رشا عامر كان متحف نينوى بالموصل شمال العراق، هو مسرح الأحداث الدامية هذه المرة.. وذلك عندما انتابت كالعادة حالة الهياج العصبى أعضاء تنظيم داعش، ليمسكوا هذه المرة بالمطارق الضخمة وينهالوا على العديد من المنحوتات والتماثيل محطمين إياها، تماما كما فعلوا مع أعدائهم عندما انهالوا عليهم ذبحا بالسيوف سافكين دماءهم كما فعل التتار وكأنها تكمل مهمة تدمير تراث العراق التى بدأها الاحتلال الأمريكي. المسألة ليست مجرد كتب وتماثيل وأدوات ومنحوتات المشكلة أن الجهادية المزعومة التى تمارسها داعش تمارس في الواقع كراهيتها لكل ما هو مخالف حتى لو كان مجرد فن، فمثلما ذبحوا البشر ذبحوا أيضا الفن والثقافة بكل ما أوتوا من جهل وغيظ وكراهية، لقد دمروا المعالم الحضارية بأبشع الطرق والوسائل إلى أن أصبحت ذرات رمل تذروها الرياح لا قيمة لها ولا تصلح حتى لإعادة بنائها. فما من مكان يسيطر عليه تنظيم "داعش" الإرهابي إلا ونجد الخراب ملازما لهم وكان آخر هذا الخراب قيامهم بتدمير آثار وتماثيل ومقتنيات متحف الموصل. هذه المقتنيات التى تؤرخ للحقبة الآشورية العريقة الممتدة منذ آلاف السنين. ظهرت "داعش" بوجه قبيح آخر يهدف إلى تدمير الهوية العراقية وحضارتها. لتشكل هذه الجماعة خطرا كبيرا ليس على الدولة وشعبها فقط، وإنما على تاريخها وثقافتها التي تمتد إلى حضارات تتوارث من جيل إلى جيل. يبدو الأمر جليا عندما وقف رجل ملتح بآلة ثقب الصخور ليقضى تماما على بقايا تمثال دمر بالفعل. وسط ترحيب وتهليل من الباقين بعد تفجير جميع الأعمال الفنية التى وجدت قبل الإسلام في متحف نينوى بمدينة الموصل أكبر مدينة في شمال العراق والتى تحتلها داعش منذ ربيع 2014. دمر الإرهابيون الآثار وأحرقوا آلاف الكتب والمخطوطات. ومن بين الأشياء التى شملها التدمير تمثال نادر لثور آشورى مجنح يعود تاريخه للقرن السابع قبل الميلاد - ولعل تدميره يكشف مدى الدمار الذي حل بالمتحف. أما الكارثة الحقيقية فهى تصريح أحد أعضاء داعش بأن هذه التماثيل كانت بمثابة رموز وآلهة يتم عبادتها بدلا من الله سبحانه وتعالى! تظهر أشرطة الفيديو أن داعش تتعامل مع الثقافة والحضارة والعلم، باعتبارهم أشرس أعدائها، المشكلة أنهم يسيطرون على ما يقارب من 1800 إلى 12 ألف موقع أثرى عراقى. البروفيسور جون بيار فيليو الأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس يفسر المسألة على أنها نوع من أنواع الهيمنة برغم تأكيدهم أنها محاربة للوثنية برغم كذب ذلك. فالحقيقة أنهم قد قاموا بتنظيم عمليات للاتجار في هذه الآثار على نطاق واسع في وادى الفرات، ربما قد لا يكون بشكل مباشر ولكنه يحدث أيضا من الباطن. وقد كان لنشر أشرطة فيديو تدمير المتحف في الموصل مجرد وسيلة لرفع الأسعار. وأخيرا فإن هذه العملية ما إلا عملية دعائية تهدف إلى توصيل رسالة أن الغرب لا يقلق إلا على رهائنه والأعمال الفنية. فقبل التماثيل والكتب ذكرت مجلة جيوبوليس، أن حريقا كبيرا دمر مئات المخطوطات والأعمال والصحف القديمة بالمكتبة المركزية في الموصل ووفقا للسكان، فإن أعضاء داعش أخذوا معهم أكثر من ألفى كتاب لتدميرها. لا ننسى أيضا ما حدث في يونيو 2014 عندما استولت داعش على الموصل، حيث كانت المكتبات هى الضحية الأكبر، إذ تم تدمير العديد من المخطوطات النادرة والفريدة كما قام المهربون بنقل جزء كبير منها إلى تركيا. وكان من بين الخسائر المعلنة نسخة من القرآن الكريم تعود إلى زمن الخلافة العباسية أى في الفترة مابين 750 و 1250 م. لم يكن الهجوم على متحف الموصل الأول من نوعه في المدينة، ففى شهر يوليو فجر أعضاء داعش بالديناميت قبر النبى "يونس" قبل يوم من تفجير "مقام " النبى "شيث"، وشيث هو نبي من أنبياء ديانة الصابئة ويسمى ب"شيتل"، وأيضا هو شخصية توراتية ورد ذكرها في سفر التكوين وهو الابن الثالث لآدم وحواء. ويُعد مرقدا النبيين