ليس غريبا أن ترتبط كلمة العشوائيات، بمشاهد مؤلمة خلدتها صور ضحايا الانهيار الصخرى لمنطقة الدويقة، فلا حديث يذكر عن المناطق العشوائية إلا وذاكرة المصريين تسترجع معها محاولات إنقاذ من هم تحت الأنقاض الذين يستغيثون طلباً للنجدة، وللأسف تعودنا أن تمر أحزاننا بمرور الأيام، وينفض "المولد" وننام، لنصحو على كارثة جديدة، بعدما تعودنا على عدم الاكتراث بالكوارث، قدر تعودنا على إجادة الصراخ. المناطق العشوائية أقل ماتوصف به أنها " مقابر للأحياء".. لكن البعض يحاول اختزال خطورتها فى تشويه المنظر الجمالى لأى مدينة، والماضى يثبت أن العشوائيات خطر على ساكنيها، وعلى أمن الوطن، لأن القضية ليست معاناة فقراء يعيشون فى العشوائيات، بقدر ماهى مرتعاً للجريمة بكل أنواعها، لما تشكله من بؤر للجريمة المنظمة من قتل، سرقة، مخدرات، بسبب الحياة البائسة التى تتشكل بمنأى عن المجتمع، إذ تتحول كثير من المناطق العشوائية إلى مناطق يصعب على رجال الامن أحيانا دخولها، ناهيك عن عدم استطاعة دخول فرق الاسعاف والانقاذ لتلك المناطق فى حال وقوع كارثة، و"دماء الدويقة" خير دليل. المهندس أحمد المغربى وزير الاسكان عندما سُئل عن مشكلة العشوائيات قال :" مش مصر بس اللى فيها عشوائيات .. دى موجودة فى جميع دول العالم , والسبب فى إنشاءها عندنا فى مصر زيادة معدلات النمو فى أحد المناطق عن معدلات النمو فى منطقة أخرى، فيتحرك إليها المواطن سعيا وراء فرصة عمل". وزير الاسكان برر وجود العشوائيات فى مصر بزيادة معدلات التنمية، لكنه عرّف المناطق العشوائية على أنها مناطق مقامة بمواد غير ملائمة لاقامة وحدات سكنية، وما نطلق عليه منطقة عشوائية فى مصر فهى فى حقيقة الامر مناطق خططت تخطيطا أهليا، وليست مناطق عشوائية، لان بها من الانشاءات الخرسانية التى تصل فى بعض الادوار الى عشرة أدوار، ولايمكن أن نطلق عليها عشوائيات، لكن المنازل الموجودة فوق الجبال، والعشش، والمنازل المقام من الصاج، لم تجد تعريفا عند وزير الاسكان . الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء، رد على وزير الاسكان فى تقرير صدر مؤخرا، يكشف خلاله عن أن عشوائيات القاهرة فقط يقطن فيها 13.3 مليون نسمة، ويستحوذ إقليمالقاهرة الكبرى على 2.53% من سكان العشوائيات فى مصر الذين يمثلون 8.38 % من سكانها. وحسب تقرير لصندوق تطوير العشوائيات، رصد خلاله المناطق العشوائية بالقاهرة، فإن هناك 53 منطقة خطيرة، بها نحو 44 ألف وحدة سكنية، من بينها 16 منطقة تصنف كخطورة داهمة على حياة المواطنين القاطنين بها، و33 منطقة على المستوى الثانى من الخطورة أى أنها غير صالحة للسكن، فهى إما متصدعة أو عبارة عن عشش صفيح، أو مساكن مقامة على تربة غير صالحة للبناء، الى جانب ثلاث مناطق فقط بها تهديد للصحة العامة لسكانها ويظهر فيها تأثير الملوثات ظهورا صريحا. منطقة مصر القديمة احتلت القائمة من حيث عدد المناطق الخطيرة، ب 14 منطقة، تلتها