مصطفى عبادة «الجديد»، أحدث المجلات الثقافية العربية الجادة التى تنضم إلى قافلة النهر الثقافى الباحث عن الحرية والعدل والديمقراطية، وهى التجربة الثالثة للشاعر السورى: نورى الجراح، بعد تجربتيه اللتين صدرتا بعد اندلاع أحداث سوريا، أو ما يسميه بعض السوريين «ثورة» والتجربتان الأوليان هما: «الرابطة» التى أسسها المهندس وليد زغبى، وصدرت تزامنا مع عقد مؤتمر للمثقفين السوريين فى القاهرة، وتضامنا مع مثقفات سوريات اعتصمن أمام مقر الجامعة العربية وأضربن عن الطعام، اعتراضا على ما يجرى فى الأرض السورية، وكنت قد قرأت الرابطة حينها ورأيت فيها عملا ثقافيا باهرا، لو لم يكن للثورة السورية من إنجاز سواها لكفاها، وقلت حينها نصا: «هذا عمل محرج، محرج لأنه جميل، ومحرج لأنه حقيقى، وحقيقى لأنه غير تجارى، تقف وراءه فكرة، والفكرة تخدم هدفا واضحا ومحددا، وقلت إن المثقفين المصريين عجزوا عن إنجاز عمل مشابه برغم أن ثورتهم الأسبق. و «دمشق» ثانى تجارب نورى الجراح، وكات امتدادا «للرابطة» التى لم يصدر عنها سوى العدد صفر، بينما «دمشق» صدر منها عددان مهمان، وهما أنضج هذه التجارب من وجهة نظرى مادة وشكلا وإنجازا، وأخيرا: «الجديد» التى انفتحت على آفاق أوسع وأرحب فى الرؤية، وفيها بعض المراجعات الفكرية وفحص القناعات، بعد ما جرى من تعثر لما يسمى الربيع العربى خصوصا فى سوريا وليبيا و اليمن، وبعدما جرى من نجاح فى تونس ومصر، مع اختلاف درجات النجاح، مع الوضع فى الاعتبار درجة أهمية البلدين إستراتيجيا ضمن خريطة الوطن العربى. فى التجربة الأولى: «الرابطة» كان نورى الجراح مشغولا بالتفاصيل والشهادات والتوثيق، وتقدم فى «دمشق» خطوة نحو الفحص وتلمس عثرات الثورة السورية وعدم وضوح الرؤية، فى «الجديد» اتسعت الرؤية لفحص الربيع العربى كله ومآلاته وانكساراته، ونجاحاته المحدودة، مع فكرة مركزية، يبدو أنها هاجس رئيسى لدى نورى الجراح، هى دور المثقفين فيما جرى، وفيما سيجرى، كما أن رؤية نورى نفسه مالت نحو الهدوء، بعد تداخل عناصر متضادة فى سياقات الربيع العربى، وتضخم دور اللاعبين الدوليين، حيث كما يقول نورى نفسه فى مقدمة العدد الثانى من الجديد : ليس ذنب العربى ما كان من أمسه، اختباره الحقيقى ما هو كائن وما سوف يكون فى غده» أو: يواجه العرب اليوم بشرا وثقافة واجتماعا وعمرانا، المنعطف الوجودى الأخطر فى تاريخهم الحديث، العرب، أهل اللسان العربى ومعهم أعراق قاسمتهم الثقافة والتاريخ والأرض والمصير، اقتسمت معهم الحضارة والصيت الحضارى، ها هم جميعا يقفون على أطلال مدنهم المحترقة بنار الاستبداد، ثلاث عواصم للوجود العربى فى التاريخ: دمشق وبغداد و صنعاء تحترق، وتقع تحت نير الاحتلال الأجنبى، والنار تمتد لتلتهم أخوات أخريات، فماذا يريد العرب من أنفسهم؟ وكيف يريدون أن يكونوا غدا؟ وهم بين أمم فى الإقليم كشرت عن أنيابها، وأخرى مجلوبة استوطنته قسرا وأنيابها مغروسة فى لحمهم؟ تلك رؤية نورى الجراح فى العدد الثانى من الجديد، وفيها يضع يده بعد تراجع الحماسة الثورية، على مصير العرب بعد ثورات الربيع الدامى، ووصف الدامى وضعه نورى نفسه عنوانا للملف الرئيسى لهذا العدد، مع عنوان فرعى: المثقفون الانتفاضات العربية. عندما تقرأ كلمة «المثقفون» فى أى سياق يخص ثورات الربيع العربى ستجد نفسك مضطرا لتلقى خطاب فوقى، الربيع يخص الناس، لكنهم غائبون عن التمثيل، غائبون عن معرفة رؤاهم فيما فعلوا، الناس هم من ثاروا على الاستبداد، وليس المثقفين، الناس ثاروا على المثقفين أنفسهم الذين كانوا جزءا من سلطة الاستبداد، حتى موضوع «ثقافة الناس» للسورى المقيم فى دهوك - العراق إبراهيم محمود، لم يلمس ثقافة الناس فيما هم عليه، و إنما فى ارتباطها بفكرة الزعيم الذى يمارس الهيمنة والمهابة، وفيه حمل شديد على المثقفين أنفسهم: «هنا ماذا يمكن للمثقف أن يعمل؟ أن يمارس تأثيرا، إنه من حيث الانتماء واحد من كل «مجتمعى»، وإذا كان له نبرة خاصة فهى تتمثل فى أنه يستطيع الظهور أكثر عبر وسائل إعلامية أو فى أوساط الناس، لكن ماذا يمكنه فعله، والخيط مشدود إلى السلطوى، ويصل إبراهيم محمود إلى خلاصة مهمة مفادها: إننا بحاجة إلى أكثر من ثورة معا للتحول إلى الأفضل حتى بالنسبة للناس الذين نعنيهم ومن يسوسهم، وتكون الثورة بمفهومها التربوى والفكرى والنقدى بداية، ونظرا لخطورة الوضع، يكون من الاستحالة بمكان تحديد هذه الثورة بداية، جراء المفهوم البلوكى «الكتلى» للوضع، فتكون ثور ات ثقافية وسياسية وشعبية معا، على الأقل بالنسبة للمثقف والباحث فيما هو سوسيولوجى، وما يحرك المشاعر والأفكار، ويبقى فى الظل المعتم ترجمة مخاوف تكون بمثابة العامل المسيطر». هذه الرؤية الكلية التى تخلص إلى أهمية ثورة الوعى أولا، يتفق معها الكاتب الجزائرى إبراهيم سعدى فى مقالة بعنوان: «لماذا لم يزهر الربيع» حين يقول: هكذا يبدو فى الأخير أن مشكلة العالم العربى، فى ظاهرها على الأقل، هى مشكلة الحكم: كيف يكون؟ كيف يكون الوصول إليه؟ كيف يمكن أن تجد فيه مكانها وتندمج فى نظامه كل مكوناته الثقافية والعرقية؟ أسئلة وجدت لها جوابا وحلا فى مختلف بقاع العالم اليوم، إلا فى العالم العربى لماذا؟ ذلك هو السؤال الكبير. الربيع العربى فى الحقيقة محاولة لإيجاد حل لهذه المشكلة، أعنى مشكلة الحكم فى البلاد العربية، وبالطبع يمكن إجراء أكثر من قراءة، أخرى لإخفاق هذه المحاولة، فى المرحلة الراهنة على الأقل، منها تلك التى يمكن أن نعتمد فيها على رؤية المفكر محمد أركون التى ترى أن التغيير السياسى باتجاه التخلص من الاستبداد والتخلف، يجب أن يتقدمه ثورة فى الوعى تقوم على إعادة قراءة تاريخ المجتمعات العربية وتراثها، الدينى منه بالأساس، على اعتبار أن أساس مشكلات حاضر هذه المجتمعات تضرب جذورها فى استمرار وعى لا يزال غير متحرر من إكراهات الماضى البعيد المعاد إنتاجه جيلا بعد جيل ولا يزال إلى اليوم..