لا أرى مبررا لتلك الضجة التى أثارها تورط الداعية الشهير فى مشهد إعلانى عن دجاجة تنتجها شركة سعودية تمنح أكلها الارتقاء الروحى اللازم لحسن العبادة، فهى لم تكن الأولى له ولا لكثير من دعاة هذا الزمان، كما أن تورط نجوم الفن والأدب والرياضة فى تقديم مشاهد إعلانية أصبح مألوفا ويكاد يكون مقبولا من الجميع، وقد بلغ التهافت على المشاركة فى هذه الإعلانات حد الابتذال حيث نرى نجوما كبارا يضيعون، أو بالأحرى، يوظفون تاريخهم الفنى كله فى لقطة تستغرق بضع ثوان للإعلان عن كيس شيبسى أو طقم ملابس داخلية أو مسحوق غسيل، دعك من شركات الاتصالات التى نجحت فى «تجنيد» كل من له وزن على الساحة الفنية أو الرياضية للترويج لباقاتها السخية والموفرة للأموال ؟!. المال الوفير بلا شك هو الإغراء الوحيد الذى يدفع نجوم الفن والدين والمجتمع للانخراط فى هذه الأدوار الإعلانية المباشرة فلا توجد فائدة أخرى يمكن أن تعود عليهم جراء إسهاماتهم فى الترويج للسلع والخدمات، أما التبعات المجتمعية لانغماس نجوم الفن والدين والمجتمع فى تقديم الإعلانات التجارية فهى قضية مفتوحة وتفاعلاتها تجرى حولنا دون أن تهتم جهة علمية كالجامعات مثلا بإجراء دراسة أو دراسات للتأثيرات السلبية التى يمكن أن تتمخض عنها هذه الظاهرة على الشباب وعلى الناس.. وعلى منظومة القيم فى المجتمع. الجدوى الاقتصادية لعائد الاستعانة بنجوم الفن والرياضة والمجتمع فى الترويج أظنه كذلك محل شك وهو ما بدأت بعض الشركات الكبرى الانتباه إليه وربما يظهر أثر هذا الانتباه فى رمضان المقبل. والمعروف أن شركات الإعلانات والتسويق والعلاقات العامة هى المسئولة عن تقديم «الأفكار الجديدة» للشركات الراغبة فى التسويق لمنتجاتها أو خدماتها، وقد دفعت المنافسة الحامية بين شركات التسويق موظفيها لابتكار أفكار جديدة للفوز بثقة العملاء.. وكان من بينها الاستعانة بنجوم الفن فى الإعلان عن منتجات هذه الشركة أو تلك. الفكرة بدأت على استحياء قبل سنوات ولاقت وقتها انتقادات كبيرة حتى من بين الفنانين أنفسهم والنقاد لكن اعتبارات المنافسة الشرسة دفعت شركات الإعلان والتسويق للتوسع فى هذا اللون من الإعلانات وضم أعداد متزايدة من الفنانين إلى سوق الإعلانات عبر تقديم إغراءات مالية متزايدة دفعت نجوم الصف الأول للمنافسة على المساهمة فى هذه الإعلانات بعد أن كانت مقصورة فى بداياتها على النجوم المعتزلين وكبار السن أو فنانى الصف الثالث وما بعده. النجاح التجارى الذى حققته الشركات دفعها لزيادة التمويل على هذا اللون من الإعلان وهنا راحت شركات التسويق مرة أخرى للبحث عن نجوم جدد لتنشيط الحملات الترويجية، حيث ظهرت البرامج الدينية والرياضية والسياسية الممولة من «الرعاة»، ومؤخرا دخل لاعبو الكرة ومدربوهم ليأخذوا نصيبهم من «كيكة» الإعلانات المطروحة بسخاء، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التى نعيشها وآلام برنامج الإصلاح التى تطول الجميع. الاستعانة بنجوم الفن والرياضة فى الإعلانات المباشرة والإفراط فى منح أموال الرعاية للبرامج بأنواعها حقق نجاحات للشركات، ولكن تكاليفه زادت بصورة باهظة كما أن معدل النمو فى المبيعات لم يعد يناسب حجم الإنفاق الإعلانى المتضخم وذلك وفقا لرأى مدير تنفيذى لإحدى كبرى الشركات العاملة فى المواد الغذائية.. أحد أكبر الصناعات المعتمدة على الإعلانات فى تسويق إنتاجها وممول رئيسى لأجور نجوم الفن والرياضة الموظفين فى الإعلانات. كذلك فإن الأجور الباهظة التى يتلقاها النجوم لقاء ظهورهم فى مشهد إعلانى دفع آخرين نحو سوق الإعلانات التجارية بينهم أطباء ومحامون وحتى الطباخون للاستفادة من أموال الإعلانات الوفيرة، وهكذا بعد أن كانت الشركات تلهث وراء النجوم للاستفادة من نجوميتهم فى التسويق، أصبح النجوم الآن يعرضون أنفسهم على شركات التسويق للاستعانة بهم فى الأنشطة التجارية. انخراط عناصر من النخبة فى الترويج والإعلانات التجارية ظاهرة لها آثارها الوخيمة على المجتمع كله أقلها تضييع مفهوم القدوة كما كنا نعرفها، وإهدار قيمة العمل نفسه بعدما رأى «الشقيانيين» أن نخبتهم تتحصل فى دقائق على مبالغ تعادل ما يتقاضونه فى سنوات، وهذه ظاهرة يتعين الانتباه إليها وتصويبها، وهو أمر يفوق قدرات المجلس الأعلى للإعلام بقوانينه وآلياته التى تحكم عمله. الظاهرة تحتاج إلى الدراسة وإلى ابتكار آليات مجتمعية تحد من آثارها السلبية على المجتمع، فلا يمكن أن تكون هذه التجارة هى حديث الناس فى رمضان بينما تتجاهلها السلطات المعنية وهى كثيرة وقد يكون لمجلس النواب دور فى هذا الأمر، أما أثر الدراما الممولة إعلانيا فى الناس فهى أكثر خطورة وأشد استفحالا.. ربما تحتاج إلى حديث آخر.