخا للأزهر كان موضع هجوم حاد من قبل أصحاب الأصولية الإسلامية. والرأى عندى أن هذه الأفلام الثلاثة تقف فى الصدارة إذا أردنا التحرر من الأصوليات الثلاث وغيرها من أصوليات أخرى وهو تحرر ضرورى لأنها جماهيرية الطابع. وهذه الجماهيرية تستلزم بدورها توعية الجماهير لأن الجماهير فى هذا الزمان الكوكبى على علاقة عضوية بالممارسة السياسية وبالتالى فإن تجاهلهم يعد فرصة تاريخية للأصوليات الدينية فى احتضانها لهم والتحكم فيهم تمهيدا للاستيلاء على السلطة بلا مقاومة. ولا أدل على صحة هذا الاستدلال مما حدث لثورات الربيع العربى التى اشتعلت فى عام 2011 وأدت إلى استيلاء الإخوان المسلمين على السلطة بلا مقاومة.