منشأة ناصرب 11 منطقة، وحى السلام 4، والشرابية ثلاث مناطق، والساحل والخليفة والسيدة زينب، كل منهم بها منطقتان. بالأرقام، كشف التقرير عن المساحات المقام عليها مناطق عشوائية خطيرة، ففى منطقة السد العالى بحى السلام 4918 وحدة سكنية على مساحة 24.5 فدان، ومنشأة ناصر5023 وحدة بمساحة 89 فدانا ومنطقة الحرفيين وبها 3685 وحدة سكنية على مساحة 51 فدان، ومنطقة حكر السكاكينى بالشرابية على مساحة 4.5 فدان بها 1023 وحدة سكنية، وعزبة أبوحشيش فى حى الحدائق مساحتها 13.9 فدان بها 1945 وحدة سكنية، ومنطقة رملة بولاق خلف أركاديا بمساحة 1.6 فدان أملاك دولة بها 101 وحدة سكنية، ومنطقة رملة بولاق خلف أبراج النايل تاورز بمساحة 3.9 فدان من أملاك الدولة وبها 330 وحدة سكنية، منطقة كابش مساحة أقل من فدان بها 273 وحدة سكنية، ومنطقة ماسبيرو على مساحة 10.6 فدان بها 494 وحدة سكنية، وصنف التقرير ملكيات الأراضى فى هذه المناطق بين ملكيات خاصة للأفراد وملكية دولة وملكية جهات سيادية. الدكتور هشام الهلباوى مستشار البنك الدولى لتطوير الشعوائيات، وبنظرة متشائمة حول وضع العشوائيات فى مصر، قال :" حتى تتخلص مصر من خطر المناطق العشوائية، لابد من عمل اقتصاد حرب، يتكلف أى ثمن، فهى بحاجة الى معركة " الهلباوى واصل تشاؤمه، حتى من صندوق تطوير العشوائيات الذى قال عنه :" الصندوق تم رصد 500 مليون جنيه له، زادت الى 800 مليون ..هنعمل إيه بالمبلغ ده؟".. كاشفا عن حاجة العشوائيات لسلطة أقوى من الوزارات مبررا ذلك بأن الصندوق يكتفى حتى الأن بعمل النماذج الاسترشادية، في حين أن المطلوب تنفيذ شئ على أرض الواقع". لكن المشكلة، حسب كلام الهلباوى، ان المنح الواردة من الخارج لتطوير العشوائيات، تتحدد مساراتها وفقا لطبيعة الجهة المانحة نفسها، فصندوق أبو ظبى يعطى الحكومة الاموال وهى التى تقوم بعمليات التطوير، أما بنك التعمير الالمانى فيقوم بالتنفيذ وطرح المناقصات على المقاولين تحت إشراف الحكومة، أما الوكالة الالمانية للتعاون الفنى فتعمل مع الحكومة من خلال لجان مشتركة، فى حين يمنح البنك الدولى القروض بلا تحديد مسارات لها. أما المركز المصرى لحقوق السكن، فقد جزم بأن سكان المناطق العشوائية يزداد عددهم سنويا نحو 200 ألف نسمة، بما يعنى أنه، حتى لو كان هناك خطوات ايجابية فى معالجة العشوائيات، فإن نسبة الزيادة السنوية، تلغى كل ماتم انجازه، ليكشف الواقع عن أن البرنامج القومى للقضاء على العشوائيات بحلول 2025 مهدد بالفشل فى حال استمرار تلك الزيادة السنوية، بلا توقف. هذا البرنامج القومى، وضعته الهيئة العامة للتخطيط العمرانى، وخصصت له 5 مليار دولار، ويتم من خلاله توحيد الجهود الحالية بين الوزارات والهيئات المعنية لضمان عدم ظهور أية مناطق أخرى بعد هذا التاريخ، لكن ورغم ذلك فالعشوائيات لاتزال تظهر وتولد من آن لآخر. وما يدعو للحيرة فى أمر العشوائيات فى مصر، أن الجهات المسئولة لم يتفقوا