رئيس هيئة المحطات النووية يهدي لوزير الكهرباء هدية رمزية من العملات التذكارية    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    ارتفاع سعر الذهب اليوم بالسودان وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الخميس 9 مايو 2024    رسميًا.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 9 مايو 2024 بعد الانخفاض في البنوك    خبير اقتصادي: صندوق النقد الدولي يشجع الدعم المادي وليس العيني    مئات المستوطنين يقتحمون بلدة "كفل حارس" في الضفة الغربية | شاهد    «الرئاسة الفلسطينية»: نرفض الوجود الأمريكي في الجانب الفلسطيني من معبر رفح    ولي العهد السعودي يبحث مع الرئيس الأوكراني مستجدات الأزمة الأوكرانية الروسية والجهود الرامية لحلها    أنشيلوتي: هذا هو أفضل فريق دربته في مسيرتي    في بيان رسمي.. الزمالك يشكر وزارتي الطيران المدني والشباب والرياضة    فينيسيوس: الجماهير لا يمكنهم تحمل المزيد من تلك السيناريوهات.. ولم يكن لدينا شك بالفوز    «جريشة» يعلق على اختيارات «الكاف» لحكام نهائي الكونفدرالية    مع قرب بداية شهر ذو القعدة.. موعد عيد الأضحى ووقفة عرفات 2024    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في السعودية: تخطيط لاستمتاع بأوقات العطلة    ارتفاع ضحايا حادث «صحراوي المنيا».. مصرع شخص وإصابة 13 آخرين    العظمى بالقاهرة 36 درجة مئوية.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 9 مايو 2024    "الفجر" تنشر التقرير الطبي للطالبة "كارولين" ضحية تشويه جسدها داخل مدرسة في فيصل    سواق وعنده 4 أطفال.. شقيق أحمد ضحية حادث عصام صاصا يكشف التفاصيل    برج الأسد.. حظك اليوم الخميس 9 مايو: مارس التمارين الرياضية    من يرفضنا عايز يعيش في الظلام، يوسف زيدان يعلق على أزمة مؤسسة "تكوين" والأزهر    محمود قاسم ل«البوابة نيوز»: السرب حدث فني تاريخي تناول قضية هامة    ليس مرض مزمن.. سبب وفاة والدة كريم عبد العزيز    القضاء هيجيب حق أخويا.. شقيق ضحية حادث عصام صاصا يوجه رسالة مؤثرة    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    محافظ الإسكندرية يكرم فريق سلة الاتحاد لفوزهم بكأس مصر    هل يعود إلى الأهلي؟... مصدر يوضح موقف محمد النني الحالي مع آرسنال    أيمن يونس: واثق في لاعبي الزمالك للتتويج بالكونفدرالية.. وزيزو "قائد الأحلام"    تعرف على موعد إرسال قائمة المنتخب الأوليمبي    رئيس جامعة القناة يشهد المؤتمر السنوي للبحوث الطلابية لكلية طب «الإسماعيلية الجديدة الأهلية»    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    وكيل الخطة والموازنة بمجلس النواب: طالبنا الحكومة بعدم فرض أي ضرائب جديدة    تحالف الأحزاب المصرية يجدد دعمه لمواقف القيادة السياسة بشأن القضية الفلسطينية    وزير الخارجية العراقي: العراق حريص على حماية وتطوير العلاقات مع الدول الأخرى على أساس المصالح المشتركة    ماجد عبدالفتاح: 4 دول من أمريكا الجنوبية اعترفت خلال الأسبوع الأخير بفلسطين    أخبار الحوادث اليوم: حجز السودانية بطلة فيديو تعذيب طفل بالتجمع.. والسجن 5 سنوات لنائب رئيس جهاز القاهرة الجديدة    طالب صيدلة يدهس شابا أعلى المحور في الشيخ زايد    رئيس لجنة الثقافة: الموقف المصرى من غزة متسق تماما مع الرؤية الشعبية    حسام الخولي ل«الحياة اليوم»: نتنياهو يدافع عن مصالحه الشخصية    بالصور.. «تضامن الدقهلية» تُطلق المرحلة الثانية من مبادرة «وطن بلا إعاقة»    متحدث الوزراء: المواعيد الجديدة لتخفيف الأحمال مستمرة حتى 20 يوليو    التحالف الوطنى يقدم خدمات بأكثر من 16 مليار جنيه خلال عامين    «زووم إفريقيا» في حلقة خاصة من قلب جامبيا على قناة CBC.. اليوم    عبد المجيد عبد الله يبدأ أولى حفلاته الثلاثة في الكويت.. الليلة    مستشهدا بواقعة على صفحة الأهلي.. إبراهيم عيسى: لم نتخلص من التسلف والتخلف الفكري    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    دعاء الليلة الأولى من ذي القعدة الآن لمن أصابه كرب.. ب5 كلمات تنتهي معاناتك    سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في ختام الأسبوع الخميس 9 مايو 2024    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح أسترازينكا|فيديو    متحدث الصحة يعلق على سحب لقاحات أسترازينيكا من جميع أنحاء العالم.. فيديو    الكشف على 1209 أشخاص في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    أيهما أفضل حج الفريضة أم رعاية الأم المريضة؟.. «الإفتاء» توضح    رئيس«كفر الشيخ» يستقبل لجنة تعيين أعضاء تدريس الإيطالية بكلية الألسن    موعد وعدد أيام إجازة عيد الأضحى 2024    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    حزب العدل: مستمرون في تجميد عضويتنا بالحركة المدنية.. ولم نحضر اجتماع اليوم    «اسمع واتكلم» لشباب الجامعات يناقش «الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي»    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد مستشفى الصدر والحميات بالزقازيق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدينة الآلام بوصلة صعود وسقوط العرب.. واقدساه
نشر في الأهرام العربي يوم 29 - 10 - 2014


عرفه عبده على
إن تاريخ مدينة «القدس الشريف» شديد التعقيد، كثير التداخل، حتى ليبدو وكأنه مخطوط قديم بات من المتعذر فك رموزه!.. فموقعها الجغرافى والإستراتيجى ومكانتها الدينية، كل ذلك جعل معظم الأمم تتطلع للاستحواذ عليها، فحرمت من أن تكون من «المدن السعيدة»!
