ربما كانت فكرتك عن السبيل, بأنه مجرد بناء بسيط, يقدم الماء للعابرين, ممن يحرقهم ظمأ العطش, فيسرعون إلى مائه البارد العذب, يطفئ الحرارة التي تحرق حلوقهم في صيف القاهرة.. بيد أن تلك الفكرة سرعان ما ستكتشف سذاجتها إذا زرت سبيل قايتباي المحمودي في شارع الصليبة. كنت مثلك أحمل نفس الفكرة عن السبيل, حتى أتيح لي مشاهدة السبيل من داخله .. فالرجال يأتون بالماء ويصبونه في كوة تقع في جدار السبيل من الخارج, فتتجمع كميات ضخمة منها في صهريج ضخم, ويكفي أن تعرف أن عمق الصهريج, وكما قال عم حسن الذي يتولي إرشاد من يزور السبيل, يصل إلى 13 مترا, تغطي المياه منها 10 أمتار.. ثم يقوم رجال يعينهم السلطان, بسحب الماء من البئر الضخم وصبها مرة ثانية في أنابيب, فتتساقط على لوح رخامي, وتتعرض للهواء فيقوم بتبريدها, لتمر مرة أخري في ممرات, في طريقها للخارج, لتتجمع في أحواض خارج الشبابيك, لتطفئ ظمأ كل عابر سبيل, يشرب ويدعو لمن شيد هذا المبني, ينقذ به عباد لله من حرارة الصيف الحارقة. يتكون سبيل قابتباي إذن من ثلاثة مستويات, يقع المستوى الأول تحت سطح الأرض، وهو عبارة عن صهريج بُني من الحجر الصلد( مازال إلى اليوم يحمل ماء للحفاظ على نوعية الحجر الجيري), وتحتفظ فوهة الصهريج المغطاة بالرخام بالفتحات التي كانت المياه تنسكب منها, ليتم ملأ البئر سنويا بعد تنظيفه وتطهيره. أما المستوى الثاني فيقع على منسوب سطح الأرض، ويوجد فيه الحجرة التي يقدَّم منها الماء للمارّة. وتطل هذه الحجرة على الشارع عن طريق شبابيك, وأسفلها تنام أحواض لجمع المياه للعطشى. أما المستوى الثالث من السبيل فيحتوي على كتّاب لتحفيظ الأطفال الأيتام القرآن الكريم. وهذا الكًتاب الآن هو مكتبة الحضارة الإسلامية, وللتعرف على قصتها, التقت شبكة الإعلام العربية "محيط" مع مديرها السيد صالح, ليروي قصة سبيل وكتًاب قايتباي. مكتبة الحضارة الإسلامية يقول مدير المكتبة أن تاريخ السبيل يضرب بجذوره في التاريخ, ليسجل في سجله التاريخ عمرا يقارب الستمائة عام, ويعد هذا الأثر الوحيد الذي يضم سبيل وكتًاب لتعليم الأطفال القرآن الكريم في نفس الوقت, فقبل ذلك كانت الأسبلة تشيد لها أماكن خاصة بها, وكذلك الكتاتيب, فجاء السلطان قايتباي وقرر الجمع بين أرواء العطش للماء والتعطش للمعرفة في مكان واحد. يستكمل صابر: للأسف بعد إنشاء السبيل بمدة ليست طويلة, تم إهماله في عهد المماليك وتحول إلى مكان لإلقاء القمامة. وفي عام 2000 م قررت وزارة الثقافة المصرية إعادة افتتاح المبني بعد ترميمه وإعادة بناء ما تهدم منه. وفي 2001 قررت تحويل الدور الأول والثاني إلى مكتبة للحضارة الإسلامية, على أن يظل الدور الأرضي محتفظا بدوره الأصلي وهو سبيل. وبالتالي فعمر المكتبة الآن يمتد إلى أحد عشر عاما, وهي مكتبة متخصصة في مجال الحضارة الإسلامية, فتضم على أرففها كتب ومجلدات عن الفنون الإسلامية, والثقافة الإسلامية, والتاريخ الإسلامي, وهي مكان جذب لكل المتخصصين في نفس المجال, فأكثر من يأتي للمكتبة الطلاب المتخصصين في الفنون والعمارة الإسلامية. ويصل عدد روادها في الأيام العادية ما يقرب من مائة إلى مائة وخمسين شخصا, لكن في أيام الدراسة يصل عدد طلابها إلى 300 شخصا. وتهتم المكتبة أيضا بنشر الثقافة الأثرية عن طريق إقامة ندوات, وخاصة يوم الأربعاء من كل أسبوع, كما تنظم عروض مسرحية, ورحلات للأماكن الأثرية. وللمكتبة صفحة على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" تحمل عنوان مكتبة الحضارة الإسلامية, وتنشر عليه باستمرار جدولها الشهري وما تقوم به من أنشطة وندوات, وتحاول المكتبة من جانبها تنشيط الثقافة الأثرية حتى لا تقتصر على المتخصصين, من خلال تنظيمها لرحلات مدرسية, يتم الإعلان عنها في مكتبة القاهرة. ويبدي صابر ألمه على ما آل حال الآثار الإسلامية التي تعدت عليها بعض الجماهير بالإيذاء بعد الثورة, فشارع الصليبة, على كثرة ما يحوي من الكنوز الأثرية, يتعرض للتعدي من بعض الأشخاص, الذين يخرقون