أصبح الملتحون الذين يرتدون القمصان البيضاء الطويلة بدون سراويل على الطريقة الباكستانية والهندية، والمنتقبات بالزي الأسود المنساب الذي يجر من فوق أديم الأرض كل ما استطاع أن يسحبه ويعلق بالذيل، مشهدا اعتياديا في الشوارع التونسية برغم أنه كان يبدو مستحيلا قبل عام واحد فقط، لكن غالبية التوانسة مازالوا يشعرون إزاءه بخليط من الاستغراب والاستفزاز، يزيد من مخاوفهم المتعاظمة خصوصاً في ظل الإشارات التي تؤكد أن الدولة لا تقوى على ردع الحركات الأصولية العنيفة، وأن محاولات هدم كيان الدولة ونخاعها الشوكي واللعب في الأدمغة مستمرة للانقضاض على المؤسسات وتطويع المجتمع تحت دعاوي هلامية خادعة بإضفاء طابع قدسي على ذلك السلوك بأن هؤلاء يحكمون باسم الله! لكن الأمر لم يقف عند هذه الحدود، بل تجاوزت المظهر الغريب إلى غارات شنها السلفيون على الأماكن العامة والجامعات والمؤسسات التربوية، فأصبحوا يلاحقون السيدات في الشوارع من أجل حملهن على إرتداء الحجاب، ويهجمون على المكتبات لتمزيق كتب لا يرتضونها، كما يهاجمون منتجعات سياحية لفرض الجلباب وطرد النساء والسياح وحرق ملاهٍ وبارات ومنشآت ترفيهية متنوعة موجهة في المقام الأول للسائحين، مما يهدد نحو ثلث إيرادات البلاد المتأتية من قطاع السياحة. غير أن «موقعة» كلية الآداب بمنوبة كانت قمة جبل الثلج لتلك الحركات التي تصول وتعربد وتعتدي على القانون، فقد أغارت عناصر خارجية على الجامعة وتسببت في جرح خمسة طلاب، والسبب الظاهر هو الخلاف حول ارتداء النقاب، بمعنى خلاف حول حرية الملبس، وهي حريات شخصية كانت تحظى باحترام كبير على امتداد تاريخ تونس المعاصر وفي مجتمع هو مضرب الأمثال على الانفتاح وتقبل الآخر بفضل تربية ومناخ قائم على الاعتدال والوسطية. ثم تكررت الاعتداءات في الفترة الأخيرة على حانات وتم حرق مركز شرطة في غار الدماء ومحلات لبيع الخمور في جندوبة وسيدي بوزيد. وفي مشهد استعراضي «سينمائي» تجمع عشرات الشباب السلفيين أخيرا بجوار مسجد عقبة بن نافع، أقدم أثر إسلامي في القيروان، وقاموا بتدريبات عسكرية وبرزت تسمية «أنصارالشريعة» لحركتهم خلال ذلك التجمع، وللمفارقة هي نفس التسمية التي يطلقها تنظيم القاعدة على فرعه باليمن. لكن المراقبين والباحثين في شئون الجماعات الإسلامية بتونس يقولون إن التيار السلفي له وجهان، وجه مسالم يطلق عليه السلفية العلمية أو «الإيمانية» وكثير منهم ينتمون ل «جماعة الدعوة والتبليغ» - التي تأسست في الهند والباكستان قبل 70 عاما - أو ينتمون إلى الفرق الصوفية، ووجه ثان عنيف هو السلفية الجهادية. ومختلف الممارسات العنيفة والاعتداءات والحرق وخرق القانون قام بها نشطاء من الفرع الثاني أي الذين يطلقون على أنفسهم «الجهاديون». ومن قياداتهم أبو عياض الذي يوصف بزعيم «السلفية الجهادية» والشيخ بشير بن حسن، والزعيم الروحي الشيخ الخطيب الإدريسي الذي يلعب دورا فكريا في تقويض المدرسة الفقهية الوسطية التي أرسى قواعد بنيانها شيوخ الزيتونة في القرن التاسع عشر، ورسخت المنهج التحديثي النقدي في برامج التدريس بالجامعة الإسلامية، وكان لها إشعاع كبير حتى في ربوع الجامعات الإسلامية المجاورة بالمغرب العربي. والخطيب الإدريسي ترعرع في أحضان الجماعات السلفية الخليجية، حيث كان يعمل ممرضا في جمعية إغاثة وخدمات صحية، وتشرب بأفكار وسلوكيات تلك الجماعات والتف حوله المريدون من الشباب المتحمسين لتطبيق «شرع الله» فور عودته إلى تونس ولم تفلح محاولات الأمن في إثبات اتهامه له بالتخطيط مع «شبكة إرهابية» للقيام بمواجهات مع قوات من الجيش مطلع 2007..