كتبت مقالًا من فترة بعنوان "الثقافة هي الحل"، أدعو فيه جميع مؤسسات الدولة بنشر الثقافة لكل طبقات المجتمع، لأنه بالثقافة يمكن أن نعدل كثيرًا من سلبيات المجتمع. واكتشفت الآن بعد شهور من هذا المقال، أن الثقافة ضحية، فكيف نستطيع أن نقدمها كحل وهي مع الأسف ضحية ومجني عليها. وعنوان مقالي هذا "الثقافة دائما هي الضحية" كان ملخصًا لمشاركتي في ندوة عن "حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة"، بدعوة من أكاديمية دراسات القانون الدولي والتي تترأسها الباحثة النشطة إيمان خطاب. كان الموضوع مهمًا جدًا ومثيرًا، وتذكرت مكتبة الإسكندرية بعد 25 يناير وكيف كانت معرضة للخطر، وقام بحمايتها الشباب وصنعوا حائطًا صد بأجسادهم، في مشهد مؤثر يدل على أنهم يشعرون بأن هذه المكتبة ملك لهم وليست ملكًا للدولة، وغيرها من المؤسسات الثقافية في مصر وكل دول العالم، ومع الأسف دائمًَا الثقافة هي الضحية في كل عصر وأوان. تتحمل الثقافة تبعات الحروب والفتن والصراعات، وأسهل شيء لأي معتدٍ أو محتلٍ يحتل أن يدمر تراث البلد الذي يحتله، هذا ما حدث مع العراق ويحدث مع سوريا، وحدث من قبل وما زال في فلسطين، فالأسهل للمعتدي والمحتل لكي يدمر تاريخ وتراث بلد أن يهدم ثقافته. وتاريخيًا كانت مكتبة الإسكندرية القديمة ضحية للهدم والحرق بسبب الصراع بين يوليوس قيصر وبطليموس الصغير، بحسب ما يروي المؤرخون، حيث قام يوليوس قيصر بإحراق أكثر من مائة سفينة كانت موجودة على شاطئ البحر المتوسط بعد أن حاصره بطليموس الصغير شقيق كليوباترا بعد أن شعر أن يوليوس قيصر يناصر كليوباترا، وامتدت النيران إلى مكتبة الإسكندرية فأحرقتها ويقول بعض المؤرخين أنها دمرت تمامًا. وكان المتحف المصري بالقاهرة من أوائل الأماكن الثقافية التي اعتدى عليها البلطجية الذين استغلوا ثورة 25 يناير في بداياتها. أيضا متحف المجوهرات له قصة شهيرة جدًا، أبطالها، هم الدكتور إبراهيم درويش والأثري أحمد عبدالفتاح والذين قاما بحمايته بمفردهما، وقاما بخطة ذكية أمام جموع البلطجية الذين وقفوا أمام المتحف وكانوا ينتظرون اقتحامه، وقاما بنقل محتويات المتحف في مخازن على مسئوليتهما الشخصية. والمأساة تتجسد عندما تكون الآثار السورية مسرحًا لعمليات الإعدام التي تنفذها داعش أو تنظيم الدولة الإسلامية، حيث ارتكب التنظيم عملية إعدام جماعية ل25 جنديًا سوريًا على المسرح الروماني بمدينة تدمر الأثرية بمحافظة حمص في شرق سوريا، كما قطع رأس مدير الآثار في المدينة العالم الدكتور خالد الأسعد (82 سنة) وتعليق جثته برأسها المقطوع على عمود في الطريق العام بتدمر، ولفقوا له تهما غير حقيقية، بينما رفض أن يدلهم على معلومات خاصة بالآثار في تدمر، وهم مستمرون في تدمير الآثار بشكل مستفز في ظل صمت دولي مريب. نفس الأمر يحدث في العراق حيث قام وما يزال تنظيم داعش الإرهابي بتدمير متعمد لآثار وتراث العراق، فقام بتجريف مدينة نمرود الآشورية الأثرية في شمال البلاد، مستبيح بذلك المعالم الأثرية التي تعود إلى القرن ال13 قبل الميلاد، كما دمر آثار أخرى في مدينة الموصل. ولا شك في أن حماية الممتلكات الثقافية التي تشكل القيم الثقافية والتاريخية والروحية للشعوب لا تقل أهمية عن حماية الكيان المادي للإنسان، وذلك لارتباط هذه الممتلكات بالإنسان باعتبارها معبرة عن كيانه الثقافي والحضاري. لذلك كله جاءت قواعد القانون الدولي الإنساني بإقرار الحماية للممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، حيث لم يعد يقتصر دور القانون الدولي الإنساني على إسباغ الحماية على الأفراد، وإنما أصبح يمتد ليشمل الممتلكات الثقافية وكافة الممتلكات المحمية. وإذا كنا نطالب بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، فمن باب أولى أن نطالب بحمايتها من أصحاب رؤوس الأموال، فلا تزال أيدي الهدم تطال أبنية ثقافية وفيلات وقصور من أجل بناء ناطحات سحاب أو مولات تجارية، فهو أيضًا نزاع قد يبدو غير مسلح، ولكنه أشد خطرًا لأنه يدمر ثقافة وتراث، خاصة عندما يكون هذا التراث وهذه الثقافة مرتبطة بطبيعة مدينة كانت دائمًا عروسًا للبحر المتوسط، إلا أن العروس لم تعد ترى هذا البحر المتوسط.