وأنت تبحر في تجربة أنيس الرافعي الأخيرة، لا تشعر أن سفينتك جنحت غربا بعد أن اعتدتَ الإبحار شرقا للوصول إلى تخوم الهند المألوفة، ولا تشعر أنك أمام قارة سردية لا ترتكز على إحداثيات في الذاكرة وفي التحقيب التقليدي، وتحار كيف تصنف هذا العالم الجديد؛ هل ينتمي إلى الجنس القصصي، هل يصنف ضمن المتن السردي العربي التاريخي، أم أنه يكشف عن عالم مأهول بساكنة طبيعية لم تتعودها العين إلى حد الآن؟ يدهشك الاقتراب من "خياط الهيئات"، فتشكك في أدواتك النظرية المألوفة، وفي ذائقتك النمطية الموروثة عن لغة محددة ومخيال محدد وفكر محدد، وكأنك تسمع صوتا لا مجال إنكاره: حذار أن تصغي لأعماقك..! احترس أن تغوص في دواخلك..! أغربُ الألغاز هو الإنسان نفسه، هكذا صرخ سوفوكل ذات مرة وهو يدخل تراجيديا الظلام الإنساني. السفر إلى الكائن العميق، إلى الذات السحيقة، لن يكون إلا سفرا في عتمة الغموض، ونزولا إلى "هادز" جحيمي، وعلى الذات أن تتحمل مسئولية مغامرتها، وعلى اللغة أن تُشْرع خباياها لوحوش غير عادية، وعلى الخيال الممكن أن ينزف إلى آخر فظاعة ليرى ما قد يشبه الحقيقة الفجائعية. لن تكون الحكاية عادية، ولن يكون السرد بسيطا، وسيفقد السارد براءة الأبطال المرتبطين بإرادته. ومع ذلك لا بد من الاقتراب بكل صبر الرواقيين وهدوء البحارة غير الواثقين إلا من حاستهم على التقاط أدنى إشارة تدل على ما يمكن أن يشبه يابسة ما. ولهذا بدأت بهذا العنوان الفرعي: * الكائن أمام الكون: افتراض رهاب حتمي يصيب الحكي. في البداية، على العقل أن يتخلى عن مسوحه الرهبانية، عن وقاره المنطقي، لأن الكتابة هنا لا تشبه السرد المعتاد في تقاليد القصة. الكتابة في "خياط الهيئات"، ليست مغامرة فقط، بل هي فعل مادي محول عن سياقه المهني البسيط، ليناط به فعل فظيع، وهو "الخياطة لرتق التأثيرات السلوكية والسيكولوجية وإصلاح شأن الأحوال التي تكون عليها الشخصيات الورقية". ما تقترحه الخياطة الرافعية هو إيغال في الأدغال الموحشة للروح المفزعة، بمعزل عن العقل، حيث " يتقاطع الحقيقي بالخيالي، والمأساوي بالكوميدي، حيث يبزغ اللامتخيل واللاموجود". إذن تقترح الكتابة في "خياط الهيئات" صفع المتلقي البسيط المتعود على أحادية التلقي منذ الوهلة الأولى، لجره إلى أعماق المأساة التي لن تكون غير مأساته، مثلما تصفعنا لوحة "غيرنيكا" لتقذفنا في صلب المأساة التي عاشها الإسبان إبان الحرب الأهلية، ومثلما يصفعنا فيلم فرانكنشتين، لنواجه حقيقة التقدم العلمي المفزع، ومثلما تصفعنا رواية "المسخ"، لنواجه سقوط إنسانية الإنسان وابتلاعه من طرف العمل الإداري العصري. عندما نتأمل "غيرنيكا"، لا نجد سوى تقطيع وتشويه للعناصر المؤثتة لها: الثور، الحصان، المرأة، الطفل، الصارخون، ولا شيء يدل على فظاعة الحرب الأهلية الإسبانية سوى ذكاء