شيت ويونس من أقدم الآثار التاريخية في الموصل قبل أن ينسفهما تنظيم الدولة الإسلامية بحجة أنهما أصبحا "مكاناً للمرتدين وليس للعبادة". وتمثل التماثيل والأضرحة بالنسبة لتنظيم داعش نوعا من أنواع الوثنية يجب هدمها وتدميرها، أما فيما يخص قبر النبى يونس فهم هنا لا يدمرون يونس كنبى لأنه مذكور في القرآن، ولكنهم يدمرونه باسم التعصب الذي يرفض أى تمثيل للأنبياء أو أي نوع من أنواع الفن الدينى. وكما دمرت طالبان عام 2001 أكبر تمثالين لبوذا يعود تاريخهما إلى القرن الخامس، وكما دمر الجهاديون أضرحة تمبكتو في مالى فإن داعش دمرت قبر النبى يونس. وذلك كجزء من إستراتيجية دعائية لهذه الجماعة الإرهابية بهدف إظهار قدرتها الكلية على مواجهة الغرب. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو "من الذي عليه الدور؟" فبعد تحطيم المتحف هدد أعضاء داعش بأن تكون مدينة نمرود "الجوهرة الأثرية" في العراق والتى تقع على بعد مائة كم جنوبا ستكون هدفهم المقبل، ويقول عبد الأمير الحمدانى عالم الآثار العراقى في جامعة ستونى بروك في نيويورك إن مدينة نمرود هى واحدة من أكبر العواصم الآشورية، حيث يوجد بها نقوش نادرة للثيران المجنحة، وبالتالى فإن تدميرها يعنى كارثة حقيقية. المشكلة كما يقول إحسان فتحى المتخصص في التراث العراقى والمقيم في الأردن، إن هذه الجماعات الإرهابية قادرة للأسف على أى شىء فهم يدمرون ويفجرون كل المعابد، هم قادرون على وصف أي معبد بأنه معبد وثنى، وبالتالى هدمه وتدميره حتى لو كان يقع ضمن مواقع التراث العالمى في منظمة اليونسكو. هذا اليونسكو الذي وقف مكتوف الأيدى بلا حول ولا قوة أمام تدمير تمثالى بوذا باميان اللذين بنيا بين القرنين الثالث والخامس بشمال شرق كابول بأفغانستان، واللذين كانا ضحايا التعصب المتشدد عندما فتح عليهم مقاتلو طالبان نيران المدفعية بأوامر من الملا عمر بوصفهما أصناما تدعو إلى الوثنية وظلت محاولات التدمير مستمرة لمدة 25 يوما على يد المئات من أعضاء طالبان الذين جاءوا من جميع أنحاء البلاد إلى أن تم تدميرهما بالصواريخ والديناميت، بينما وقف العالم يشاهد ما يحدث وهو مكتوف الأيدى كالعادة. وبالتالى فماذا يفعل اليونسكو بل ماذا فعل عندما اعتدت داعش على الثقافة في بداية فبراير الماضي متمثلة فى المكتبة الكبرى بالعراق لتدمر أكثر من 2000 مخطوط سواء بالحرق أم التدمير لأعمال تعود إلى أكثر من 7 آلاف سنة. إنها أكبر نار عرفها التاريخ، لقد استحوذت داعش على المكتبة المركزية للتخلص من كل ما تحويه من كتب وأشعار وفلسفة وصحة ورياضة وعلوم، فضلا عن الصحف القديمة والخرائط العثمانية وبعض الهدايا الخاصة المقدمة من الأسر القديمة في الموصل. الكتب الوحيدة التى احتفظوا بها هى التى تخص الإسلام، أما باقى الكتب مثل تلك الموجودة في أرشيف الكنيسة اللاتينية ومحفوظات مكتبة السنية ودير الدومينيكاند تم التخلص منها، إلا أن هذا الأخير كان بدأ ترقيم مخطوطاته منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. لم يجد أعضاء داعش ما يبررون به فعلتهم الشنعاء، فإن هذه الكتب تدعو إلى معصية الله وعليه فإنه يجب أن تحرق، خصوصا كتاب الأغاني للأصفهاني هذا الشاعر المحاط بالنساء والذى رأت فيه داعش كارثة حقيقية على الإسلام. ويبدو أن مكتبات الموصل ومتاحفها تسبب أرقاً دائماً للغزاة، فمتحف الموصل هذا الذي يعد من أقدم المتاحف وأهمها في العالم والذي يحتوى على كمية كبيرة من القطع الأثرية النفيسة تعود للحضارات الأشورية والهلنستية والأكادية تم نهبه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. مما يدل على أن الهدف هو محو التراث الثقافي والحضاري في العالم العربي، فالولايات المتحدةالأمريكية مرحبة بما يحدث وتريد المزيد من اشتعال الطائفية حتى تصل العراق إلى دولة مهمشة مكسورة عسكريا ودوليا والأهم ثقافيا.