فى افتتاح اجتماع "صيغة موسكو" حول أفغانستان يوم الجمعة الماضى، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف: "يجب على الجميع تجنب التفكير بمفاهيم اللعبة "الجيوسياسية"، وجعل أفغانستان ميدانًا لتنافس اللاعبين الخارجيين، بما يحمله ذلك من تداعيات في غاية الخطورة على الأفغان وجيرانهم". كلمة الوزير لافروف تلخص فى الواقع، حقيقة الوضع المتأزم جدًا فى أفغانستان، حيث لا تبدو فى الأفق أية بادرة للتوصل إلى تسوية سياسية بين الفرقاء، وأولهم الحكومة وحركة طالبان، بالإضافة إلى من أسماهم الوزير باللاعبين الخارجيين، وهم: الولاياتالمتحدةوباكستان وإيران، وروسيا، نفسها، وغيرها من القوى الإقليمية، ودول الجوار. مهما صدر من مؤشرات للتفاؤل عن نتائج اجتماع "صيغة موسكو" الأخير، وكذلك ما صدر عن "مسار الدوحة"، الذى جمع بين المبعوث الأمريكى وممثلى طالبان، منذ أسابيع، ولا حتى التوجه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ضمن ما يمكن تسميته ب"صيغة بون الثانية"، هناك من يعتقد بأن حلول السلام والأمن والاستقرار فى أفغانستان يجب أن يكون أفغانيا، أساسا، وأولا وأخيرا. خلاصة الخلاصة، حددها لى السيد حبيب الله فوزى، عضو المجلس الأعلى الأفغانى للسلام، وذلك فى حديث عابر على هامش مؤتمر "هرات" الأمنى، بقوله: يجب نزع فتيل الحرب بالوكالة، المستعرة حاليًا بين الكبار والقوى الإقليمية على أرض أفغانستان، وهذا فى الواقع ما أجمع عليه - أيضًا - الخبراء والمتحدثون فى المؤتمر، الذى استضافته المدينة الأفغانية، يومى 26 و27 أكتوبر الماضى. عقب انتهاء المؤتمر، وفى الطريق إلى مطار مدينة "هرات" بواسطة سيارة مصفحة مضادة للرصاص، ضمن موكب أمنى مهيب، جاء مقعدى إلى جوار السيد فاروق عزام، زعيم حركة التغيير السلمية فى أفغانستان. عندما سألت السيد عزام، عن حجم إمرة تنظيم طالبان - على الأرض والشعب - فى أفغانستان، بدون تردد، أجاب: 70 فى المائة تقريبًا. وكم يا ترى حجم أعمال زراعة وتجارة المخدرات فى أفغانستان، وبالذات، الأفيون والحشيس؟ أجاب: 83 مليار دولار تقريبًا. أشار عزام بيده قائلا: زراعة المخدرات منتشرة فى كل مكان فى أفغانستان وخلف هذه البنايات!! حكومة أفغانستان ترى عكس ذلك، تمامًا، فهى تؤكد أنها تسيطر على العاصمة، كابول، وعلى المناطق والمدن الأفغانية الكبرى، بالإضافة إلى سيطرتها على طرق المرور الرئيسية، تقريبًا، وبنحو 65 فى المائة من شعب أفغانستان تحت إمرتها. فى الوقت نفسه، فإن ما يتردد عن الأرقام المهولة لزراعة وتجارة الحشيش والأفيون، فى أفغانستان (83 مليارا !!) يلاحظ من البيانات الرسمية أنه لا سيطرة البتة، ولا نصيب للحكومة منها، بدليل أن الأرقام الرسمية تؤكد أن أكثر من 50 % من الأفغان يعيشون تحت خط الفقر، وهى من النسب الأعلى فى العالم، وأنه بالقرب من أطراف مدينة هرات، نفسها، يوجد 3 ملايين أفغانى من النازحين يسكنون فى مخيمات عشوائية، ويواجهون المجاعة، وأن 2.5 مليون منهم يعيشون على أقل من وجبة واحدة يوميًا، هى - على الأرجح - تتضمن خبزا وشايًا، وهؤلاء النازحون بحاجة إلى مواد غذائية عاجلة. على الصعيد نفسه، فإن تقديرات المراقبين المحايدين الذين التقيتهم فى مؤتمر هرات، تؤكد أن 60 فى المائة من مساحة أفغانستان لا تزال تحت إمرة طالبان، وهى نسبة تعد كبيرة جدا، رغم مرور 17 عامًا على قيام الولاياتالمتحدة وحلفائها (أفغان الشمال والناتو) بإزاحتها من حكم أفغانستان، ولتصبح حصيلة الخسائر بدون القضاء على طالبان: سقوط عشرات الآلاف من القتلى والمصابين الأفغان، ونحو 2400 ضحية أمريكية، مع دفع فاتورة باهظة تقترب من التريليون دولار، ولتعد حرب أفغانستان هى الثانية الأطول فى تاريخ الولاياتالمتحدة، بعد فيتنام. هكذا باتت طالبان رقمًا صعبًا، لا يمكن تجاهله فى الحرب والسلام، حتى وهى بعيدة عن حكم أفغانستان، فماذا تريد طالبان؟ هذا السؤال كان محور جلسة كاملة فى اليوم الثانى من المؤتمر الأمنى الأفغانى السابع بمدينة هرات، الذى نظمه المعهد الأفغانى للدراسات الإستراتيجية. لفت انتباه الحاضرين للمؤتمر، أن السيد نادر نعيم، حفيد ملك أفغانستان الراحل، محمد طاهر شاه، هو الذى أدار- بمهارة- هذه الجلسة، وقد تحدث فيها الصحفى الأفغانى نزار محمد مؤتمن، عما أسماه بأجندة طالبان، بالإضافة إلى متحدثين آخرين من الولاياتالمتحدةوأفغانستانوباكستان. توضح "أجندة" طالبان باختصار، أنها تسعى لاستعادة ما تسميه بأمجاد الإمارة الإسلامية فى أفغانستان، التى أقامتها خلال الفترة من عام 1996 إلى عام 2001، وترفض الحركة التفاوض المباشر مع الحكومة الأفغانية، بإعتبارها عميلة، وغير شرعية، وتعتمد على الجيوش الأجنبية لضمان بقائها فى الحكم. تتحدث الحركة عن أنها مع مبدأ الحوار، وترفض عروض الحكومة بأن تتحول إلى حزب سياسى، تحت مظلة الدستور الحالى للبلاد، وتربط الشروع فى التفاوض المباشر مع حكومة الرئيس أشرف غنى، بضرورة انسحاب القوات الأمريكية والأجنبية من البلاد. أحدث التحليلات والمعطيات تشير إلى أن حركة طالبان تحقق مكاسب على الصعيدين العسكرى والسياسى، وتجتذب المزيد من النفوذ على أرض أفغانستان، وتتمتع بدعم خارجى سخى، ويتردد أن هذا الدعم يأتى تحديدا من: باكستان وروسيا وإيران، وهناك من يشير أيضا إلى الصين. ويبدو أن كل ما حققته الحركة من مكاسب وصمود فى مواجهة الحكومة وحلفائها من القوات الأجنبية، على مدار 17 عاما، لا يمكنها - بشكل كاف وحتى الآن - من إحكام إمرتها على المزيد من الأرض، وإن كان رهانها على عامل الوقت سوف يظل قائما، أملا فى إمكانية انسحاب القوات الاجنبية، والاستفراد بالجيش الأفغانى، غير القادر على مواجهتها بمفرده، أو انتظارا لإمكانية حدوث انشقاق بين القوى السياسية الحاكمة، وبالتالى تفتح أمامها الأبواب ثانية لإقامة إمارتها الإسلامية. الاتهام الذى يوجه إلى باكستان، بأنها المصدر الرئيسى الداعم لطالبان ضد الحكومة الأفغانية، بدأ يتحول إلى نوع من السخط الشعبى، وهو ما لاحظته فى العاصمة كابول، حيث تتزايد مظاهر العداء والتنديد والكراهية بين الشعبين، ويمكن رصد المظاهر العدائية بسهولة من خلال ما يكتبه المواطنون الأفغان بالخط العريض من يافطات على حوائط المبانى ضد الجارة الكبرى باكستان. إذا نظرنا إلى الدور الروسى فى الأزمة، فقد حدده الوزير لافروف، بتأكيد وقوف موسكو مع "الحفاظ على أفغانستان دولة واحدة وموحدة، تتمتع كل مكوناتها الإثنية بالعيش في سعادة وأمان"، مضيفا أن "المشاركين الآخرين في "صيغة موسكو" متفقون على هذه المقاربة ويسترشدون بمصالح الشعب الأفغاني الجذرية". فى الوقت نفسه، حذر لافروف من أن تنظيم "داعش" يحاول بدعم من أطراف خارجية (!!!) جعل أفغانستان منطلقا للتوسع إلى مناطق آسيا الوسطى والإقليم عموما، واعتبر أنه "يتعين على بلداننا كافة والمنظمات الدولية العاملة في المنطقة مساعدة الأفغان في إحباط هذه المخططات واستئصال خطر الإرهاب". ماذا عن الدور الأمريكى والإيرانى وأدوار باقى القوى الإقليمية والدولية، هذا ما سأتناوله فى الأسبوع المقبل بإذن الله. [email protected]