المتلقي، وانخراطه في توليد المعنى. هكذا يريد أنيس الرافعي أن يقدم لنا صورة مخيفة ومشاهد فظيعة لا تحيل مباشرة إلى تشوه الكائن، بقدر ما تنبه ذكاءنا، عبر صفعات متتالية، إلى ما يتخفى في أعماقنا وفي ظلام ذواتنا من وحوش لامرئية. إن الشخصية- البطل، إن جاز لنا أن نتحدث عن بطل للمجموعة، هو الخياط، خياط الهيئات الذي يقوم بخياطة ما لا يقبل الرتق، وما لا يخضع لقواعد محددة، وما يتلاشى من مسوخ وأوبئة وظلامات في الكون. ومثلما نرى في فرانكنشتين ذلك الوحش الآدمي الآلي المرعب، وقد خيط ورُتق من أعضاء جثث مختلفة، وتبدو عليه آثار الخياطة المشوهة، ولا يسير إلا بفعل مؤثرات كهربائية كيمائية، تبث فيه حياة آلية، فكذلك تسير الشخوص في "خياط الهيئات" على هيئة مسوخ مشوهة تعكس ارتطام الكائن بحقيقته أمام حتمية الكون العملاقة. لكن على عكس فرانكنشتين، الوحشِ المخاط من جثث آخرى، فخياط الهيئات يضعنا أمام كائن يحل في ذوات أخرى وسحن آخرى، ويستحيل عليه الرجوع إلى هيئته الأصلية، بحيث يتحول إلى معرض لشتى الهيئات المعطوبة والغريبة؛ معرض يدخله زوار إما بعيون معصوبة، وإما يُفتَرض عدم وجودهم أصلا، بل ربما يكونون كائنات اختلقتها مخيلة صاحب المرأب، حيث يقام المعرض. تمتد الخياطة الحلولية إلى شخصية تاريخية، يحل فيها السارد، بحيث تكون نسيخا له son double ، وهي شخصية محمد شكري بمناسبة زيارة قام بها الكاتب إلى مدينة طنجة. ومن خلال ذلك، نكتشف أسرار فندق ريتز وخبايا مدينة طنجة، وبعض ما سكت عنه محمد شكري. هي رحلة أشبه بالبحث عن موطن أمن في مدينة ساحرة، للهروب من مدينة الدار البيضاء، للانفلات من نفايات الحياة اليومية، إلى المدينة التي تشبه امرأة تبيد الهموم. ترتفع الخياطة لتصبح لعبة مرآوية؛ فشخصية محمد شكري، ليست إلا مكرا لولوج عتمات الروح الغميقة، بل يرتفع المكر إلى أعلى لعبته التدميرية، حيث تتعدد الذات في مسرح المرايا، وتحمل الشخصية قناعا يضعها ما بين غرفة المرايا وغرفة الحقيقة. وهنا نصادف استبطانا للمسكوت عنه في داخل كل كاتب، أي تلك العلاقة المرضية الهشة التي تقوم بين الكاتب وشخوصه، وربما يكون أنيس الرافعي أول من يدين استغلال الكاتب لشخوصه الذين لا يعرف أحد شقاءهم الفعلي على أرض الواقع. وتنعكس هذه العلاقة سلبا على الكاتب، حين يصاب هذا الأخير بتوجس من تآمر أبطاله عليه. لكي يخفف السارد من حدة هذا التوجس، يلجأ إلى خياطة آخرى، يسميها الغرزة التشريحية، حين يستدعي أشخاصا حقيقيين من دائرة أصدقائه، أو شخصيات متخيلة. نجد أسماء مثل ميمون بن سوسان المذهب، سليل عائلة إدمون عمران المالح، محترِف المنمنمات، ومعه ننفتح على المكون اليهودي للهوية المغربية، مثلما نجد أسماء أحمد بومعيز، امبارك الراجي، يوسف الأزرق، محمد عنيبة الحمري، عبد العزيز أمزيان، بوجمعة أشفري، المصطفى