وتمثل مدينة القدس : معيار قوة العرب والمسلمين، فإذا ما أعدنا قراءة التاريخ، سنجدها آمنة زاهية فى ظل قوة العرب وازدهارهم.. ونجدها «أسيرة عاجزة» فى ظل الضعف والانهيار الحضارى، وهى قلب قضية العرب والإسلام، بكل أبعاد المواجهة الحضارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والسياسية مع عدونا التاريخى!
فالقدس.. مدينة السلام.. والتاريخ.. مدينة الاستمرارية الفريدة والسحر الخاص.. تجلت فيها حكمة الأنبياء، ولعبت دوراً مؤثراً فى سيرة الأديان السماوية الثلاثة، وشهدت جبالها ووهادها دعوة المسيح عليه السلام، وإليها كان «الإسراء» بخاتم الأنبياء معجزة الإسلام الكبرى ومنها كان معراجه إلى السماء، وقال عنها العهد القديم «أرض حنطة وشعير وتين ورمان، أرض زيتون وزيت وعسل» .. وهى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. التقت فيها حضارات العالم، ومر بها الملوك والأباطرة والخلفاء والسلاطين وجيوش الغزاة والفاتحين والمحررين.. فكان قدرها أن تكون طوال تاريخها ميداناً للحروب وساحة للصراعات الرهيبة والآلام..
فى عصر خلفاء بنى أمية، نشأت عملية تمازج بين فكر ونتاج الحضارتين البيزنطية والفارسية من جهة، والحضارة الإسلامية الوليدة من جهة أخرى.. وكان أبرز أوجه هذا التمازج الحضارى فى مجال العمارة الإسلامية، وفى فلسطين – بصفة خاصة – توارث الفن المحلى فنون الأمم التى شيدت وجوداً سياسياً وحضارياً فى أرضها.. فقد امتزج الفن المعمارى المتوارث بالخصائص التى طبع بها الإسلام عطاء الفن المسلم.
ومن منطلق امتزاج الدين بالدولة فى الإسلام، وبدراسة روائع العمارة الإسلامية فى فلسطين منذ الأيام الأولى لقيام دولة الإسلام فيها نجد أن هذه النشآت صُممت لتخدم الغرضين الدينى والسياسى معاً. وهذا ما يُلاحظ بشكل واضح فى بناء قبة الصخرة مثلاً، التى بُنيت فى مدينة القدس وانتقى موقعها الطبوغرافى فى ساحة الحرم الشريف، وشُيد بناؤها فوق الصخرة الشريفة. ولم يكن كل هذا عرضاً أو مصادفة : فالقدس موطن الديانات السماوية السابقة، وتقترن بمعجزة الإسلام فى الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهى قبلة الإسلام الأولى. ولكل من هذه الحقائق مدلولاتها السياسية والدينية معاً وإذا تُرك جانباً مخطط القبة الهندسى، ومعادلة مخطط البناء وأبوابه وبواباته، وأُلتفت إلى زخارف الفسيفساء الهندسية والأرابسك التى توحى بالصفاء الروحى، والكتابات الإسلامية التى تدفع إلى التأمل فى القدرة الإلهية دل هذا البناء على مولد فن عالمى جديد يتصل فيه ماضى هذه المهمة بحاضرها الذى لونه الإسلام بلونه المتميز.
وقد حفلت «القدس العتيقة» ومدن فلسطين عامة بعناصر معمارية إسلامية بالإضافة إلى المساجد الشهيرة، فهناك أيضاً: الأسبلة والخانات والأسواق والحمامات والمدارس والخانقاوات منذ أن اختارها الخليفة الأموى " معاوية بن أبى سفيان " سنة 641 ه موضعا ً لمبايعته خليفة للمسلمين نظرا ً لأهميتها ومكانتها الدينية والتاريخية، مرورا ً بالمنشآت الدينية والمدنية لخلفاء الدولة العباسية وعصر الدولة الفاطمية ثم عصر الدولة الأيوبية وعصر سلاطين المماليك حتى عصر الإمبراطورية العثمانية.
