كل عام وأنتم بخير، تحتفل الأمة الإسلامية جمعاء بذكرى المولد النبوى العزيز على القلوب بالحب والمودة والفرح، ولكن تتميز مصر عن سائر البلدان بإقامة الاحتفالات وتعليق الزينات فى الشوارع وإنارة الميادين، وتوزيع الحلوى التى يرتبط طعمها الحلو بما تستحضره النفوس من حلاوة الذكرى العطرة لنبى الرحمة والتسامح صلى الله عليه وسلم، الذى شهدت سيرته الكثير من الأفعال والأقوال التى تؤكد غرس المحبة والرفق. وبلغت تلك الرحمة ذروتها فى عفو الرسول عمن حاربوه وآذوه وطاردوه قبل هجرته من مكة إلى المدينة، فعندما عاد إلى مكة فاتحا منتصرا ظن من آذوه أنه سينكل بهم، وشعروا بالرعب وبعضهم خرج من مكة هاربا من بطشه المنتظر وانتقامه المرتقب، فما كان من الرسول إلا أن طمأنهم وأعلن العفو عنهم، بل وعاملهم بصورة طيبة جعلتهم يعتنقون الإسلام ويدافعون عن دعوته إلى العدل والرحمة والتحرر من الأفكار والعادات الذميمة. ومن رحمته صلى الله عليه وسلم تعامله مع أحفاده الصغار، وملاطفتهم وحملهم وتقبيلهم، ولم تكن من عادة الناس فى هذا العصر تدليل الأطفال وتقبيلهم، ولما رآه بعض المسلمين يقبل أحفاده قالوا إن ذلك ليس من طبعنا، فقال لهم من لا يَرحم لا يُرحم فدعاهم إلى المعاملة الحانية على الأطفال وغرس المحبة والرحمة. وكان العصر الجاهلى معروفا بانتشار العبودية، فجاء تحرير العبيد الذى دعا إليه رسول الإسلام من أهم وأرقى صور التحرر الجسدى والنفسي، فقد جعل الرسول عليه السلام تحرير العبيد من أهم أبواب التقرب إلى الله وجعله كفارة لكثير من الذنوب والآثام، والمعروف أن تحرير العبيد لم يتحقق فى الولاياتالمتحدة إلا فى أواخر القرن التاسع عشر أى بعد ثلاثة عشر قرنا من دعوة الإسلام، وبرغم ذلك ظلت التفرقة العنصرية متغلغلة فى عقول وقلوب الكثير من الجماعات اليمينية المتشددة فى الدول المتقدمة حتى الآن، رغم كثرة الحديث عن المساواة والتحرر ومبادئ حقوق الإنسان، وغيرها من الشعارات التى لا تتفق مع واقع ازدواجية المعايير لتحقيق أهداف ومصالح ضيقة، ويشهد على ذلك الاضطرابات وأعمال العنف حول التفرقة العنصرية فى الولاياتالمتحدة وعدد من دول أوروبا حاليا. والإسلام منذ بدايته وهو يحث ويحض على التسامح والمحبة ومنع كل أنواع التفرقة، فالرسول الكريم دعانا إلى أن كل الناس سواسية، ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، ومفهوم التقوى هو العمل الطيب. ومع ذلك تتوجه سهام التشهير وحملات الكراهية لتحاول النيل من الإسلام ونبيه الكريم، وتطعنه باسم حرية الرأي، ومتى كان السب والقذف والسخرية والإساءة إلى معتقدات الآخرين من دعائم الحرية؟. لقد كان الموقف المصرى الرسمى والشعبى هو إدانة جريمة قتل شاب مسلم للمعلم الفرنسى المتطرف الذى وزع على الطلاب الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبره درسا فى حرية الرأي، لكن فى الوقت نفسه لا نرى أن الإساءة إلى الرسل من بين مبادئ حرية الرأي، بل احترام كل الأديان أهم مبادئ الحرية. وبينما كان الرئيس التركى أردوغان يحاول استغلال الأزمة، ويزيدها اشتعالا أملا فى إعادة إحياء مشروعه العثمانى على قاعدة من الهوس والتطرف، كانت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى بمناسبة المولد النبوى الشريف تخاطب العقل والوجدان، منوها بتعاليم الإسلام السمحة، التى تستدعى معانى الرحمة، وأن مقاصد الأديان تحقيق مصالح البلاد والعباد من خلال البناء لا الهدم، وتقديم النموذج الإيجابى لصورة المسلم، مؤكدا أهمية دور الوعى الرشيد فى مواجهة أهل الشر الذين يحرفون معانى النصوص، ويفسرونها وفق أهوائهم وأهدافهم، مما يتطلب جهدا من العلماء لتصحيح المفاهيم الخاطئة وتصويبها، لنحمى المجتمع والدولة من مخططات التخريب، وليدرك العالم أجمع سماحة الدين الإسلامى العظيم، الذى يتأسس على الرحمة والتسامح والتعايش السلمى بين الناس جميعا، وأن رسالة الإسلام جاءت انتصارا لحرية الفكر والإيمان والاعتقاد، لكنها حرية مسئولة لا تؤدى إلى الفوضى ولا تبيح التخريب والتدمير، وتقف عند حدود حرية الآخرين. وفى الوقت نفسه أكد الرئيس عبد الفتاح السيسى أن التطرف لا يقتصر على دين بعينه، حيث يوجد متطرفون فى جميع الديانات يسعون لإشعال الفتن وإذكاء نيران الغضب والكراهية، مما يؤدى إلى التناحر والفرقة، وأكد الرئيس أن مكانة الرسول أسمى من أن يمسها قول أو فعل، داعيا إلى استلهام الدروس من سيرة النبى الكريم، الذى أرسله الله ليتمم مكارم الأخلاق، داعيا إلى أن نجعل من ذكرى المولد النبوى الشريف نبراسا يضيء الطريق نحو التعمير والرحمة ومواجهة جماعات القتل والتخريب. وأن نجعل من وطننا نموذجا مشرقا يقوم على الفهم الصحيح للدين وتحقيق مقاصده الراقية . تأملت هذا الخطاب الموجز العميق الراقي، وتابعت ترحيب المصريين بهذا الفهم العميق الذى يقدم صورة مشرقة لوطننا الغالي، ويحظى باحترام وتقدير العالم، ويرد بحكمة على تلك الحملة التى تسعى إلى وصم الإسلام والمسلمين بالعنف والتطرف والتخريب، فالصورة الحقيقية المشرقة للدين الإسلامى يحاول أهل الشر فى كل المجتمعات أن يشوهوها، لتحقيق أغراض بعيدة عن الجوهر الراقى الساعى إلى التقدم والتحضر. إنها رسالة توعية وتحذير من السقوط فى هاوية الإرهاب والتطرف، لنشق طريقنا نحو البناء والتقدم والحياة الكريمة، فها هى الكلمات المضيئة التى تبشر بمستقبل واعد، نأمل أن نتكاتف من أجل تحقيقه، وكل عام ومصر وشعبها وكل العالم بخير وسلام. * نقلًا عن صحيفة الأهرام