وقد نظرت المحاكم التونسية خلال العقد الماضي مجموعة من القضايا ضد حركات سلفية اتهمت بالقيام «بنشاطات سياسية وإرهابية»، لم يزد عدد المتهمين فيها على 3 آلاف متهما مما يعكس محدودية انتشارهم ونشاطاتهم فى ذلك الوقت. ويرفض كثير من الباحثين المتخصصين في الشأن الإسلامي تسمية هؤلاء بالسلفيين، بالنظر إلى أن الحركة السلفية التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت جزءاً من حركة الإصلاح والتنوير القائمة على التغيير السلمي.. إذن من الواضح أن حركة النهضة ومن قبلها حركة الاتجاه الإسلامي لم تعد الممثل الوحيد لتيار الإسلام السياسي في تونس، كما كان يبدو خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، بل برز وتشكل التيار السلفي بأجنحته الرخوة والصلبة ويعلن عن نفسه بإصرار بأنه على يمين حزب النهضة، بل ويدخل في مزايدات ومواجهات مع قيادات النهضة ويصل الأمر إلى حد التشكيك في «إسلامية» هؤلاء لأنهم تحالفوا مع التيارات اليسارية والليبرالية لإقامة قطب ثلاثي لإدارة شئون البلاد بعد الثورة من خلال الحكومة والمجلس الوطني التأسيسي ومؤسسة الرئاسة، في وقت أهملوا أولوية إسلامية ملحة من وجهة نظرهم وهي تطبيق الشريعة على الجميع، ومن منطلق القوة والسيطرة التي حظوا بها في الانتخابات! بعد الساعات الأولى مباشرة لرحيل بن علي وانتصار الانتفاضة الشعبية غادرت مئات العناصر السلفية المرتبطة بتنظيم القاعدة السجون، وهو نفس السيناريو الذي حدث في السجون المصرية في الثامن والعشرين من يناير .. وبدأت الجماعات في لم شملها والتحلق حول قيادات شبابية في سليمان وسجنان ومنزل بورقيبة وبنزرت وجندوبة ووادي الليل وسوسة وسيدي بوزيد، بل وحتى داخل أحياء العاصمة التي تقطنها الطبقة الوسطى كحي الغزالة وأريانة، وهذا التجمع أعطاها شعوراً مغلوطاً بالقوة العنترية فأصبحت مندفعة إلى تطبيق ما تعتقد بصحته حتى لو خالفت القوانين، وهي لا تتردد في اللجوء إلى استخدام العنف لتطبيق قانونها الخاص وفرض آرائها، وليس غريبا أن يتبنى هذا التيار الجهادي العنف. فقد تورطت مجموعة تونسية منهم بتفجير المعبد اليهودي بجربة في إبريل 2002، كما قامت مجموعة أيضا بتصفية القائد الأفغاني أحمد شاه مسعود، نلاحظ أن الناطق باسم الجماعة السلفية الجهادية في تونس الآن هو سيف الله بن حسين الذي كان ضالعا في القيام بهجومات في أفغانستان وأحد العناصر التي تدربت في معسكرات أسامة بن لادن، وهو تدرب على أيدي القيادي الفلسطيني في تنظيم القاعدة أبوقتادة، وقد اعتقلته تركيا وسلمته إلى تونس وقبع في المعتقل إلى أن أطلقت سراحه الثورة التونسية، وأعاد ترتيب التنظيم من جديد على نفس الأسس العقائدية والارتباطات مع تنظيم القاعدة. ولعل ما تتطلع إليه الآن القلوب الخائفة والعقول المستنيرة الملتاعة في تونس هو كيف ستدير حركة النهضة الصراع مع تلك الجماعات السلفية ومن سيكسر عظام من .. وما إذا كانت النهضة ستقدر على احتواء تلك الأفكار الجامحة تحت جناحها أم أن الرماح المسنونة ستفجر تماسك حزب النهضة وتقطع أوصاله؟