"هو انتم بتوع الآثار.." سؤال استقبلنا به سكان شارع الأشرف خليل، والمعروف شعبيا بشارع "الأشراف"، فهم دائما في حالة ترقب وانتظار لذلك الزائر الذي يأتيهم من وزارة الآثار ليخلصهم قبل أن يخلص الآثار الموجودة بالشارع من أكوام الزبالة والزواحف القارضة التي تخرج منها وتهاجمهم ليلا في بيوتهم، ويخلصهم أيضا من مياه المستنقعات و "المجاري" التي تغرق فيها آثار يرجع تاريخها إلي العصور المملوكية و العثمانية والفاطمية ورائحتها العطنة التي تزكم الأنوف. علي بعد أمتار قليلة من مسجد السيدة نفسية بمصر القديمة، يبدأ شارع الأشرف لينتهي كما قال لنا سكانه عند سوق السلاح، وهو يتبع حي الخليفة.. وباستثناء لافتة صغيرة كتب عليها اسم الشارع وعدد من اللافتات التي تعلو أضرحة مقامات تتبع آل بيت النبوة، لا توجد أي لافتة لتوضح اسم عدد من الأثار الإسلامية التي تستطيع أن تميزها بما لها من زخارف وطريقة بناء. قبة السلطان غارقة في مياه عفنة رائحة المياه العطنة والمستنقعات التي تزكم الأنوف هي أول ما يستقبلك عند قبة السلطان الأشرف، والتي يحيطها سور حديدي مغلق من جميع الجهات. مازالت القبة التي بناها السلطان الملك، الأشرف خليل بن السلطان المنصور قلوون، ويرجع تاريخها إلي العصر المملوكي، تحتفظ أعلاها بزخارف حفرية ونقوش لبعض الآيات القرآنية يتوسطها لفظ الجلالة من الجهات الأربع. تهبط القبة عن مستوي سطح الأرض لتختفي نقوشها وسط المياه المتعفنة التي تغطي بضعة أمتار منها، وتسبح فيها كائنات حية تستطيع أن تراها من علي بعد. يعلم سكان الشارع أن القبة للسلطان الأشرف، وهو من يحمل الشارع اسمه، ودون ذلك فهم لا يعلمون أي شىء عن قيمته التاريخية والأثرية. جدير بالذكر أن حكم الملك الأشرف، استمر ثلاث سنوات وله مآثر كثيرة في التاريخ الإسلامي، فرغم قصر مدة حكمه فإنه استطاع إجلاء الصليبيين من السواحل الشامية وكان له الفضل العظيم في فتح عكا وعدة حصون أخري، مما جعل له دور كبير في الحروب الصليبية. وتعد القبة بحسب الدكتور عبد الله كامل، الرئيس الأسبق لقطاع الآثار الإسلامية والقبطية، وهو أيضا عميد كلية الأثار بقنا جامعة جنوبالوادي، جزءا من سلسلة طويلة في عمارة القباب المصرية التي وصلت اقدم نماذجها من بدايات العصر الفاطمي، وقد شهدت تطورا كبيرا من الناحية المعمارية والزخرفية. ويوضح كامل، أن القبة الأشرفية تحتوي علي كتابات حجرية، وهي ثمة تتمتع بها الحضارة الإسلامية، نحتت الكتابات في الحجر من الداخل والخارج وتعطينا فكرة واضحة عن تطور الكتابات النسخية والثلاثية علي القباب المملوكية خصوصا الموجودة علي الحجر. برغم المياه العفنة التي تغرق القبة داخلها، كان قرارنا محاولة الوصول إلي مدخل لها لكن، عم إبراهيم علي، وهو أحد العاملين بمصنع للآيس كريم مجاور للقبة قال لنا: "ما تتعبوش نفسكم.. مالهاش أي مدخل وبعدين هتنزلوا