القانون, وحولوا أرصفته إلى أكشاك. تعرضت المكتبة للسرقة يوم جمعة الغضب يناير 2011, حيث اقتحمها البلطجية بعدما حرقوا قسم الخليفة المجاور لها, ونهبوا أجهزة الكمبيوتر والمراوح, وأنظمة الصوت, وللأسف حتى الآن لم يتم تعويض المكتبة عما فقدته. وما تقوم به المكتبة حاليا من أنشطة ثقافية يعتمد على إمكانيات تحت الصفر, ولكن ولله الحمد استطاعت المكتبة القيام ببعض الأنشطة, ويمكن للقراء والمهتمين بالثقافة الإسلامية متابعة نشاط المكتبة على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك في حسابها المعنون ب "مكتبة الحضارة الإسلامية". سبيل قايتباي العظيم انتهي حديث السيد صالح, وتعود "محيط" إلى كتب التاريخ تستقي منها تاريخ السبيل, فتجد أن هذا المبنى يعد من أبرز مباني السلطان قايتباي في القاهرة, فبالإضافة إلى أن واجهاته تحتوي على زخارف فائقة الجمال، فهو أول سبيل مستقل عن أي منشأة أخرى في مصر. وقد أنشأ السلطان قايتباي سبيلاً آخراً في القدس الشريف تعلوه قبة . وانتشرت السبل بعد ذلك وأصبحت شائعة في العصر العثماني في القاهرة. ويوجد اليوم في مدينة القاهرة حوالي مائة سبيل. أما قايتباي فهو السلطان الواحد والأربعون في سلاطين الدولة المملوكية , والخامس عشر من سلاطين الجراكسة , تولي الحكم بعد اضطرابات وفوضي نتيجة تصارع أمراء المماليك على كرسي العرش , وكانت مدة سلطنته 18 عاما انشغل فيها بتأمين حدود الدولة المصرية في الشام من هجمات العثمانيين , وصد غارات قراصنة البحر , ولذلك شيد بالإسكندرية القلعة التي تحمل اسمه إلى اليوم. ويعد قابتباي أعظم سلاطين المماليك الجراكسة, ولم يأت بعده من أقوياء سوي السلطان الغوري , والذي لم يستطع رغم هيبته وقوته من وقف التدهور في أحوال الدولة المملوكية , فكانت النهاية في "مرج دابق" بالشام, والصدام مع الجيش العثماني, ليسقط الغوري صريعا تحت سنابك الخيل العثمانية بسبب الخيانة من جانب خاير بك, ويسدل الستار على دولة المماليك في مصر على مشهد أخر سلاطينهم طومان باي متدليا من حبل المشنقة على باب زويلة, لتبدأ مصر في 1517 عهدا جديدا من تاريخها تحت السيطرة العثمانية, باعتبارها مجرد ولاية ضمن أملاك آل عثمان. وقايتباي, وكما يصفه عبد الرحمن عبد التواب في كتابه "قايتباي المحمودي"الصادر ضمن سلسلة الأعلام, هو أكبر البنائين في التاريخ المصري الوسيط, ولا يدانيه في ذلك سوي السلطان الناصر محمد بن قلاوون.. "فإذا كان عصر دولة المماليك الجراكسة هو العصر الماسي بالنسبة للعمارة الإسلامية, فليس من شك أن فترة حكم السلطان قايتباي تعتبر درة ذلك العصر"..
فقد شغف هذا السلطان بالبناء والتعمير والإنشاء أيما شغف, وانتقل هذا الشغف إلى رجال دولته, فانتشرت عمائره وعمائرها في طول البلاد وعرضها في شتى أرجاء الإمبراطورية المملوكية المترامية الأطراف. وبلغ عدد الآثار التي تركها في القاهرة وحدها 38 أثرا, غير ما شيده في الإسكندرية, ورشيد والمنيا, والقليوبية. وشملت عمائر السلطان جميع نواحي الحياة, فمنها من يخص العمارة السكنية, والعمارة التجارية, والأعمال الخيرية, والتعليم والري, وحتى الحيوان كان له نصيب من عناية السلطان, إذ شيد أحواض للمياه في جميع أنحاء البلاد.
وكان متقشفا, يصل في حرصه على المال إلى درجة الحرص, لكنه مع ذلك عظيم الإنفاق على الجيوش, والعمائر, تولي السلطنة, يحمل بين أضلعه نزعة صوفية, جعلته عاقلا حكيما, إذ غضب سرعان ما تزول حدته.. وكان شجاعا, عارفا بكل أنواع الفروسية, استطاع في مدة حكمه الطويل أن يضرب بقوة على أيدي الفاسدين, حتى ولو كانوا من خاصة رجاله, وحافظ على الإمبراطورية المملوكية قوية مرهوبة الجانب, وتوفي في القاهرة سنة 901 هجريا/ 1496 م , لكن من جاء بعده لم يكن في قدراته, لتكون النهاية في 1517 م على يد الدولة العثمانية , وينزل الستار على دولة المماليك التي حمت العالم الإسلامي من أخطار المغول والصليبين, وتركت من العمائر ما جعل القاهرة بحق درة العالم الوسيط, ومدينة الألف مئذنة.