أبواب القدس
لمدينة القدس سبعة أبواب ما زالت مستعملة، وأربعة أبواب مغلقة والأبواب السبعة المستعملة هى:
باب "العمود" المعروف عند الأجانب "بباب دمشق" ويقع فى منتصف الحائط الشمالى لسور القدس تقريباً ويعود تاريخه إلى عهد السلطان سليمان القانونى العثمانى، ويعلو هذا الباب قوس مستدير قائم بين برجين، ويؤدى بممر متعرج إلى داخل المدينة، وقد أقيم فوق أنقاض باب يرقى إلى العهد الصليبى. ووجدت أثناء حفريات سنة 1936 وسنة 1966 بقايا بابين يعود أحدهما إلى زمن الإمبراطور "هادريانوس" الذى أسس مدينة "إيليا كابيتولينا" بين سنتى 133 و137 ميلادية على أنقاض المدينة التى دمرها الإمبراطور طيطوس، والثانى هو الذى بناه هيرودوس أغريباس فى منتصف القرن الأول الميلادى، وتظهر الكتابة فوق باب هادريانوس اسم المدينة الجديدة. والباب قوس ضخم يرتكز على دعامتين من الحجارة القديمة المنحوتة نحتاً ناعماً والمزودة بإطار أنعم نحتاً. وقد أضيف عمود داخل الباب فى أيام الإمبراطور هادريانوس نفسه. ويظهر العمود فى خريطة الفسيفساء التى عثر عليها فى الكنيسة البيزنطية فى مأدبا، وقد بقى هذا العمود حتى الفتح الإسلامى، ولذلك سمى العرب الباب باب العمود، وكان يدعى من قبل باب دمشق لأنه مخرج القوافل إليها.
باب "الساهرة" المعروف عند الغربيين باسم "باب هيرودوس"، وهو مثل سابقه يقع إلى الجانب الشمالى من سور القدس، على بعد نصف كيلو متر شرقى باب العمود. وباب الساهرة بسيط بنى ضمن برج مربع. وهو يرقى إلى عهد السلطان سليمان الثانى.
باب " ستنا مريم " ويعرف أيضا ً بباب "الأسباط" ويسميه الغربيون باب القديس إستيفان، يقع فى الحائط الشرقى، وهو يماثل باب الساهرة فى شكله، ويعود تاريخه أيضاً إلى عهد السلطان سليمان نفسه، وهذا الباب يطل على بركة «ستنا مريم» وكنيسة «الجثمانية» وقبر «العذراء» فى خارج السور، ويحيط بالباب فى الجزء العلوى منه أسدان منحوتان فى كل جانب، مما جعل البعض يطلق عليه " باب الأسد "!
باب "المغاربة" وباب "النبى داود" فى الحائط الجنوبى لسور القدس. وباب المغاربة أصغر أبواب القدس. وهو قوس قائم ضمن برج مربع. وأما باب النبى داود الذى يعرفه الأجانب باسم باب صهيون فهو باب كبير منفرج يؤدى إلى ساحة داخل السور. وقد أنشئ فى عهد السلطان سليمان عندما أعاد بناء سور المدينة.
باب «الخليل» الذى يسميه الغربيون باب «يافا» ويقع فى الحائط الغربى من سور " القدس "، ومنه طريقان واحد إلى " يافا " والآخر إلى " مدينة الخليل "، حيث " الحرم الإبراهيمى "، وهذا الباب كان على مر العصور مدخل الأجانب إلى داخل السور، وكان يحرسه جنود مسلمون، وفى أحد أيام الجمعة من عام 1854 فتح الباب بشكل استثتنائى للسماح لدوق " برابان " وقرينته اللذين تبوآ عرش " بلجيكا "، بالدخول إلى المدينة راجلين، وكانت العاده منذ أيام سحق الصليبين على يد " صلاح الدين الأيوبى " تقضى بعدم السماح لأحد بدخول القدس على ظهر حصان، منعا ً لإثارة مشاعر المسلمين، فالمعروف تاريخيا ً أن " جود فروا دى بويون "القائد الصليبى كان قد دخل المدينة فاتحاً على ظهر حصانه الأبيض !
الباب "الجديد" فتح فى الجانب الشمالى للسور على مسافة كيلو متر تقريباً غربى باب العمود. وهو حديث العهد يعود إلى أيام زيارة الإمبراطور الألمانى غليوم الثانى لمدينة القدس سنة 1898م، ويسمى أيضاً« باب عبد الحميد » وقد أغلق فى عام 1948، وقد أقامه السلطان العثمانى « عبد الحميد» بناء على طلب دير الرهبان «الفرنسيسكان» عندما أرادو إحداث باب فى السور بالقرب من الدير ومبنى «نوتردام »، وقد أعيد فتحه عقب الاحتلال الإسرائيلى للمدينة القديمة فى يوينو 1967م.