تغرقوا في المياه المعفنة". يعمل عم إبراهيم منذ سنوات طويلة بجانب الأثر وكان شاهدا علي بداية غرقه في المياه يقول: "من سنين بدأت المياه تغرق الأثر.. ولأن أصحاب المصنع خافوا الآثار تحملهم المسئولية فبعتوا لها أكثر من شكوي وفعلا جاء بعض الأشخاص.. عرفنا منهم أن بعضهم بيشتغل في وزارة البترول، وكان معاهم بريمة أخدوا بها عينات... كانوا فاكرين أن فيه بترول!!!" قالها وهو يضحك بسخرية. أثبتت العينات التي قام مصنع الآيس كريم بحسب القائمين علي إدارته أن المياه التي تغرق القبة الأشرفية هي مياه جوفية وليست تسريبات من الصرف الصحفي، وبرغم إرسالهم نسخا من تلك العينات إلي وزارة الأثار فهي لم تتحرك حتي الآن.. وعندما طالبنا الاطلاع علي نسخة منها قالوا لنا :"هتلقوها عند وزارة الآثار". يتفق محسن سيد علي، رئيس الإدارة المركزية للآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار، مع سابقه في أنها مياه جوفية، فالآثار الإسلامية، بحسب قوله، يقع عمقها تحت مستوي سطح الأرض لكنه، لا ينفي أن تكون نسبة بها ولو بسيطة ناتجة عن تسريبات مياه المجاري. تقلل المياه الجوفية، والكلام علي لسان محسن سيد علي، من قيمة الأثر وتقلل من عمره الافتراضي لكنه يكتفي حاليا وبسبب ضعف ميزانية الآثار "بدرء الخطر عن الآثار.. "أما عمليات شفط وتجفيف المياه فهي لا تعد بالنسبة لها من الخطر الكبير الآن. مغامرة الدخول إلي الخاتونية علي بعد أمتار من قبة الأشرف تقع الخاتونية، نسبة إلي فاطمة خاتون زوجة السلطان قلاوون، تظنها للوهلة الأولي مقلبا للزبالة لولا تلك القبة التي مازالت تحتفظ بشموخها وسط أكوام الزبالة، وبنقوشها الإسلامية وبعض آيات القرآن. يشكو الأهالي المجاورون للخاتونية من رائحة الزبالة، لكن شكوتهم الأخطر من الفئران والثعابين التي تزحف عليهم ليلا وتجعلهم يغلقون أبوابهم مع غروب الشمس خوفا علي أطفالهم. وبرغم ذلك لا يتردد بعضهم في إلقاء أكياس الزبالة الخاصة به، لتزيد من أكوام تغرق الخاتونية، إلي جانبها أيضا لن يكون من الغريب أن تجد بالوعة صرف صحي تسرب مياهها باتجاه الخاتونية أو تجد بعض النساء تقوم ب" تشميس" مراتب سريرها أو نشر" غسيلها" علي سور الأثر.. يرجع تاريخ تكية السيدة نفيسة أو الخاتونية كما تعرف الآن، بحسب قول الدكتور عبد الله عميد كلية الأثار، إلي عام 682 هجريا، واصلها مدرسة لم يتبقي منها سوي المأذنة، وهي من أقدم المآذن التي وصلت إلينا من عصر المماليك البحرية ولم يصل إلينا منها سوي القاعدة المربعة وهي أقدم قاعدة حجرية وصلت إلينا في عمارة المآذن المصرية. الجرأة والمغامرة وعم محمود كانوا معنا في رحلة الغوص داخل أكوام الزبالة للوصول إلي داخل الخاتونية والاستمتاع بما تبقي بها من نقوش وزخارف إسلامية.. يبلغ عمر عم محمود 52 سنة وهو مالك لإحدي ورش سمكرة السيارات المجاورة للخاتونية. قال لنا بحسرة