الأهرام العربى لا تدرى هدى منذ متى يرن الموبايل. نفضت عنها بطانية وردية خفيفة مطرزة بنقوش ورق شجر واستعاذت من الشيطان الرجيم، كان صوت خالها على نجيب يصلها متقطعًا، ليست متأكدة أنها استيقظت تمامًا برغم أن ضوء الشمس كان يخترق زجاج الشباك والستارة الشفافة. توقعت أن تنام حتى الظهر طالما أن اليوم إجازة رسمية. «ألو؟» «الحقينى يا هدى» «خالو..... آلو.....؟» هرولت حافية إلى الحمام، الذى تتركه مضاء، لأن ليلى بنتها تخشى العتمة، غسلت وجهها ولم تضع أى ماكياج ثم انزلقت بجسمها فى «تريننج» بنفسجى قاتم ولفت حول رقبتها منديلًا مشجرًا. حملت ليلى على كتفها وهى بين اليقظة والنوم وهبطت الدرج سريعًا. استقلت تاكسيا أبيض لاح لها، كان مكتوبًا عليه: «حلاوتك يا كيداهم» (من المؤكد أن هدى لم تر تلك الكلمة الخالدة التى تطوف مع التاكسى فى كل شوارع القاهرة). انطلق بها التاكسى فى شارع جانبى كثير المطبات والحفر، وكانت ليلى مازالت شبه نائمة ترخى رأسها تحت كتف أمها التى تجلس شبه منهارة، لا تعرف هدى ماذا ارتدت ولا كيف أوقفت التاكسي. هى عادة تستخدم للموبايل نغمات رقيقة مثل كونشرتو البيانو لرحمانينوف. لا تريد أن تسبب للكون المزيد من الضوضاء برنة موبايلها، حتى لو حدث أنها هى نفسها لم تنتبه للنغمة. كأن الدقائق التى مرت عليها منذ اتصال خالها سقطت من ذاكرتها. هل أخبرت السائق بالذهاب إلى خلف قاعة سيد درويش أم لا؟ من باب الاحتياط أعادت عليه الجملة التى تظن أنها قالتها: «من فضلك يا أُسطى..عند قاعة سيد درويش». «من عيني» لحسن حظها كان السائق من ذلك النوع الذى يحتفظ بمفردات مهذبة تريح الزبائن ويتفهم بسرعة أن هناك كارثة ما، دون أن يدفعه الفضول لمعرفة تفاصيلها. اكتفى بمراقبتها من المرآة أعلى رأسه، وهى تعاود الاتصال: «رد علىّ يا خالى!». لا أحد يجيب على الطرف الآخر. همست فى سرها «استر يا رب»! هل ارتفع ضغطه فجأة، أكثر من مرة نبهته إلى عدم التساهل وتناول «الديوفان» فى ميعاده؟ فى عيد ميلاده الأخير، فى مارس الماضى أهدته مبسمًا فاخرًا، صناعة يدوية، من العاج والصدف، لكنه احتفظ به ولم يستعمله. قال لها إن استعماله يجرح شعوره كونه يساريًا قديمًا. يخشى أن يُفسد يساريته بسبب مبسم سيجارة! قبل أن يتجه التاكسى إلى شارع حسن محمد رن الهاتف فى قبضة يدها، فتحته لا شعوريًا ظنًا منها أنه خالها، ولم يخطر فى بالها أن يكون «عبد الرحمن» زوجها.. منذ أسبوع لم يتذكرها بكلمة، والآن فجأة يتصل بها! فى جمل مقتضبة أخبرها أنه فى قسم شرطة إمبابة وتجنب سرد الحكاية بالتفصيل. طلب منها أن تذهب لأبيه وتأخذه إلى البنك كى يسحب عشرين ألف جنيه ثم تأتى إليه فى القسم بالمبلغ! استمعت إلى رتابة صوته وكلماته التائهة عن بعضها، وهى أقرب إلى الذهول، لم تسأله: قسم الشرطة؟ عشرين ألف جنيه؟ لم تشعر بذلك الرعب الذى كان يمكن أن يصيبها إذا قال لها نفس الكلام، فى وقت آخر. أعاد الجملة كأنه يستدر عطفها: «أنا فى قسم الشرطة يا هدى!». صمتت كى لا تعطيه الانفعال الذى يتوقعه. حتى وهو يطلب منها إنقاذه من الورطة لا ينتبه أن اليوم إجازة بسبب انتخابات الرئاسة! طلبت من سائق التاكسى أن يركن على جنب. أحست بالحاجة إلى السكون. وأن تتنهد بعمق وحدها. خالها فى أزمة.. وربما... بعيد الشر عنه.. و... الرجل.. الرجل الذى يفترض أنه زوجها.. فى قسم الشرطة.. مشكلته الوحيدة الآن أن يحصل على عشرين ألف جنيه.. بعد أن يخرج من الورطة سيحدثها أنه مولود من جديد.. إنسان آخر.. ثم بعد 48 ساعة فقط يتقوض الحب وتنهار الحياة الجديدة ويجد نفسه متورطًا فى مشكلة أخرى تدفعه للانفجار فى وجهها بأنها هى التى دمرت حياته! عبر المرآة، رآها السائق تبكى بنشيج مكتوم. هرش شاربه بسبابته ثم غادر التاكسى ولم يقطع عليها رغبتها فى البكاء. على بعد خطوتين، انشغل بتأمل أشجار قليلة هنا وهناك هى كل ما تبقى من مجد هذه المنطقة التى تحولت من بساتين وقصور إلى شقق ومحال تجارية وشوارع مزدحمة بكل شيء. أشعل سيجارة، وانتبه أنه يقف بالقرب من بائع صعيدى عجوز شبه نائم تحت جذع شجرة، ليس متأكدًا إن كانت شجرة جميز أم لا! كانت أمامه عربة خشبية محملة بثمار الدوم. "صباح الخير يا حاج" رد العجوز عليه وهو مستلقٍ كما هو: "صباح الخير يا حبيبي". عندما وقف قرب رأسه نهض العجوز وهو يظلل عينيه من أشعة شمس الصباح. أعطاه سيجارة واشترى منه دومة واحدة ثم عاد إلى التاكسي. رآها تكفكف دموعها بمنديل ورقي. ابتسم لابنتها التى استيقظت للتو وأهداها ثمرة الدوم. تناولتها ليلى وابتسمت. صعد إلى مكانه وتطلع فى وجه هدى: "أطلع يا مدام؟!" هزت رأسها باقتضاب: "اطلع يا أُسطى"، قالتها بطريقتها المنغمة، ثم ضمت رأس ابنتها إلى حضنها. كانت وردة تغنى فى راديو مونت كارلو: "دا مهما يقابلنا فى سكة سفرنا. كله راح يعدي" صدر صوفى هوارد مازال زيزو مسترخيًا فى الفراش. كان يفكر فى مصير مهلبية، وأيضًا مصير الكوتشى الذى نسيه بجوار سريرها. عاش مغامرات كثيرة لكن لأول مرة فى حياته يعود حافى القدمين إلى شقته. لحسن حظه كان الوقت مبكرًا، والتاكسى أوصله حتى مدخل العمارة حتى لا يراه أحد وهو يسير فى الشارع بلا حذاء. كان سائق التاكسى يضع على الزجاج الأمامى ملصقًا "لو بتحبنى ليه سيبتني" بطريقة تجبر كل من يركب معه أن يقرأه. أحس زيزو بالراحة لصوت الطبلاوى يتلو سورة "يوسف". كان يراجع كل ما دار حتى اللحظة التى كبس فيها رشدى، وكاد أن يخلع الباب. وفجأة نفض طرف البطانية عن قدميه عندما تذكر موعده مع "صوفى هوارد" الساعة التاسعة فى مقهى "سكر زيادة".. المغامرة لا تداويها إلا مغامرة أشد منها. والمسافة لا تستغرق أكثر من عشر دقائق على قدميه. لم يكن قد خلع التى شيرت النبيذى والبنطلون الجينز، لكنه تشاءم منهما، فبدلهما إلى تى شيرت أخضر وبنطلون رمادى باهت. ثم هبط سريعًا وهو يحكم إغلاق البنطلون على السلم، وانطلق فى اتجاه مقهى "سكر زيادة". جلس فى ركنه المعتاد الذى يسمح له بالخصوصية وتدخين الشيشة وأيضًا لا يحرمه من متعة النظر إلى الفتيات والنساء العابرات. كانت شاشة اللاب توب مفتوحة أمامه. واصل سحب الوول إلى أسفل. زيزو ليس فى أفضل حالاته. لا يعى بدقة ما الذى يكتبه هؤلاء فور أن يستيقظوا من نومهم؟ دائمًا يعملون من الحبة قبة، فلو مات ممثل عجوز تجاوزته الدنيا، قامت قيامة زبائن الفيسبوك وفتحوا صفحات عزاء.. ولو نكتة فرقعت يعيد الجميع تشييرها بلا رحمة.. نفس المحزنة ونفس الكلام عن انهيار الفيسبوك أمس.. هل ستشى مهلبية باسمه وتورطه مع زوجها أم لا؟ هل سيكون الكوتشى دليل إدانة ضده؟ ترك اللاب توب والقهوة على الطاولة وخرج إلى كشك السجائر الملاصق للمقهى. كانت على الجانب الأيسر للكشك صورة كبيرة لراعى البقر الشهير وهو يرتدى قبعة الكاوبوى والقميص الأحمر. كان يشعل سيجارته ويحدق فى زيزو بنظرة قاسية. للمرة الثالثة اتصل على مهلبية. لم ترد. عاد إلى جلسته وهو يهز رجليه بعصبية، طلب من "عماشة" صبى المقهى أن يُخفض صوت التليفزيون. كان هناك تقرير عن اللجان التى بدأت فى فتح أبوابها للناخبين. استغرب كيف فاته أن يفتح صفحتها، فقد تكون مهلبية كتبت شيئًا يعطيه إجابة عما حدث بعدما تركها وهرب! فى صفحتها انتبه إلى تغيير ال cover من حقل اللافاندر البنفسجى الواسع، إلى لوحة سوداء فى وسطها "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية". كلمة "البقاء لله" تتصدر الوول. حتى صورتها فى البروفايل تغيرت من تلك الفتاة الممتلئة قليلًا، إلى صورة غائمة كان رسمها بنفسه عندما زارته لأول مرة فى شقته. بحلق مذهولًا.. معقول رشدى تهور وقتلها؟ مر ببصره سريعًا على التعليقات. لا إجابة حاسمة بأنها قُتلت! حكاية غامضة وغريبة ترويها "بوديكا" عن اغتصاب مهلبية وقتلها فى أحراش كرداسة! ثم تكذيب من صديقتها "الأستاذة"! لعن زيزو أم دماغ الناس فى سره. ما الذى يحدث بالضبط؟ عشرات المعجبين كانوا يتهافتون ويتعلقون بذيل صورتها عارية الصدر. رجال لا حصر لهم لا يسعدهم فى الحياة أكثر من أن يتركوا خربشة خفيفة على جدارها. خربشة قد لا تكون أكثر من "ههههههههه"! لا أحد من كل هؤلاء يعطيه إجابة واضحة.. أين مهلبية الآن؟ خمن أن يكون زوجها قد اكتفى بضربها ثم رمى يمين الطلاق عليها وانصرف بهدوء. حتى لو كان قتلها فعلًا من الذى سيغير الصور فى صفحتها بهذه السرعة؟ انتبه إلى أن توقيت وضع صور الحداد فى صفحتها، يتزامن تقريبًا مع نفس اللحظة التى كانت مهلبية نائمة تضحك فى حضنه.. نفض رأسه لأعلى، وقرر أن ينسى الأمر كله، ومن باب الاحتياط لن يرد على أى رقم غريب قد يتصل به، إلى أن تتضح الحكاية. اتصل ب "صوفى هوارد" فأخبرته أنها الآن عند ميدان سفينكس واعتذرت عن التأخير. كانت أرسلت إليه إضافة قبل ثلاثة أشهر باسم "أرملة عين شمس"، ورآها تضع لنفسها صورة ساقين عاريتين بجوارهما يقف وادعًا كلب جريفون بفرو كثيف. كان الكلب الصغير مربوطًا بطوق جلدى فى رقبته يمتد منه حبل، تمسك به يد لا وجود لها.