أصوات قادمة من بعيد، من خلف المحيطيِّن، يراها البعض متناقضة، ونراها نحن متغيرة، لا أكثر ولا أقل، عاكسة صورة العالم الجديد ، قد تكون صاخبة أو خافتة، لكنها فى العموم كاشفة. لم تستطع حيوية وإثارة الانتخابات الأمريكية ، وحِدتها، أن تخفى خريطة الانتخابات والانقسام، الذى شمل، ليس المجتمع الأمريكى ونخبته فقط، بل شكل هوية المجتمع، ومكانة الدولة العظمى المتغيرة، بما فيها الصراع حول «كوفيد-19»، الجائحة ، التى هزت العالم، بما فيه أمريكا، هزا لم يحدث من قبل، على أصعدة متعددة، بل فاقت تأثيرات ما بعد 2001، الحادث الإرهابى الدامى فى نيويوركوواشنطن، أو الأزمة الاقتصادية 2008، بل إن كل المتابعين يقولون إن تاثيراتها ومتغيراتها لا تقل عما بعد الحرب العالمية فى العموم. 2020 عام فارق، اختلف فيه كل شىء عما قبله، فقد ظلت الانتخابات الأمريكية ونتيجتها معلقة، رغم إعلان وسائل الإعلام كلها هناك ف وز الرئيس الديمقراطى بايدن و هزيمة ترامب ، انتظارا لادعاءات، أو تحقيقات، أو طعون الرئيس المنتهية ولايته، وكأنه أراد عمليا أن يقول لدولة وسائل الإعلام العميقة فى أمريكا: لن أعطيكم فرصة إعلان النتيجة، وسأظل رافضا، ومنتظرا الإعلان الرسمى، لأنه يريد أن يُغير أمريكا، ويضعها فى مكان آخر، وقد ظل يعمل حتى الآن، ويقاضى، ويتحرك فى الولايات بشبكة المحامين، والأنصار فى واشنطن، لم تستطع نتيجة الانتخابات، أو حيويتها، أن تخفى صراع الدولة الأعمق فى أمريكا، دولة الدواء، والصحة، والغذاء، حيث خطفت «فايزر» الأمريكية، و«بيونتك» الألمانية الأنظار، بل ألهبتا العقول بإعلانهما عن اللقاح المنتظر، وتقديمهما طلبا للمؤسسة الغذائية الدوائية الأولى فى عالمنا لإنتاجه على نطاق واسع، وكأنهما أخرجتا لسانهما للرئيس المنتخب، والرئيس المنتهية ولايته، أن الشركات لم تمتثل لأسلوب «البطة العرجاء»، ولن تُهدى اكتشافاتها لرئيس قادم أو راحل، وأن المصل الأمريكى قد هبط فعليا على القمر قبل غيره، رغم أن هناك مائتى مصل تتنافس فى سباق محموم للسيطرة على الكرة الأرضية، وعلى عقول الأطباء والمرضى، بل كل إنسان فى عالمنا أنهكه وأخافه هذا الوباء سريع الانتشار، الذى حول المدن الكبرى إلى أشباح، والذى ضرب أهم الصناعات فى عالمنا (السياحة والطيران)، بل جعل العالم، والاقتصاد العالمى، على أبواب الكساد الكبير، وأوهام رئيس أمريكى كان يتصور أن شعبيته وإنجازاته لا يضاهيهما أحد، وأنه قاهر المرض، وسيوقف الوباء، بل سيحاكم الصين، القوة المناوئة له، ويجعلها تدفع ثمن الجائحة .. اللقاحات وحروب الأمصال الجديدة نافست الانتخابات الأمريكية ، فقد طاردت شركة «موديرنا» منتج فايزر بنسبة فاعلية فاقت ما أعلن عنه فى منتج فايزر، فإذا بالشركة الكبرى تعيد تدوير فاعلية منتجها ليتفوق عليه.. المنافسة الأمريكية لم تُوقف الصراعات والتنافس الأوروبى، والصينى، والروسى، فقد وقفت دولة الصحة العميقة فى أمريكا للجائحة، والرئيس، وردت عن دولة الإعلام، التى لم تستطع، رغم تحالفاتها، أن تكسر ترامب، الذى ناصبها العداء.