وأبرز الأبواب الأربعة المغلقة "باب الرحمة" الذى يسميه الأجانب "الباب الذهبى" لجماله ورونقه، ويقع على بعد 200م جنوبى باب الأسباط فى الحائط الشرقى للسور. ويعود هذا الباب إلى العصر الأموى، وهو باب مزدوج يعلوه قوسان ويؤدى إلى باحة مسقوفة بعقود ترتكز على أقواس قائمة فوق أعمدة كورنيشة ضخمة. وقد أغلق هذا الباب فى أيام العثمانيين بسبب خرافة سرت بين الناس آنذاك مآلها أن الفرنجة سيعودون ويحتلون مدينة القدس عن طريق هذا الباب، وهو من أجمل أبواب المدينة ويؤدى مباشرة إلى داخل الحرم، وتشير الأساطير اليهودية إلى أن العودة إلى القدس ستتم عبر «الباب الذهبى» والذى أغلقه السلطان «الناصر صلاح الدين» فى عام 1187م بمنع الصليبيين من استخدامه للعودة إلى المدينة.
والأبواب الثلاثة المغلقة الأخرى تقع فى الحائط الجنوبى من السور، قرب الزاوية الجنوبية الشرقية وتؤدى جميعها إلى داخل الحرم مباشرة، وأولها ابتداء من زاوية السور الباب الواحد ويعلوه قوس.
وثانيها "الباب المثلث" وهو مؤلف من ثلاثة أبواب يعلو كلاً منها قوس. والثالث المزدوج وهو من بابين يعلو كلاً منهما سور. وتشير الأدلة إلى أن هذه الأبواب الثلاثة أنشئت فى العهد الأموى أيام بنى الخليفة عبدالملك بن مروان قبة الصخرة.
إن ما عثر عليه من آثار أبواب قديمة تحت باب العمود يدل على أن تحت الأبواب الحالية أبواباً أخرى قديمة ترقى إلى عهود سابقة.
الحرم الشريف وشواهد مجد الإسلام
تمثل مجموعة الحرم الشريف قلب مدينة القدس، ويحيط بها سور حجرى عتيق يبلغ طوله حوالى 1600 متر ويشتمل على تسعة أبواب هى الرحمة وحطة وفيصل والغواغة والناظر والحديد والقطانين والسلسلة والمغاربة. ويتصل الحرم الشريف بباقى أجزاء المدينة بطرق تتفرع من أبواب الحرم التسعة، وتمتد بين أجزاء المدينة المحتلة ذات الوظائف المتعددة. ولم يقف اختلاف المناسب الطبرغرافية، ضمن المدينة، حائلاً أمام المخطط والمصمم، حيث تم التغلب على ذلك باستعمال أدراج حجرية عريضة ومريحة لتنقل الشخص من مستوى إلى آخر.
أما طرق المدينة المقدسة: فإنها تمتاز بأنها رفيعة ومخصصة للمارة دون السيارات، وبعضها مغطى بالعقود الحجرية الجميلة التى تعود إلى العصور الإسلامية المتوسطة، والبعض الآخر مفتوح، كما بنيت المدارس والمساكن والزوايا والسبل للسقاية على جانبى الطرق، وتحمل العقود الحجرية فوقها الأبنية الحجرية التى تطل على الطريق بشبابيكها الصغيرة.
وتصميم هذه الطرق الرفيعة، يوفر الظلال المريحة للمشاة ويخفف من درجة الحرارة ويمنع سقوط أشعة الشمس المباشرة على المارة، وخصوصاً فى أيام الصيف، وهذا ما تتميز به العمارة الإسلامية فى المدن الإسلامية التاريخية، وبإمكان الإنسان أن يقطع طرق القدس الشريف فى وقت قصير، وأن يقضى جميع احتياجاته سيراً على الأقدام دون تعب أو ملل، ويرجع ذلك إلى فلسفة تخطيط المدينة وإلى اتباع الأسس السليمة فى العمارة.
مسجد قبة الصخرة
يصف العالم الأثرى الشهير (فان برشم) قبة الصخرة بقوله: "لعل روعتها وجمالها يعودان لما فى تخطيطها وتصميمها من بساطة وتناسق.. حقاً إنها مفخرة العمارة الإسلامية.
وعنها يقول "جوستاف لوبون" إنها أعظم بناء يستوقف النظر، إن جمالها وروعتها لا يصل إليهما خيال إنسان وقد شرع فى بنائها الخليفة عبدالملك بن مروان فى سنة 68ه/688م، واكتمل سنة 72ه/691م.
ويعتبر المسجد من أجل آثار التاريخ الإنسانى، وقد رصد لبنائه خراج مصر لمدة سبع سنين، حتى شيدت القبلة التى أفرغت فيها روائع الفن والذوق العربى الإسلامى، ويقع المسجد حول الصخرة المشرفة بوسط فناء واسع مرتفع عن أرض الحرم الشريف، ويبلغ ارتفاع قبته ثلاثين متراً، وهى أبرز ملامح المدينة، وتتألف من طابقين: الطابق العلوى مكسو بصفائح من الرصاص، وعقب ضربه بالقنابل الإسرائيلية عام 1948 استبدلت بها صفائح من الألومنيوم المذهب، والبناء مثمن الشكل، وطول كل ضلع 20 متراً، وارتفاعه 10 أمتار، والطابق السفلى مصفح برقائق الرخام الأبيض الجميل، تزينها مربعات من القيشانى الفيروزى، كتبت عليها سورة "يس" باللون الأبيض، وتزدان هذه الواجهات الثمانى بنوافذ من الزجاج الملون، عددها 56 نافذة، وتحت الصخرة "مغارة الأنبياء" التى ينزل إليها بإحدى عشرة درجة، وللمسجد أربعة أبواب مزدوجة.
