يعيش المجتمع المصري لحظة فارقة في تاريخه المعاصر قد تدفعه إلي مرتبة الدول المتقدمة أو تشده إلي الخلف لعقود طويلة, ويتوقف ذلك علي مواجهة مجموعة من التحديات بشجاعة وصبر. ويدرك الجميع أن الثورة المصرية كانت سياسية حتي الآن, وليست اقتصادية. ومصر اليوم في حاجة إلي حكومة فائقة الفاعلية, لا تنتمي إلي تراث الحكومات السابقة, ولا ينطبق هذا علي مصر فقط بل علي جميع دول العالم. فدور الحكومة يتم تحديثه بما يتوافق مع التغيرات التي أصابت العالم وخاصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية وثورات الربيع العربي'. وقد يزعم البعض أن المشاكل الاقتصادية التي تواجهها الحكومة الجديدة بالغة الصعوبة. كما أن نجاح أي حكومة قادمة سيتوقف علي مدي الاعتماد علي ذاتها وعلي مدي وضوح الرؤية ومدي قدرتها علي إقناع رجل الشارع بأهمية ترتيب الأولويات للنهوض بالبلاد. وهناك عرف عام تنتهجه كل الدول المتقدمة والنامية وهو تفضيل حكم التكنوقراط في أوقات الأزمات. فالحكومات الأوروبية التي تأثرت بالأزمة تلجأ بشكل متزايد إلي التكنوقراط غير المنتخبين, حيث يلعب التكنوقراط دورا مفيدا باعتبارهم وسطاء يتسمون بالنزاهة عندما يفقد الساسة التقليديون مصداقيتهم أو عندما تسلك الأحزاب طريقا مسدودا. وهم فضلا عن ذلك يتمتعون بالمصداقية التي تتأتي بفضل عدم رغبتهم في إعادة انتخابهم, إما لأن فترتهم في المنصب كانت محددة سلفا أو لأنهم يفضلون الحياة الأكاديمية الهادئة. وتتجلي أكثر ميزاتهم وضوحا عندما تواجه البلاد المشاكل, والواقع أن الاستعداد للتخلي عن السلطة إذا لزم الأمر يعد واحدا من المزايا التي يجلبها التكنوقراط لمثل هذه المناصب. والواقع أن العديد من حملة الدكتوراه لا يصلحون بأي حال من الأحوال كصناع للقرار السياسي, ويرجع ذلك إلي افتقارهم إلي مهارات الزعامة وغير ذلك من المهارات الإدارية. مصر اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضي إلي ساسة مستنيرين رصينين, يتمتعون بالقدر الكافي من الجرأة واتساع الأفق, وراغبين في الارتفاع فوق مصالحهم السلطوية الضيقة, أو المصالح الخاصة لأحزابهم. فالسياسي الصالح لابد أن يكون قادرا علي الشرح من دون اللجوء إلي الإغواء, ويتعين عليه أن يبحث بكل تواضع عن حقيقة حاجات هذا الوطن من دون أن يدعي أنه المالك الوحيد لها, وينبغي له أن ينبه الناس إلي الصفات الطيبة الكامنة فيهم, بما في ذلك الحس السليم بالقيم والمصالح التي تتجاوز النطاق الشخصي, من دون إظهار تفوقه أو فرض أي شيء علي الآخرين. والواقع أن حزبي الحرية والعدالة والنور أهدرا إلي حد كبير النوايا الحسنة التي وضعتهما علي رأس السلطة في إطار موجة من اشمئزاز الناخبين من عدم تحقيق انجازات علي أرض الواقع. والواقع أن المواطنين لن يستندوا في الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات القادمة إلي العوامل التي استندوا إليها في الانتخابات السابقة بسبب تغير مشاعرهم تجاه ما اعتقدوه هو الصواب في المرة السابقة. في حين افتقر الليبراليون, الذين قادوا الانتفاضة ضد النظام السابق, إلي التنظيم علي الصعيد الوطني ولم يكن الوقت المتاح أمامهم لترجمة رأسمالهم السياسي الذي اكتسبوه حديثا إلي أصوات انتخابية كافية. وكانت أولويات الليبراليين في غير محلها, فبدلا من دفع أجنداتهم إلي الأمام بين المصريين, ركزوا علي العدو الخطأ, فأهدروا وقتا ثمينا في تنظيم المسيرات والمظاهرات. ربما كان الأمر الأكثر أهمية هو أننا تعلمنا أنه لا يوجد حل واحد يناسب جميع الظروف لإرساء الديمقراطية. والواقع أن بلدان الشرق الأوسط سوف تواجه تحديات فريدة, وهي التحديات التي سوف تفرض علي كل بلد أن يعالجها وفقا لظروفه الخاصة ومن الأهمية بمكان إعطاء الأولوية للاستثمارات المستهدفة. وأن يكون الشباب علي رأس الأولويات من خلال إعادة النمو