لقد تغير العالم، وتغيرت أمريكا بالفعل، وقد لا تكون قادرة على القيادة، أو أن تكون الشرطى الوحيد، لكن اقتصادها يجعلها لا تقف متفرجة على ما يحدث حولها فى عالمها، وأنها مضطرة لأن تكون موجودة فى كل مكان، بل إن العالم لا يستطيع أن يكمل وحده- وكما ننتظر- الأمصال الجديدة ل«كوفيد 19»، ينظر الجميع إلى القرار الأمريكى السياسى والاقتصادى، فالكل أنتج المصل، لكن للإنتاج الأمريكى الأهمية القصوى، لأنه الإنتاج المعاييرى، لأن كل الأمصال ستأخذ معادلته، وكل العقارات المرشحة ستحذو حذوه، وتنتظر موافقة مجلس الغذاء والدواء الأمريكى، والتى يجرى تطويرها لتدخل الخدمة قبل نهاية العام الحالى، كهدف كونى واحد، يضع فى مقدمته المعارك الأمريكية، حتى يعود الاستقرار والحياة الطبيعية إلى العالم. وقبل أن أنتهى، فقد وجدت الرئيس الأمريكى الرابع والأربعين، المثير للجدل، أول أسود يحكم الدولة العظمى (أوباما)، فى مذكراته، يتحدث عن أرضه الموعودة، فلم أفهم: هل يقصد أرض فلسطين أم أرض أمريكا؟، المهم أن العنوان يحمل وجهة عنصرية، ودينية، ويصفى حساباته، بل يكشف عن عُقد دفينة شخصية بمذكراته، التى أقرأها الآن، سوف تثير الجدل، لأنه كشف فيها عن الرئيس فى واشنطن عندما يتخذ قرارات بعقلية «الناشط السياسى»، وعندما يتحكم فى قراراته المحيطون به، وأنه، شخصيا، ظل، رئيسا تحكمه عُقدة الأقليات، يبدو مفوها، ويخطب مثل «تشرشل»، ويكتب مثل الأدباء، وظل حتى آخر يوم فى حكمه مبهورا أنه الرئيس الأمريكى، لم يصدق نفسه، ولذلك ظل ضعيفا فى قراراته، باحثا عن آراء من حوله، لكن أروع ما توقفت عنده أنه تصور هو وكاتب خطاباته أنه غيّر الشرق الأوسط بعد خطابه فى جامعة القاهرة، وأنه يكتب بورتريهات، ويحلل الشخصيات، ليس بعقلية الرئيس، ولكن بعقلية الكاتب، فيقع فى الاستهواء، والحب، والكراهية، وفى النهاية، من يدفع الثمن؟.. تدفعه الشعوب، وقد كان رهانه على ربيع الإخوان المسلمين قاسيا على شعوب الشرق الأوسط، لكنه، وللحقيقة، وجد من زعماء منطقتنا من يرد عليه، ويكشف له أخطاءه. مذكرات أوباما ، وحدها، مثل إيميلات هيلارى كلينتون المكشوفة، تجعلنا نقول لزعماء منطقتنا (العالم العربى): لا تراهنوا على القرار الأمريكى وحده، وتحاوروا معهم، لأنهم لا يملكون الحقيقة كلها، وقرار منطقتنا يحب أن يكون بأيدى أبنائها، وإلا، لا معنى لأى استقرار، أو سيادة دولة على أراضيها، ولا تصدقوا قرارات لجان حقوق الإنسان والمنظمات الأهلية، فكلها تعمل لمصلحة الناشطين السياسيين، بل إنها تعبر عن السياسة، ولا تعرف معانى تقاريرها، وتقع فريسة للاستهواء، ومثلما وقف ترامب ضد الإعلام الأمريكى وسطوته، يجب أن نقف لنفكك سيطرة الهواة، وأصحاب الألاعيب، أو حتى الكتاب، والممثلين على القرار السياسى والاقتصادى، الذى يجب أن يكتبه ويصيغه العلماء، والمفكرون، والمتخصصون، وأهل الوطن الأوفياء.ولنا عودة مرة أخرى مع أفكار رؤساء أمريكا وقراراتهم، خاصة عندما تكون متحيزة، وعديمة الخبرة، وفريسة الاستهواء، مثلما كان أوباما. * نقلًا عن صحيفة الأهرام