الرادقي، العدلون مولاي الطيب.. إنها أسماء حُرفت عن حقيقتها التاريخية، لتستجيب لحقيقة اللعبة المرآوية التي انخرط فيها السارد. وعبر هؤلاء جميعا، تعْبر الذات إلى وجودها الآخر، المظلم، الموحش، المرعب، المنبوذ، والمسكوت عنه. يقول السارد: "في الحقيقة، تلك العين الواسعة ما هي سوى وجودي وقد جرى اختصاره إلى مرتبة عين واحدة فريدة، حية وناظرة تمَّ الاحتفاظ بها محنطة داخل وعاء زجاجي أو كبسولة أنبوب اختبار مع محلول ملون، وكانت ثمة أصابع مجهولة تمتد إلى داخل الوعاء وتطعمني من تلك العين الواسعة التي بطريقة ما عمدوا في غفلة عني إلى استئصالها." (ص. 95). لم يعد الحفر يقتصر على وحوش اللاشعور الداخلي للكائن، بل أصبح للاشعور خارج موضوعي، وهو عبارة عن " آثريات متخلفة من الماضي في فَرشة المتلاشيات". لكأن ما خلفه الزمان المتقادم، وما يباع في الفرشات ليس إلا انعكاسا لوحوش اللاشعور الراقدة في الأعماق. وبذلك تتخارج الذات المتفردة التي لا انتماء لها في الحاضر، مع حيوانات قادمة من أعماق التاريخ، وهذا "التخارج"، أو "الموضعة"، ليس إلا محض وهم ناتج عن "تشويه الكائن"، حيث يختفي الوحش الذي قدِم من لوحة قديمة في زوايا المنزل ، ويعود للظهور مرة أخرى، وتصبح خياطة الكائن شبيهة بقطعة سيراميك ملونة. نحن إذن أمام سَفر يرمز إليه الكاتب بغرزة الالتحام، حيث يتم ركوب الطرامواي الأخير، عقب ضياع في دروب المدينة. تفقد الأنا أناها، ويفقد الهو هويته، ويفصح اللاشعور الوحوشي عن تموضع الأنا في الهو؛ يقول السارد: "ولسبب ما، ظل (هو) بجانبي وإن كنت (أنا) بدونه، و(أنا) ظللت بجانبه وإن كان (هو) بدوني. بالتأكيد هو الفراغ غير المنظور بين نفذة خيط وآخرى لنفسين كُتب عليهما أن يصبحا بغتة، موثقين ملحومين إلى بعضهما بغرزة لامرئية.." (ص. 121)، بل سرعان ما يصبح هذا الالتحام منذورا للضياع والتلاشي والانفصام، "(أنا) أطلقت ساقيّ للريح، و(هو) أطلق ساقيه للريح على منوالي، ولم نعد نعلم بعد هذا من منا غمره يأس اللحاق بالآخر، مقصّ بتّار هوى (بيننا)، ، فانتقت الغرز، وانحل الظلان." (ص. 122). أكيد أن من يقرأ "خياط الهيئات"، لا يمكنه أن يتلافى الشعور بنوع من الرعب، وبنوع من الصدمة، لأنه لن يرى الحقيقة المألوفة التي اعتاد على رؤيتها على صفحة الإبداعات العادية التي تظل أسيرة السطح النفسي للإنسان، ولأنه لن يجد مرتكزا يرتكن إليه وهو يسافر عبر الكتاب، لأننا أمام نوع جديد من الكتابة، تراهن على ذكاء المتلقي، وتنسف شجرة الأنساب السردية التي تعودها، وتجعله منذ الوهلة الأولى يخرج عن الثنائيات التقليدية: الواقع/ الحلم.. السرد المكتوب/ الصورة، الفيلم.. الأنا/الآخر.. الحاضر/ التاريخ.. وهذه تجربة تجعلنا ننفتح على المتن العالمي في كامل غناه الثقافي، وهذا ما يراهن عليه، ربما، أنيس الرافعي. .