كانت نجاة محمد جالسة في متجر الأدوات المكتبية الذي تعمل به بوسط القاهرة منذ ثلاثة عقود حين تطايرت الحجارة وقنابل الغاز المسيل للدموع في الشارع خارج المكتبة في نوفمبر الماضي. أغلقت الأبواب وفرت. حين عادت بعد ذلك بثلاثة أسابيع كان الحي قد تغير. تغطي المباني رسوم على الجدران تنتقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير مصر. خفتت أصوات نفير السيارات وثرثرة رواد المقاهي. اللافت للنظر إقامة جدار خرساني قسم الشارع الذي كان صاخبا ذات يوم إلى نصفين. وأقامت قوات الأمن أربعة جدران مماثلة في الشوارع التي تربط بين ميدان التحرير مركز حركة الاحتجاجات ورمزها وبين المباني الحكومية بما في ذلك وزارة الداخلية ومجلس الوزراء منذ اندلعت اشتباكات مع المحتجين في نوفمبر تشرين الثاني. وتمثل هذه الحواجز رمزا للانقسامات التي تزداد وضوحا فيما يبدو منذ تسلم الجيش السلطة من الرئيس السابق حسني مبارك الذي أطاحت به انتفاضة شعبية في فبراير شباط الماضي. واتسعت هوة الخلاف بين الجيش والنشطاء الشبان الذين كانوا القوة المحركة وراء الانتفاضة وبين الإسلاميين والليبراليين وبين القوى السياسية المختلفة التي تعاني من خلافات. كل هذا يشهد على التحديات التي تواجهها مصر مع بدء العام المقرر أن يشهد وضع دستور جديد وتسليم السلطة لرئيس مدني. وقالت نجاة (55 عاما) وهي تنظر إلى باب المتجر "هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها شيئا كهذا... هذا مثل الحياة في العراق بكل هذه الحواجز التي تفصل بيننا هكذا." ساعدت الجدران في فرض أكثر من هدنة ولو مؤقتة بين قوات الأمن والمحتجين لكنها أيضا خنقت الحياة في الشارع التي يعقدها أيضا الزحام المروري كما أدت الى إحجام الزبائن عن ارتياد المتاجر هناك. واتسم رد فعل أصحاب المتاجر والسكان والنشطاء والمنتقدين على إقامة الجدران بمزيج من الغضب والاندهاش والضحك وأحيانا بعض الارتياح مما يعكس المشاعر المتضاربة التي تجتاح كثيرين بشأن المسار الذي اتخذته الثورة. وقال معظم من أجريت مقابلات معهم لإعداد هذا التحقيق إنهم يتعشمون إزالة الحواجز سريعا بطريقة أو أخرى. وقال أحمد شوقي (35 عاما) وهو سائق كان يتجول بسيارته الأجرة في شوارع القاهرة الجانبية "كل هذا يحدث على حسابنا... الشوارع مغلقة فتأتي السيارات من هذه الشوارع وتخنق الشوارع المفتوحة." وأضاف "لا نريد هذه الجدران ولا نريد أي مشاكل. فاض الكيل. نحن من تتضرر أعمالنا." وتشبه أجزاء من وسط القاهرة الآن المناطق العسكرية. تختلط الأسلاك الشائكة بالسيارات المحترقة وتقف ناقلات الجنود المدرعة أمام المتاجر الفارغة ويفحص جنود بطاقات هوية مواطنين في طريقهم إلى متاجر أو إلى عملهم. واضطر الكثير من متاجر الوجبات السريعة والمقاهي في شارع محمد محمود الذي شهد أعنف اشتباكات في نوفمبر الى الإغلاق بل إن بعضها لم يستبدل الواجهات التي تحطمت خلال الثورة الا مؤخرا. وأصر محتجون على تأكيد حقهم في جانب الجدار المواجه لميدان التحرير فغطوا المنطقة برسوم على الحوائط بعضها مرحة. لكن أغلبها وقورة. يظهر أحدها باللونين الأبيض والأسود عشرات الرجال والنساء وقد غطوا إحدى العينين بضمادة بيضاء تكريما للمحتجين الذين أصيبوا في أعينهم بالخرطوش او الطلقات المطاطية. حملت أحد الحوائط عبارة "الحرية جاية أكيد" إلى جانب رسم آخر لوجه ضابط شرطة "مطلوب" لاستهدافه المتظاهرين. وتدعو بعض الكتابات الناس إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية التي دخلت مرحلتها الثالثة والأخيرة وهي الخطوة الأولى على طريق تسليم الجيش السلطة لمدنيين بحلول يوليو كما وعد. ويتوقف بعض المارة قرب الجدران لالتقاط الصور او للنظر من على الأطراف وسؤال الجنود على الجانب الآخر عن أسرع طريقة لاجتياز الحاجز. وعلى غرار حائط برلين او "الجدار العازل" الاسرائيلي داخل وحول الضفة الغربية فإن الجانب الآخر من هذه الجدران يكون مكشوفا. ويقف جنود الجيش والشرطة تحيطهم الأسلاك الشائكة للحراسة على مقربة. وقارن محمد الشاهد - الذي يدرس للحصول على درجة الدكتوراة بجامعة نيويورك والمعلق المتخصص في العمارة وتخطيط المدن - هذه الجدران بالحواجز المقامة منذ سنوات حول سفارات بريطانيا واسرائيل والولايات المتحدة علاوة على المجمعات السكنية الفخمة التي انتشرت في ضواحي القاهرة. وقال إنه حين أقيمت جدران فيما سبق في أنحاء المدينة كانت تبدو غريبة ايضا لكن بمرور الوقت أصبحت مقبولة ضمن نسيج المدينة اليومي. وكتب في النسخة الانجليزية من جريدة المصري اليوم يقول إن السؤال الأساسي المتعلق بهذه الأنواع المختلفة من الجدران هو "من هم أصحاب هذه المدينة؟" وأضاف "هذه ليست بغداد. هذه ليست القدسالشرقية. من يقفون على جانبي هذه الجدران مصريون. ما كان يجب أن يسمح من في الحكم بإقامة هذه الجدران لإظهار عدم قدرتهم على إدارة مجتمع عادل." وفي سبتمبر ايلول أقامت قوات الأمن جدارا حول السفارة الاسرائيلية حتى لا يقتحمها المحتجون. ومنذ ذلك الحين أقيم الحائط تلو الآخر عقب اشتباكات متكررة استمرت عدة ايام رشق فيها المحتجون بالحجارة وزجاجات المولوتوف قوات الأمن التي ردت بدورها بالغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية وتقول جماعات حقوقية ونشطاء إنها استخدمت الذخيرة الحية. ويختلف هذا كل الاختلاف عن الأيام الأولى للثورة حين خرج المتظاهرون الى الشوارع يهتفون "الجيش والشعب ايد واحدة." وصدم الكثير من النشطاء من جراء عدد القتلى والجرحى الذين سقطوا خلال ما بدأت كاحتجاجات سلمية وبسبب صور جنود من الجيش والشرطة يضربون الناس حتى بعد سقوطهم على الأرض. وقد أشار النشطاء إلى أن الجدران اعتراف ضمني بأن السلطات تستطيع السيطرة على قوات الأمن لكنها لا تفعل. وقال حسام بهجت الناشط في مجال الدفاع عن حقوق الانسان "من الواضح أن هذا غير فعال ولا يمكن استمراره لأن الجيش ببساطة لن يستطيع إقامة جدار خرساني في مواجهة كل احتجاج في كل شارع وفي كل مدينة." وأضاف "في اعتقادي أنه سيدرك في نهاية المطاف أنه غير قادر على التعامل مع احتجاجات المدنيين الحاشدة وسيمنع قواته من الاشتباك مع المحتجين مباشرة." ويشير آخرون الى أن السماح بقدر من العنف المحكوم يفيد الجيش فيسمح لأعضاء المجلس العسكري بأن يصفوا المحتجين بأنهم "بلطجية" يريدون زعزعة استقرار البلاد. ويقول نشطاء إن هذا تخطيط يهدف الى كسب تأييد ما يطلق عليها "الأغلبية الصامتة" التي يقال إن حجمها لا يستهان به. ويستخدم هذا التعبير في الإشارة الى من يعلون قيم النظام والاستقرار على التغيير الثوري. ونظرا لقلة استطلاعات الرأي الموثوقة في مصر فإن من الصعب تحديد حجم هذا القطاع من الشعب لكن هناك بعض الدلائل التي تشير الى أن هذه الحجة لاقت قبولا عند كثيرين. وقالت نجاة التي تعمل بمتجر الأدوات المكتبية "اذا استمر هؤلاء الناس في البقاء والتظاهر بهذه الطريقة فلن تتحسن الأوضاع... يجب أن يعطوا الناس فرصة ليعملوا."