والبائكة المثمنة تحيط بالأسطوانة الدائرية التى تحمل القبة، وما بينهما يسمى بالمطاف الداخلى، وتتكون من أربعة وعشرين عقداً محمولة فوق ثمانى دعائم وستة عشر عموداً بواقع عمودين بين كل دعامتين، وتم ربط عقود هذه البائكة بواسطة عرقين من الخشب متجاورين، فوقهما مرماك من الطوب، ويحمل هذا المطاف سقفاً جمالونياً يميل قليلاً إلى الخارج، أما "المثمن الخارجى" فطول كل ضلع 20.6 متر وبارتفاع 9.5 متر ويحمل هذا المطاف سقفاً خشبياً يناسب ميل جمالون المطاف الأول، ويساعد هذا الميل على تصريف مياه الأمطار عن طريق ثمانية وأربعين ميزاباً، ستة فى كل ضلع، ترتفع داخل دورة فوق أضلاع المثمن الخارجى، والتى يحتوى كل ضلع منها سبعة بانوهات، يتخلل الخمسة الوسطى منها شبابيك مزدوجة تزدان من الخارج بالحديد المشغول، ويذكر بعض الرحالة أن أبواب المسجد كانت مهداة من والدة الخليفة العباسى المقتدر.
والمشهد – بصفة عامة – يلائم الطواف حول الصخرة.. وفى الضلع الجنوبى من المثمن الخارجى نجد المحراب المجوف، وأهميته حسب اعتقاد العالم الأثرى "كريزويل" أنه أول محراب مجوف فى الإسلام، علماً بأن المحراب الموجود أسفل الصخرة بالكهف عبارة عن علامة على الحائط!
المسجد من الخارج يبدو كقطعة رائعة من الجمال والفن الرفيع، الجدران الخارجية مجلدة بالرخام الأبيض الفاخر حتى منتصفها ثم تزدان بعد ذلك بالقيشانى الفاخر الملون، أما الجدران من الداخل والدعائم والأعمدة فتزدان بالرخام وزخارف الفسيفساء الملونة فى أشكال نباتية تجل عن الوصف.. حتى قال عنها البروفيسور "بريتش": تبدو وكأنها تسبح فى فضاء خال من الهواء، متحررة من قانون الجاذبية الأرضية.. ثم يتساءل إذا ما كان الفنان المسلم قد قصد بها تصوير الجنة؟
وعمارة مسجد قبة الصخرة وزخارفه: أشكالها وطرزها وفلسفتها، قد أفاضت المصادر القديمة والحديثة فى وصفها.. وقد تناولها بأشمل وأدق التفاصيل د. "كريزويل" فى مؤلفه الضخم عن العمارة الإسلامية.
المسجد الأقصى
المسجد الأقصى الذى بارك الله حوله، وإليه أسرى برسول رب العالمين – صلى الله عليه وسلم – ومنه كان معراجه إلى الحضرة الإلهية تأكيداً على أن رسالته هى الخط التوحيدى الأعظم، والأقصى هو القبلة الأولى للمسلمين وثالث الحرمين الشريفين.
ينسب معظم المؤرخين المسلمين بناء المسجد الأقصى إلى الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان. ومن هؤلاء البشارى المقدسى وشهاب الدين أحمد بن محمد المقدسى ومجير الدين الحنبلى والسيوطى. ويقولون إنه بناه سنة 72 ه/691م. وينسبه بعض المؤرخين، ومنهم ابن البطريق وابن الأثير وابن الطقطقى، إلى الوليد بن عبدالملك (حكم من 86 – 96 ه/ 705 – 714م). وتؤكد هذا الرأى مجموعات من أوراق البردى تضم مراسلات بين قرّة بن شريك عامل مصر الأموى (90 – 96ه/709 – 714م) وأحد حكام الصعيد وتتضمن ذكر نفقات العمال الذين كانوا يتولون بناء مسجد القدس. وتدل هذه الأوراق بصورة قاطعة على أن العمل فى بناء المسجد كان جارياً نحو سنة 90ه/709م. ويعنى هذا أن بانى المسجد هو الوليد بن عبدالملك، أو أنه هو الذى أتم بناءه.