المدهش فى مقال إبراهيم سعدى، الذى يريد التخلص من إكراهات الماضى، ويريد ثورة فى الوعى الدينى، المدهش أنه بنى على رؤية دينية فى الأساس، ترى فى الإخوان المسلمين قوة ديمقراطية، ويقارن إزاحتهم بإزاحة فوز الإسلاميين خوفا على الديمقراطية، وقد فازوا فى الانتخابات فى الجزائر فى التسعينيات، ولا يرى فى ثورة مصر إلا فشلها الذى كان سببه الكنيسة والأزهر والجيش، التى تشكل مجتمعة ثورة مضادة، حين يقارن بين مآلات الثورة فى مصر، وفى تونس، مع إقراره، وكأن بشكل حتمى بأن الثورة المضادة، هى جزء أصيل من أى ثورة استنادا إلى قراءة تاريخ الثورات، المدهش حد الحيرة أيضا أن إبراهيم سعدى يرى فى تونس تجانسا دينيا غير موجود فى مصر، فتونس كانت تتميز بتجانس دينى على عكس ما هى الحال فى مصر، حيث لعبت الكنيسة دورا لا يستهان به لصالح الأطراف المناهضة لحكم الإسلاميين، شأنها فى ذلك شأن مؤسسة الأزهر، التى لم يكن لها بدورها معادل فى تونس، حيث كان النظام اليورقيبى العلمانى أو شبه العلمانى قد قضى على كل دور لجامع الزيتونة كمؤسسة دينية مرجعية مؤثرة، مثلما أن ذات لإرث اليورقيبى قد خلف جيشا نشأ على تقاليد عدم التدخل فى الشأن السياسى، يعنى على تقاليد جيش جمهورى، على عكس ما هو الأمر فى مصر، حيث تمثل المؤسسة العسكرية دولة داخل الدولة». هل صحيح يا إبراهيم أن الجيش التونسى لم يتدخل فى الثورة التونسية؟ ألم يقف بجانب الناس، حين نزل وزير دفاع تونس إلى الشارع وسط الجماهير فى رسالة واضحة إلى التخلى عن بن على؟ الأمر الذى دفع بن على إلى الهروب، وماذا لو ضرب الجيش المتظاهرين فى تونس ومصر؟ أليس صمته والتزامه الحياد يعد تخليا عن الرئيس؟ وإذا كنت ترى أن حكم الإسلاميين فى مصر ديمقراطى؟ فلماذا أزاحو كل خصومهم من السياسة؟ ألا يتناقض ذلك مع قولك إنهم كانوا شركاء ظرفيين فى الحراك ضد حسنى مبارك؟ على أى حال الثورة التى تريدها فى الوعى الدينى هى بالأساس ضد الإسلاميين، سواء فى مصر أم فى الجزائر أم أى بلد عربى آخر. على العموم لاتزال رؤى المثقفين حول ثورات الربيع العربى، فوقية نخبوية، وهم فى الأساس جزء من سلطات الاستبداد التى ثارت عليها الجماهير، وهنا يأتى ملف العدد الثانى من مجلة الجديد، مارس 2015 بعنوان «ثقافة النخبة وثقافة الناس» الذى كتب فيه: إبراهيم الجبين عن سؤال النخبة: هل سيحكمنا الرعاع؟ وخزعل الماجدى عن ثقافة الأقلية، وثقافة الناس، وخطار أبو دياب عن النخب العربية وضياع فرصة الربيع، ويحيى العريضى عن نخبة الضياع، وخالد قطب عن النخب الثقافية و الديمقراطية الغائبة، وكل واحد من هؤلاء، فيما يعد أقوى المساهمات العربية فى فحص الفجوة بين ثقافة الناس وثقافة المثقفين، وضع يده على سبب جوهرى فى هذه الفجوة، فالسبب فى رأى إبراهيم الجبين: أن النخبة ترى من خلال الجدار الزجاجى شارعا غارقا فى الجهل والظواهر المرضية المتأصلة، وتفقد بدورها الأمل فى من يمكن أن يكون حاضنا لأفكارها ومشاريعها، ويتساءلون: أيحكمنا الرعاع؟ تقول النخبة، أيحكمنا هؤلاء المتهتكون أو المتطرفون أو المستبدون أو الفاسدون؟ يقول الشارع: لكنه صراع بدأ ولن يتوقف حتى ينتج كل من المتطاحنين مشروعة بالحتمية العلمية، فيما يرى خزعل الماجدى: أن رجال الدين و الفقهاء والدعاة وأصحاب الرساميل الدينية، يدركون أن الدين ثقافة شعبية جاهزة يمكن التحكم فيها، وفى أهلها، لذلك لعبت هذه النخب الدينية دورا خطيرا فى تدمير الثقافة الشعبية وتشويهها. بينما وقف خطار أبو دياب أمام إشكالية أنه غالبا ما يكرر التاريخ نفسه، وما قيل قبل أكثر من قرنين من الزمن عن الثورة التى تأكل أبناءها ينطبق على عدة أوضاع عربية، ويحيى العريفى يرى أنه مهما ارتقت عصارة أفكار النخبة، ومهما سمت فى تألقها وجوهرها، إلا أن أى منتج فكرى أو ثقافى يبقى قاصرا عن التضحية بالنفس، أو بالغالى فى وجه الطغيان و الاستبداد، وأخيرا يقول خالد قطب عن ثقافة النخبة: إن استئثار مجتمع النخبة باتخاذ القرارات نيابة عن الجماهير يجعلهم ينحرفون بعيدا عن هذه الاحتياجات، لهذا كان من الضرورى نبذ النخبوية المسيطرة على موسساتنا ومجتمعاتنا الثقافية والعلمية. لكننى أريد قبل أن أختم عرض الملفين الخاصين بالمثقفين والانتفاضات العربية، وثقافة الناس وثقافة النخبة، أن أشير إلى مقال إبراهيم الجبين فى العدد الأول بعنوان: ماذا لو كان مثقفو الاستبداد على حق، وفيه يرصد الانقسام الذى جرى بفعل الحراك العربى والاستقطاب، حيث انقسم الإعلام والجيوش ووجهات النظر، فانقسمت الثقافة، ونشأت ضفتان بينهما نهر من الدماء يجرى كل يوم جارفا فى تياره الكثيرين، كما أن الصراع الذى اندلع من تونس بحادثة البوعزيزى، وامتد ليشمل مناطق سكانية تعيش فيها مئات الملايين لم يتح حتى هذه اللحظة حوارا جادا قائما على مساجلة قيمية، بين مثقفى الثورات ومثقفى الاستبداد وقضايا أخرى عديدة يثيرها هذا المقال المهم مثل: ظهور التطرف الذى أبهج مثقفى الاستبداد، فتحت الحرب على الإرهاب يشعر المثقف بأهمية بالنسبة للسلطة، وهل يملك الاستبداد حاملا ثقافيا، والسؤال الأخطر ماذا فى حال لو انتصر الاستبداد، حيث ستبدأ المشكلة الثقافية فى الظهور، فكيف سيتم الدفاع، من قبل المثقفين طبعا، عن تلك القيم التى يجسدها الاستبداد، وما التعبير الفنى والأدبى عن موقف المستبد ومن اصطف معه، وكيف سيكون شكل القصائد التى ستكتب حينها، ذلك فضلا عن استبداد المثقف بشكله التقليدى، بمثقف الفضائيات وينتهى المقال إلى خلاصة مهمة، أنه ليس صحيحا أن معظم مثقفى الاستبداد ينتمى إلى فكر طائفى أو مذهبى ضيق، وليس صحيحا أن معظم هؤلاء غرقوا فى رشاوى الأنظمة حتى شبعوا، فكثير منهم فقراء وبسطاء ومهمشون. وبعيدا عن الملفين الرئيسيين، حفل العددان بالعديد من الموضوعات المهمة ذات الطبيعة الأدبية، فضلا عن الحوارات والقصائد والقصص والفن التشكيلى الذى يؤشر بامتياز إلى أن نورى الجراح، صانع مجلات ماهر وذكى، لو تخلص من أغلب الأسماء المكررة ومن بعض أصدقائه.