حتى الآن على رقم محدد للمناطق العشوائية، بسبب تعريف كل جهة للمناطق العشوائية من وجهة نظرها فقط، فمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء قدرها ب 1034 منطقة، أما الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء فقد أكد أن عددها 909، بينما قال معهد التخطيط القومى فى دراسة أجريت فى هذا الشأن أن هناك 1109 منطقة عشوائية فى 20 محافظة. العشوائية تبدو أنها ليست مرتبطة بالمكان فقط أو طبيعته، لكنها مرتبطة أيضا بأسماء هذه المناطق الآيلة للسقط، فهناك قلعة الكبش والتي سميت يوما من الايام بعاصمة مخدر "الماكس" في مصر، وتحوطها مقابر سيدي زين العابدين، وعزبة خير الله. كذلك فهناك أرض عزيز عزت بإمبابة، وأرض مطار إمبابة، إلا أن عزبة القرود بمصر القديمة، وعزبة أبو حشيش لهما طابع خاص فى حجم العشوائية، فالبنايات السكنية في الأماكن المذكورة في حالة متردية بشكل تام، فهي مبنية من الصفيح أو الطين أو الخشب والبشر هناك يعيشون مع الحيوانات في حالة تآلف تام وسعي مشترك علي الرزق ولقمة العيش. وإذا ذهبنا إلي جنوبالقاهرة حيث المناطق العشوائية الملتصقة بالمقابر مثل كفر العلو، وعرب غنيم، الحكر، عرب راشد، التبين، البساتين، ودار السلام -التي تسمي منطقة الصين الشعبية- نجد البناء فيها عشوائي بشكل كبير. وفي شرق القاهرة نجد مدينة السلام علي مشارف الصحراء الشرقية، والمكونة من مناطق النهضة، والسلام الشرقية والغربية، والعصارة الجديدة، ومنطقة بركة النصر، والمقامة مبانيها علي الكثبان الرملية بشكل غريب واكتسبت شهرتها من أنها وكراً للمخدرات. الدراسة الصادرة عن جامعة القاهرة كشفت عن كارثة جديدة تتساوى مع أزمة العشوائيات، حيث أكدت ارتفاع نسبة مخالفات البناء في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، وأن نسبة مخالفات المباني في مصر وصلت إلي 60% من إجمالي العقارات المقامة حديثا، حيث وصلت في حي المطرية إلي 8.92%، وحي السلام إلي 94%، ووصل إجمالي محاضر المخالفات التي تم تحريرها عشرة أضعاف تراخيص البناء، وفي عين شمس 96%، وفي الدرب الأحمر 70%، وفي حي الجمالية 50%، وفي مدينة الإسكندرية 57 ألف قرار إزالة تم إصدارها ولم يتم تنفيذها! لكن، مايثبت أن تطوير العشوائيات لايحتاج الى معجزة، ماحدث فى منطقتى عزبة الوالدة فى حلوان، والعجزية، حيث يعدا تجربتان ناجحتان، وسبب النجاح فى التجربة الاولى أنها كانت تقف وراءها السيدة سوزان مبارك، أما الثانية فكان يقف وراءها جمال مبارك الأمين العام المساعد وأمين السياسات بالحزب الوطني، وبات لاوجه للمقارنة بين حياة أصحاب المنطقتين قبل، وبعد التطوير. الواقع يكشف أيضا أن رصد المليارات وحده لن يقضى على أزمة العشوائيات، فالحكومة خصصت منذ ساعات 10 مليارات جنيه لتطوير 400 بؤرة عشوائية، لكن، ماذا لو تم رصد المليارات دون الجدية فى النفيذ، هل سيأتى اليوم الذى ترفع فيه المناطق العشوائية، الراية البيضاء؟