ويختلف بناء المسجد الحالى عن بناء الأمويين اختلافاً كبيراً. فقد بنى المسجد بعد ذلك ورمم عدة مرات: ففى أواخر الحكم الأموى (130 ه/747م) حدث زلزال سقط يسببه شرقى المسجد وغربية. وقد جرت إعادة بناء المسجد زمن الخليفة العباسى المنصور سنة 141ه/758-759م. وفى سنة 158ه/774م وقع البناء الذى أقامه المنصور بسبب زلزال آخر، فأمر الخليفة المهدى بإعادة بنائه. وبنى المسجد هذه المرة بعناية كبيرة وأنفقت عليه أموال طائلة. وكان يتكون من رواق أوسط كبير يقوم على أعمدة رخام وتكتنفه من كل جانب سبعة أروقة موازية له وأقل منه ارتفاعاً.
وفى سنة 425ه/1033م خرب المسجد الأقصى خراباً كبيراً بسبب زلزال آخر فعمره الخليفة الفاطمى الظاهر لإعزاز دين الله وضيقه من الغرب والشرق بحذف أربعة أروقة من كل جانب. والأبواب السبعة التى فى شمال المسجد اليوم هى من صنع الظاهر. كما أن جزءاً كبيراً من بناء الأقصى الحالى – قبل التعميرات التى جرت فى هذا القرن – يرجع إلى الظاهر.
وعندما احتل الصليبيون القدس غيروا معالم المسجد فاتخذوا جانباً منه كنيسة وجانباً آخر مسكناً لفرسان الإسبتارية، وأضافوا إليه من الناحية الغربية بناء جعلوه مستودعاً لذخائرهم.
ولما حرر صلاح الدين الأيوبى القدس، أمر بإصلاح المسجد الأقصى وإعادة البناء إلى ما كان عليه قبل الاحتلال الصليبى. وجدد صلاح الدين محراب المسجد وغشّاه بالفسيفساء، وأتى بالمنبر الرائع الذى أمر نور الدين محمود بن زنكى بصنعه للمسجد الأقصى من حلب ووضعه فى المسجد.
وفى سنة 614ه/ 1217م أنشأ الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب الرواق الشمالى للمسجد، وهو يشمل سبعة أقواس تقابل أبواب المسجد السبعة.
وقد أجرى السلاطين المماليك، ثم العثمانيون، إصلاحات وتعميرات كثيرة فى المسجد الأقصى. ولكن شكله العام لم يتغير منذ عهد الأيوبيين.
ويزدان حرم المسجد الأقصى من جهة الغرب بأروقة محكمة البناء، تمتد من جهة القبلة إلى جهة الشمال. وأولها عند باب الحرم المعروف بباب المغاربة وآخرها عند باب الغوانمة، وكلها عمّرت فى سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون فى مدد مختلفة. فالرواق الممتد من باب المغاربة إلى باب السلسلة عمّر فى سنة 713ه/1313م، والرواق الممتد مما يلى منارة باب السلسلة إلى قرب باب الناظر عمّر فى سنة 734ه/1337م، والرواق الممتد من باب الناظر إلى قرب باب الغوانمة عمّر سنة 707 ه/ 1307م. وعمّر السور القبلى عند محراب داود، وهو جزء من سور المدينة الممتد من المسجد الأقصى إلى زاوية السور الجنوبية الشرقية عند مهد عيسى عليه السلام. ورُخّم صدر المسجد الأقصى، أى حائط المسجد الجنوبى، وفُتح بالمسجد المذكور الشباكان اللذان على يمين المحراب وشماله فى سنة 731ه/1331م. وجدد تذهيب قبة المسجد الأقصى وقبة الصخرة حوالى سنة 720ه/1320م.
لقد كان المسجد الأقصى أعظم الأثر فى الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية فى القدس، كما كان من أكبر المؤسسات التعليمية فى الإسلام، ومركز الاحتفالات الدينية الكبرى فى المدينة المقدسة، ومقر الحياة السياسية، فكانت تعقد فيه الاجتماعات وفيه كانت تعلن براءات تعيين كبار موظفى الدولة وبويع فيه بعض الخلفاء وكانت تتلى فيه المراسيم السلطانية!
الأقصى منارة للعلم والثقافة
وبالإضافة إلى المكانة الدينية الرفيعة للأقصى، فقد كان له أثر على مدى التاريخ الإسلامى فى الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ومركز الاحتفالات الدينية الكبرى فى القدس، ومقر الحياة السياسية، ففيه كانت تعقد الاجتماعات وتتلى المراسيم السلطانية وبراءات تعيين كبار موظفى الدولة، كما كان الأقصى: من أكبر مراكز التعليم الدينى فى تاريخ الإسلام.
فتح المسلمون بيت المقدس فى السنة السادسة عشرة من الهجرة، فى عهد أمير المؤمنين " عمر بن الخطاب " رضى الله عنه، الذى حضر بنفسه فى موكب متواضع ليتسلمها من البطريرك " صفر ونيوس " عمدة المدينة.. وقد وفد مع عمر بعض من جهابذة العلماء من الصحابة وفى مقدمتهم: أبو عبيدة عامر بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبو ذرالغفارى وسعد بن أبى وقاص وخالد بن الوليد وأبو هريرة وسلمان الفارسى وغيرهم... وقد برز من هؤلاء الصحابيان الجليلان : «عبادة بن صامت» و «شداد بن أوس» اللذان رابطا فى القدس واشتغلا بالتدريس فى مسجدها الأقصى المبارك، ولايزال قبراهما ظاهرين حتى اليوم بمقبرة «باب الرحمة» بجوار السور الشرقى للأقصى.