إلي مساره الصحيح, ولكن أيضا الاستجابة الفورية للمأساة الإنسانية التي ضربت شبابنا. ولا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نضحي بجيل كامل, أو نجازف بخلق جيل ضائع قد يدمر النسيج الاجتماعي لبلدنا ويهدد استقرارنا. نحن في حاجة إلي خطة طوارئ فورية: الاستثمار لتمويل التدريب المهني, وتحسين فرص التعليم, وخلق الحوافز الكفيلة بدفع أصحاب العمل إلي توظيف الشباب. ومن الضروري إيجاد إطار مصرفي سليم لإقراض المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم, التي هي شريان الحياة لاقتصاد. ويجب ألا نسير علي النهج القديم في الوقوف خلف شعارات المشروعات القومية الكبري, فهي إن كانت مناسبة في وقت ما, فهي لا تناسب الوقت الحالي لتغيرات كثيرة, فالإنفاق علي المشروعات الكبري بات يواجه بمعارضة شعبية في كثير من دول العالم. ويدرك البعض الآن أن أمريكا قد تفوز في حربها من أجل ديمقراطية عربية, إلا أنها لن تتمكن من جني ثمار هذه الديمقراطية, لأن النمط الناشئ من السياسات التعددية الإسلامية لا يتوافق مع النسخة الغربية من الديمقراطية الليبرالية العلمانية. والبعض الآخر يراهن علي نموذج الديمقراطية الاجتماعية الذي ظهر في أمريكا اللاتينية وبدأ يكتسب المزيد من القوة. ففي البرازيل, وشيلي, وأورجواي أثبتت الديمقراطية الاجتماعية أنها قادرة علي العمل وإحراز النجاح. هذا النموذج يتألف من يسار مندمج في أنظمة ديمقراطية تنافسية متعددة الأحزاب. وكان هؤلاء الديمقراطيون الاجتماعيون ذات يوم يشكلون جزءا من اليسار الاشتراكي أو الثوري أو الإصلاحي, ولكنهم في نهاية المطاف تقبلوا اقتصاد السوق, وأخذوا في الميل نحو الاعتدال الإيديولوجي والتنافس من أجل الفوز بالأصوات في الوسط السياسي. في الوقت نفسه, وبدافع من المنافسة السياسية والإيديولوجيات اليسارية, فإن هذه الحكومات الديمقراطية الاجتماعية تؤكد علي النمو الاقتصادي والاندماج الاجتماعي. لم لا يتم تحويل التيارات المختلفة لصالح الوطن لماذا لا نستفيد من تجارب الآخرين, في توجيه التيارات المختلفة إلي مسارات صحية؟ نحن أمام مرحلة جديدة تتطلب منا تكاتف جميع الجهود علي هدف واحد. إن القضية الأكثر أهمية التي ينبغي أن نركز عليها تتلخص في النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. ويقع العبء الأكبر في حل هذه القضية علي القطاع الخاص وعلي البنوك. والقائمون علي العمل المصرفي مطالبون باستغلال الدروس المستفادة من الأزمات السابقة. والقطاع الخاص ملزم بالعمل كمحرك للنمو وتشغيل العمالة, ولابد أن تلعب البنوك دورا حيويا في تحقيق هذه الغاية. وكانت هناك تجارب ناجحة علينا استعادتها من جديد مثل بنوك التنمية الوطنية لتكون أكثر قدرة علي النهوض بمتطلبات التنمية بتعبئة المدخرات ومعاونة المدخر والمستثمر الصغير علي التعرف علي مجالات الاستثمار وتوجيه موارد هذه البنوك نحو المشروعات الاستثمارية والمساهمة في رءوس أموال الشركات التي تقام بالمحافظات. فبنوك التنمية الوطنية تكونت جنينا في رحم التنمية الشعبية وأنها أيضا هي التي تولت حضانتها وتنشئتها حتي بلغت رشدها, ثم انحرفت عن مسارها. إن التصور المستقبلي لبنوك التنمية الوطنية يتمثل في العودة إلي جوهر وظائفها الأولي وغاياتها الأساسية التي انحرفت عنها. ومن الأهمية بمكان إعطاء الأولوية للاستثمارات المستهدفة. وأن يكون الشباب علي رأس الأولويات من خلال إعادة النمو إلي مساره الصحيح, ولكن أيضا الاستجابة الفورية للمأساة الإنسانية التي ضربت شبابنا. ولا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نضحي بجيل كامل, أو نجازف بخلق جيل ضائع قد يدمر النسيج الاجتماعي لبلدنا ويهدد استقرارنا. نحن في حاجة إلي خطة طوارئ فورية: الاستثمار لتمويل التدريب المهني, وتحسين فرص التعليم, وخلق الحوافز الكفيلة