هموم التضخم تجتاح معظم اقتصادات العالم، واذا كنا في مصر نعاني من الاثار الاجتماعية لارتفاع الاسعار فإنهم في دول منطقة اليورو يقاسون من الاثار الاقتصادية الوخيمة لانخفاض التضخم لادنى مستوى منذ عام 2009 وهو ما يخلق مشكلات عويصة تهدد المنطقة بشبح الانكماش، من اجل هذا تكافح البنوك المركزية الاوروبية لرفع معدلات التضخم الى حدود 4 ٪ حتى تتمكن الشركات من تحقيق العوائد التي تمكنها من التوسع وخلق مزيد من فرص العمل.. ارتفاع التضخم يثير حفيظة الناس ومع ذلك فإن آثاره تظل اقل وطأة من الدخول في دائرة الانكماش بما يعنيه ذلك من ركود في الاسواق وزيادة معدلات البطالة ومزيد من التدهور في قيمة الجنيه، وما يمكن ان يلي ذلك من الدخول في موجة ركود تضخمي لا تحمد عقباه. ومع ذلك فإن ظاهرة التضخم في بلادنا لها اكثر من جانب وتتسع لاكثر من وجهة نظر، فمن الزاوية الاقتصادية يعد ارتفاع بعض السلع والخدمات التي شعرنا بها في الشهور الاخيرة أثرا جانبيا لابد منه لسياسات الاصلاح المالي التي شرعت الحكومة فى تنفيذها اعتبارا من يوليو الماضي «بتصويب» اسعار الوقود والكهرباء، بغرض توفير 41 مليار جنيه من عجز الموازنة ليقف عند 200 مليار جنيه كما ظهر في الموازنة الحالية 15 /14، وهو اجراء اصلاحي مهم طال إرجاؤه ويتحمل الناس بعض تكاليفه درءا لخطر اكبر يتمثل في زيادة الدين العام الذي وصل الان الى حد حرج يبلغ تقريبا 86 ٪ من الناتج المحلي الاجمالي. وخلال الاسبوع الماضي عبر المدخنون عن تذمرهم لزيادة الضرائب على التبغ في مسعى من وزارة المالية لتحصيل 5.5 مليار جنيه اضافية للتخفيف من عجز الموازنة، وهذا اجراء اصلاحي مؤلم بعض الشىء ولكنه مفهوم، فاستمرار عجز الموازنة فوق 10 ٪ يمثل خطرا يتعين وقفه وتقليصه. غير ان الارتفاع المباغت في اسعار الدواجن الذي تجاوز 50 ٪ في غضون الشهرين الماضيين يمثل شكلا من اشكال الانفلات السعري الذي ليس له علاقة مباشرة بتطبيق سياسات الاصلاح، فلا توجد عوامل اقتصادية ترفع سعر كيلو الدواجن من 14 الى 22 جنيها في 60 يوما، حتى ما يقال عن تأثير برودة الجو على نفوق الدواجن في عنابرها يمثل مظهرا من مظاهر سوء الادارة، فكل الدول الباردة لديها مزارع للدواجن ولا تشهد نفوق 70 ٪ من الطيور كما سترى على صفحات هذا العدد. وبجانب الدواجن فإن كثيرا من السلع والخدمات التي تشهد ارتفاعات متفاوتة ومنتظمة في تكلفتها هذه الايام تعود في الاساس الى سوء الادارة وضعف الرقابة فضلا عن الجشع واستغلال الظروف، وهذه كلها عوامل يمكن التعامل معها واحكام السيطرة عليها لمواجهة ارتفاع الاسعار والحد من التضخم الذي يجب ان يكون واحدا من اهداف الحكومة جنبا الى جنب مع السياسات الرامية للحد من الانفاق على الدعم وتصويب الاسعار. بعض التجار يعزون الارتفاع في اسعار البيع الى الزيادة الرسمية الاخيرة التي طرأت على سعر الدولار، رغم ان الكل يعلم ان حسابات تكلفة الاستيراد معظم فترات العام الماضي كانت تتم على اساس اسعار السوق السوداء التي لامست 8 جنيهات للدولار الواحد قبل ان تنظم من خلال السوق الرسمية على اساس سعر يدور حول 7.60 جنيه للدولار، أي ان تكلفة الاستيراد لم تتغير مقابل الجنيه، بل ان الركود في اوروبا وتراجع معدلات النمو في الصين كان له اثره في خفض تكلفة الشراء من هذه المناطق بما ينفي وجود مبررات نقدية لرفع اسعار السلع الاجنبية او مكونات الانتاج المستوردة بصفة عامة. قضية التعامل مع التضخم ومكوناته يجب ان تنال قدرا اكثر من العناية للحد من اثاره على حياة الناس، واذا كانت الحكومة قد قررت انتهاج خطة اصلاحية تعتمد على تصويب السياسات المالية والنقدية جنبا الى جنب مع اطلاق سلسلة من المشروعات القومية والاعمال الممولة من الخزانة العامة، فإن التضخم هنا يصبح امرا متوقعا ومعروفا سلفا. وهنا يجب العمل على محورين الاول اعمال قدر اكبر من الشفافية لاقناع الناس بضرورة قبول هذا الثمن الذي يتعين دفعه لتحقيق الاصلاح المنشود، والاخر هو السيطرة على أي مظاهر غير ضرورية للتضخم كتلك المتعلقة بسوء الادارة او الانفلات الناتج عن الفوضى والجشع . ارقام التضخم المعلنة من البنك المركزي في 2014 كانت تدور حول 10 ٪، والبنك الدولي قدرها بنحو 11 ٪ ولكنه رفعها الى 15 ٪ في 2015، ومع ذلك فإن هناك من المؤشرات ما يدعونا للقول بامكانية النزول عن هذه الارقام المقدرة في ضوء حالة الاقتصاد الدولي واجواء الركود وتراجع النمو لدى شركائنا التجاريين، فضلا عن الجهود الداخلية الممكنة لضبط الاسواق. مع تطور الاقتصاد وتعقده اصبح ضبط التضخم من اهم العوامل المؤثرة في تحفيز الطلب، المحرك الاساسي للنمو، واذا كانوا في اوروبا يسعون لرفع التضخم لدعم الشركات وانعاش عوائدها، فإننا هنا نحتاج الى الحد من ارتفاع التضخم لتشجيع الطلب وزيادة معدلات النمو، حتى ولو تطلب الامر اجراء زيادات جديدة في الاجور لمقاومة التضخم وآثاره وهمومه.. غير ان هذه قضية اخرى.