وقد أم المسجد الأقصى، فى القرنين الأول والثانى للهجرة، عدد من المحدثين الثقات، من بينهم " عبد الله بن فيروز الديلمى " الذى قرأ على عبادة بن الصامت وخرج له ابن داود والنسائى وابن ماجه وابن سلام الحبشى، أيضا " مالك بن دينار " الذى روى عن مالك وأخرج له أصحاب السنن، ومن أعلام الفقهاء: «أبوالفرج عبد الواحد الشيرازى» و« المقدسى الأنصارى الحنبلى».. ومن المعروف أن الإمام الشافعى المولود بغزة سنة 150 هجرياً قدم إلى بيت المقدس وجلس للإفتاء قائلاً : « سلونى عما شئتم أخبركم من كتاب الله وسنة رسوله »..
وتجدر الإشارة إلى أن وجود هذا العدد الكبير من المساجد والمدارس والزوايا والتكايا والخوانق والرباطات، يدل دلالة واضحة على أن مدينة القدس كانت من أهم مراكز الثقافة الإسلامية، فضلاً عن مكانتها الروحية، وقد اهتم مؤسسو هذه المنشآت بوقف الأراضى والعقارات لينفق ريعها على هذه الدور والمعاهد بما يضمن استمرارها، وييسر للطلبة والمتفرغين للعلم الوافدين من مختلف بقاع العالم الإسلامى، اقامتهم وأسباب معيشتهم فى المدينة المقدسة، وقد أشار " مجير الدين العليمى الحنبلى " فى كتابه: " الأنس الجليل " إلى عدد من العلماء الأجلاء الذين تولوا التدريس بالمسجد الأقصى، بالإضافة إلى كبار العلماء الذين قاموا بتدريس علوم الدين والفقه واللغة وآدابها فى سائر مدارس ومعاهد المدينة المقدسة.
وخلال القرون التالية، ظل العلماء وشيوخ الحديث وكبار الحفاظ، والطلاب والزهاد والعباد، يشدون الرحال إلى المسجد الأقصى. وفى القرن الخامس من الهجرة بوجه خاص، نشطت الحركة العلمية فى أرجاء الأقصى، وانتظمت الدروس والحلقات وشهد أجيالاً من كبار العلماء، ووهبت له خزائن الكتب واتسعت أوقافه، حتى صار مركزاً فكرياً كبيراً..
كان من أبرز هؤلاء العلماء: الإمام أبوحامد الغزالى الطوسى "حجه الإسلام " الذى اعتكف بالمسجد الأقصى سنة 488 هجرياً وقام بالتدريس فيه، وروى أنه شرع فى تأليف كتابه الأشهر "إحياء علوم الدين " و" الرسالة القدسية " فى هذا المسجد المبارك.
وعندما أعاد السلطان صلاح الدين مدينة القدس إلى ديار الإسلام سنة 583 هجرياً / 1187 م، أعاد أيضاً للمذهب الشافعى مكانته، وعين إماماً شافعياً للمسجد الأقصي، ولم يكن دور إمام الأقصى قاصراً على الإمامة، بل اشتغل أيضاً بالعلم والتدريس، وقد تولى بعض أئمة الأقصى المشيخة أو التدريس فى إحدى المدارس الشافعية، وتشعب تدريسهم، فلم يقتصر على المذهب الشافعى، وإنما درسوا أيضاً القراءات والحديث والفقه وعلوم اللغة العربية، وكان الفقه الشافعى مادة رسمية تدرس فى المسجد الأقصى، كما كان العلماء يركزون على تدريس عدد من كتب المذهب الشافعى، بالإضافة إلى الإفتاء، وكان إمام الحنابلة " زين الدين بن نجية الحنبلى " المعروف بابن نجا، المولود بدمشق سنة 508 هجرياً، وكان من أعيان العلماء، وكان صلاح الدين الأيوبى يعمل برأيه ويكاتبه ويحضر مجلسه، وقد حضر ابن نجا، فتح بيت المقدس وجلس على كرسى الوعظ عقب صلاة الجمعة الأولى بالمسجد الأقصى، وعمل أيضاً بالتدريس والفقه.