بدفع أصحاب العمل إلي توظيف الشباب. ومن الضروري إيجاد إطار مصرفي سليم لإقراض المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم, التي هي شريان الحياة للاقتصاد. ويجب ألا نسير علي النهج القديم في الوقوف خلف شعارات المشروعات القومية الكبري, فهي إن كانت مناسبة في وقت ما, فهي لا تناسب الوقت الحالي لتغيرات كثيرة, فالإنفاق علي المشروعات الكبري بات يواجه بمعارضة شعبية في كثير من دول العالم. اليوم بات علينا أن نبدأ بتحقيق الأمن الغذائي وتحقيق نهضة صناعية, وأن نعيد للصناعة حياتها التي فقدتها طوال العقود الماضية, وألا ننجرف وراء الأجندات الخارجية بالاتجاه نحو الخدمات, فالأولوية لابد أن تكون للتصنيع في اقتصاد أي بلد. فنيكولاس كالدور, الخبير الاقتصادي العالمي من كمبريدج والمستشار ذو النفوذ لدي حزب العمال, قد حذر من' التراجع عن التصنيع'. وكانت حجته تتلخص في أن التحول الجاري في القيمة المضافة من الصناعة إلي الخدمات أمر بالغ الضرر, لأن الصناعة كانت تقوم علي التقدم التكنولوجي في حين لم تكن هذه حال الخدمات. إن النظام الأنسب لنا هو نظام الرأسمالية البسيطة, مثل التي وجدت في بريطانيا وأمريكا في النصف الأول من القرن التاسع عشر, حيث كانت أسس هذا النظام هي الحريات الفردية, وحقوق الملكية, والعقود المأمونة, ومحاكم لديها القدرة علي المحافظة علي سيادة القانون, وبنوك محلية لديها صلات مع أصحاب المبادرات الفردية, وشركات تمويل توفر رأسمال للمشاريع الجديدة, وسهولة الدخول علي السوق للشركات الجديدة. لكن الأهم في هذا اليوم أن نضع خطة سريعة لمواجهة الفساد الذي استشري بشكل كبير بعد الثورة, فكل المصريين يلاحظون ارتفاع مؤشر الفساد الذي ظهر مؤخرا حيث يقوم السياسيون بجمع الأموال من قطاع الأعمال كجزء من تبادل المصالح. كما أن هناك نماذج عدة لمست طريقها إلي النجاح بقوة من خلال الاعتماد علي الذات. فالاعتماد علي الذات الذي ننادي به لا يعني الانغلاق أو قطع التعامل مع الاقتصاد العالمي أو تحقيق الاكتفاء الذاتي, فهذه أمور غير ممكنة فضلا علي أنها غير صحيحة من الناحية الاقتصادية. فالاعتماد علي الذات يعني تعبئة الموارد المحلية المتاحة والممكنة بأعلي درجة من الكفاءة واستخدامها علي نحو رشيد وفعال باعتبارها الأساس لبناء التنمية. والاعتماد علي الذات ليس أمرا جديدا فقد وجدت تطبيقها في عدد من الدول. اليوم مصر في أشد الحاجة إلي أهل الخبرة, حيث إن الأهداف يجب أن تكون مرتبطة بالواقع وبمستقبل له طموحه وآماله ونسعي إليه جميعا. ولا يمكن أن تتحقق الأهداف إلا بسياسات غير تقليدية مستمدة من فكر غير تقليدي. ومن طبيعة أهل الخبرة الإبداع. وكم من المشاكل التي يواجهها مجتمعنا اليوم تحتاج إلي الإبداع والابتكار. فقرار حرب1967 هو قرار أهل الثقة وقرار حرب أكتوبر1973 هو قرار أهل الخبرة. وتملك مصر الكثير من القدرات التي تمكنها من استيعاب الجديد في الأساليب العلمية والجرأة في تطبيقه قبل غيرنا من الشعوب والإصرار علي الوصول إلي النتائج رغم محدودية الإمكانيات. وقد استطاعت مصر في فترة زمنية قصيرة أن يضرب بها المثل في التخطيط. لقد سبقت العالم النامي في إعداد أول خطة اقتصادية واجتماعية, وكانت من أوائل الدول في اتخاذ التخطيط أسلوبا للتنمية. واعترف خبراء الأممالمتحدة في ذلك الوقت بأن مصر شهدت حتي منتصف الخمسينيات صرحا إحصائيا جمع بين الدقة والتفصيل والشمول والاستمرارية ووحدة المفهوم مما جعل هذا الصرح لبنة أولي في إمكانية التخطيط. حيث إنها اتبعت أحدث الأساليب العلمية آنذاك وهو استخدام نماذج البناء الاقتصادي الرياضي والقياسي في إعداد الخطة. هذا الأسلوب كان وقتها جديدا علي العالم كله المتقدم منه والمتخلف. والميزة الثانية هي أن أفق التخطيط لم يقتصر علي خمس سنوات بل نظر المخطط إلي صورة مصر بعد عشرين سنة.