وهو يرشدنا إلي داخل الخاتونية: المكان تم هجره منذ أكثر من ثلاثين عاما وردم بال" زبالة" .. آخر مرة يتذكر فيها عم محمود الذي يفتح ورشته بشكل يومي، رؤية أحد ممثلي وزارة الأثار داخل الخاتونية كان منذ أكثر من العام" جاء وصور المكان ثم ذهب ولم يرجع".. "الأهالي عاملين الآثار مقلب زبالة" بهذه المقولة حاول محسن سيد علي، مسئول وزارة الآثار، التملص من مسئولية الوزارة في حماية الآثر. وأضاف "الزبالة مش مسئوليتي لأن سكان الشارع لا تساعدنا" وأوضح مجهوده علي مدار العام الماضي قائلا: "جبت عمال النضافة بالكامل علي مستوي القاهرة كلها من حوالي 15 وحدة تفتيش علشان ينظفوا الشارع، ولأكثر من 20 مرة بيخلصوا من هنا والزبالة بترجع بسرعة خلال 24 ساعة فقط". اضطر مسئول الآثار، بحسب قوله، إلي تعيين حارس علي آثار شارع الأشرف يتناوب مع غيره علي مدار ساعات اليوم الكامل وهو ما نفاه سكان الشارع مؤكدين "إحنا بنعرف أي حد غريب نزل الشارع ولو في حارس كنا عرفنا من زمان".. كما أننا زرنا الشارع لأكثر من مرة وفي أوقات متغايرة ولم نجد أي حارس. استغل السكان المجاورون للخاتونية السور الحديدي الذي يقترب ارتفاعه نحو المتر تقريبا ويحيط بالخاتونية.. في" تشميس" المراتب ومفروشات غرف نومهم.. بينما استخدمه بعضهم بدلا عن" منشر الغسيل". شيماء في الخامسة والثلاثين من عمرها، تعمل محامية تزوجت منذ 11 سنة في منزل أهل زوجها المجاور للخاتونية، أصيب أحد أطفالها بحساسية في الصدر بسبب رائحة الزبالة والمياة المتعفنة التي تغرق الخاتونية. كما تنفي شيماء مسئوليتها وجيرانها عن أكوام الزبالة قائلة: "البلدية وعمال النظافة بالشركات الخاصة هم من يلقون بالزبالة داخل الأثر، أما المياه التي بدأت تظهر داخل المكان فهي بسبب بير داخل الخاتونية". يختلف محمد صيام، موظف حكومي، وأحد السكان المجاورين للخاتونية منذ أكثر من 35 سنة، مع سابقه موضحا أن أكوام القمامة تكونت بسبب السكان الذين بدأوا في إلقاء أكياس صغيرة من" الزبالة" تراكمت مع الوقت فوجدها عمال النظافة، بحسب قوله، مبررا لتفريغ عرباتهم فوقها في ظل غياب المراقبة والمحاسبة "بتوع الزبالة بينتهزوا الفرصة اللي إحنا مش موجودين فيها أو نايمين وبيقلبوا الزبالة وبيمشوا.. ولما بنعترض بيقولوا لنا اشتكوا.. وبرغم شكوتنا مفيش حد اتحرك". بجانب الخاتونية توجد العديد من بالوعات الصرف الصحي يطفح ماؤها باتجاه الخاتونية لكن، الأهالي ينفون بشدة أن تكون مثل تلك البالوعات سببا في المياه المتسربة بالخاتونية" مؤكدين "لما البلاعة بتتسد أحنا بنصلحها بسرعة علي حسابنا". بلاغات كثيرة قدمها سكان الشارع إلي وزارة الآثار لكنهم "لم يأتوا سوي مرة واحدة منذ عامين وقالوا إن إزالة القمامة وشفط المياه من المكان تحتاج إلي إمكانيات دولة".. قالوها لهم وذهبوا أيضا بلا عودة حتي الآن، بحسب تأكيدات السكان.