محمد هلال لو سألت كل محب لصوت فيروز، سيروى لك قصصاً خاصة به هو، دون باقى الخلائق . وكأنه درويش فى محراب سحرها، تغنى له وحده، رغم زحام المحبين، وكثرة العشاق . كالصوفية فى مقام التجلى كلٌ حسب مشربه وذوقه وحاله يرى كلام محبوبه له هو وحده . فما أن يُذكر اسمها، حتى ترى حالة الوجد، وكلمات النشوى، كالذى يقول : أنا كائن فيروزى . ومن يؤكد: عشقتها مذ عرفت روحى الموسيقى والغناء . ومن يذوب هياماً وهو يقول: فيروز "الله". على اعتبار أن وصف الحال بلفظ الجلالة " الله"، هو التعبير الأكبر، والأسمى لكل جمال وجلال . وهكذا يفعل صوت فيروز المخملى، الناعم الملمس كأوراق الورد البلدى، الحاد كالسيف العربى قديماً ، الجامح مثل مهر أصيل، يمرح فى مروج العروبة، بعشاقه ومريديه ودراويشه. على اختلاف مشاربهم بل وعقائدهم، فإلى جوار العامل المشترك العام لحالة المتعة الطربية، يترنم المسيحى بشكل خاص، مع ترانيم وتراتيل عيد الميلاد، ومريم البكر. وترى المسلم، يتراقص قلبه مع، غنيت مكة أهلها الصيدا، والعيد يملؤ أضلعى عيدا .. ياقارئ القرآن صلى له، أهلى هناك وطيب البيدا . وكما يحلو للبعض تشبيه عالمية صوت فيروز وانتشاره مع الفارق النوعى أنه كالمنتج الصينى، لا يخلو منه بيت فى العالم . أذكر أن ندوة فكرية قديمة، فى بداية التسعينيات حول " الغناء هل هو حلال أم حرام "وكانت سطوة الجماعة الإسلامية والسلفية، قد فرضت تلك الثقافة على عموم الأمة آنذاك . وكان الشيخ محمد الغزالى رحمه الله أبرز محاضريها .وقال الرجل : من الغناء ما هو طيب يسمو بالروح، ولا يحرك الغرائز، وأنا شخصياً استمتع بصوت البنت اللى اسمها فيروز وابتسم وضحك الحضور وقال: يجب علينا أن ننقح تراثنا الغنائى، فمثلاً عبد الوهاب، رائع وجميل ولن يضيره أبداً اذا لم يكن فى أغانيه "الدنيا سيجارة وكاس". والحق يقال، لم أصادف مبدعاً، أو صاحب ذوق، أفلت من أسر الصوت الفيروزى. وأذكر أن علاقة ما، قد ربطتنى بهذا الصوت الأسطورى، لا أدرى كيف ولدت ومتى، وكأن حب صوتها ولد معى . لدرجة أن أمى متعها الله بالصحة وطول العمر كانت كلما رأت فيروز على شاشة التليفزيون، أو سمعتها بالراديو، بحثت عنى ذلك قبل انتشار اليوتيوب لتخبرنى بإبتسامة لا تخلو من معنى، قائلة: "قريبتك بتغنى، الحق قبل ما تخلص". وكانت تقول، مثل خلق كثير، يغيب عنهم معانى الكلمات بلهجتها الشامية: صوتها حلو قوى يابنى، بس كلام كتير مش مفهوم . وقالت وصفاً لم اسمعه من أحدغيرها: " زى ما تكون بتغنى من روحها، مش حنجرتها". وكم كانت فرحتى عارمة، عندما رأيت كتاباً مميزاً ومازال، بعنوان "جارة القمر.. فيروز ورحبانى والأغانى " للمبدع الشاعر فؤاد بدوى رحمه الله ابن بلدتى كفرالشيخ. بل وأشترك معه فى عضوية نقابة الصحفيين وعضوية اتحاد الكتاب، وكنت أعرفه جيداً فقد كان كثير الحضور لقصر الثقافة، عندما كان الشاعر الكبير محمد محمد الشهاوى متعه الله بالصحة مسئولاً عن النشاط الثقافى . ولا تتوقف روعة الكتاب على محتواه من دراسات تحكى قصة فيروز والرحبانية وإن جارة القمر، تغنى باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية. فقد كان بدوى، من الأصدقاء المقربين لهم . لكن تكمن الروعة أيضاً فى التصميم المدهش لغلاف الكتاب واللوحات الداخلية التى تزين 258 صفحة هى عدد صفحاته، بريشة المبدع الرقيق الفنان يوسف فرنسيس رحمه الله ويحوى الكتاب تاريخ العلاقة بين الإنسان الشرقى، والغناء . ومن غريب ما قرأت فيه، قوله: والغناء الشرقى عامة، الفارسى والتركى والعربى، يؤدى فى أغلبه من الأنف، والذى تتميز به فيروز، هو أنها تعطى صوتها من الحنجرة. ولكى يخرج الصوت من الحنجرة سليماً قوياً، لابد وأن ينطلق أساساً من التجويف البطنى. وقال: والذى يستمع إلى فيروز، يدرك تماماً أن صوتاً بشرياً، قادراً فى لحظة أن يضع الإنسان بين الأرض والسماء.