ومن مشاهير العلماء الذين قاموا بالتدريس فى الأقصى "ابن عساكر الدمشقى" شيخ الشافعية بالشام، وكان يتنقل بحلقاته ما بين الأقصى و" المدرسة الصلاحية " بالقدس التى شيدها السلطان صلاح الدين، وكانت أيضاً قصور إشعاع علمى وثقافى كبير، ومنهم: تقى الدين أبو عمر الشهير ب "ابن الصلاح " وكان العمدة فى زمانه فى الفتوى واشتهر أيضاً بالتفسير والحديث، وممن اشتهر بالمناظرات الفقهية " أبو الفضل عطاء المقدسى " شيخ الشافعية بالمسجد الأقصى، والقاضى يحيى بن على المعروف ب«ابن الصائغ» وذكر «ابن العربى » فى رحلته إلى بيت المقدس أنه شاهد علماء وفقهاء الشافعية يجتمعون بالمسجد للدرس والمناظرة.. ومن مشاهير العلماء أيضاً « علاء الدين القلقشندى» الذى ولد بالقدس سنه 804 هجرياً وتولى التدريس والخطابة بالمسجد الأقصى و" شهاب الدين أبو العباس العميرى " الذى عمل واعظاً ومدرساً ومفتياً، والشيخ " برهان الدين أبو اسحاق العجلونى المقدسى " ولد بالقدس سنه 832 هجرياً، والذى كان ينفق على الطلاب من ماله الخاص، والشيخ " على بن حبيب الله المقدسى " مفتى الشافعية، وكان له وقتان للتدريس: وقت الضحى فى باب الأقصى للفقه، وبعد المغرب فى مسجد الصخرة للحديث.. والمقام لا يتسع لذكر مئات من العلماء الأجلاء الذين لازموا التدريس بالمسجد الأقصى طوال تاريخه.
وكان التدريس يتم على مدار أيام الأسبوع، وكان فى مقدور أى طالب علم أن يختار الحلقة التى يريد دون قيد أو شرط، والموضوع الذى يرغب بدراسته، وكانت أهم الحلقات العلمية تلك التى تعقد عقب صلاة العصر من يوم الجمعة والتى تجمع مشاهير الفقهاء والعلماء والمحدثين.
وبالنسبة لنظام الدراسة بالمسجد الأقصى، فقد كان لكل عالم الحرية فى تقرير العلوم التى يرغب بتدريسها، فلم يكن هناك منهج دراسى محدد، وعند استيعاب الطالب لدروس أستاذه أو شيخه، يحق له الحصول على " إجازة التدريس " فى هذا العلم، وكان بمقدور النابهين من الطلاب الحصول على عدة إجازات من عدة شيوخ، يسمح له بمقتضاها أن يتخذ لنفسه حلقة تدريس حول أعمدة أروقة الأقصى.
وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء العلماء والشيوخ لم يتقاضوا رواتب عن عملهم هذا، ولم يأخذوا صدقة أو زكاة.. حيث كان مبدأهم نشر العلم فى سبيل الله، على الرغم من أن الخلفاء والسلاطين رصدوا الأوقاف والأموال للصرف على المسجد الأقصى وإدارته، ويلاحظ أن العمل بالتدريس فى المسجد الأقصى ومشيخته وسائر الوظائف الأخرى.. غالباً ما كانت وراثية تكاد تنحصر فى بعض العائلات العريقة، وهو تقليد متوارث يعود إلى عصر الخليفة الأموى "عبد الملك بن مروان " الذى رتب للمسجد الأقصى ثلاثمائة لشئون المشيخة والإدارة والخدمة والتدريس والافتاء.
كان هذا فى عصر "عزة الإسلام والمسلمين " يوم كان المسجد الأقصى واحداً من أكبر منارات العلم والثقافة الإسلامية.. أما فى عصر التردى والانهزام النفسى، فقد بات الأقصى أسيراً، فأى الأنهار يمكنها أن تغسل عارنا ومقدساتنا تستصرخ " المعتصم " فلا تجد غير الصدى.. بينما يلهث بعضنا وراء "وهم" السلام.. مع دولة يحكمها تحالف الإرهابى والحاخام والجنرال !
خزائن الكتب
كان فتح السلطان "صلاح الدين الأيوبى" لمدينة القدس سنة 583ه/ 1178م بداية سعيدة للحياة العلمية التى عمّت ديار الشام عامة وفلسطين خاصة. ولم تمنع صلاح الدين مشاغله الحربية وهمومه السياسية عن الاهتمام بالعلم وأهله، وإعادة بناء ما خرّبه المغول والتتار والصليبيون من دور علم، وما أحرقوه من خزائن كتب، وما هدموه من مدارس وجوامع ومنشآت حضارية تمثل الوجه الناصع للحضارة العربية الإسلامية.
استهل صلاح الدين عهده فى فلسطين بعملين جليلين، هما إنشاء المدارس والعمل على تزويد المسجد الأقصى بالكتب الدينية والعلمية. فقد عمد إلى تحويل الدار التى بناها فرسان المنظمة الصليبية العسكرية المسماة "الإسبتارية" إلى مدرسة كبرى (هى المدرسة الصلاحية) يُدرس فيها الفقه الشافعى. ويقول العماد الأصفهانى: "فاوض السلطان جلساءه من العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار فى مدرسة للفقهاء الشافعية ورباط للعلماء الصوفية، فعيّن للمدرسة الكنيسة المعروفة بصند حنّة عند باب الأسباط وعيّن دار البطرك للرباط ووقف عليهما وقوفاً". ويقول مجير الدين العليمى مشيراً إلى حرص صلاح الدين على تزويد هذه المدارس بالكتب: "إن السلطان صلاح الدين أمر بهدم البناء الذى أقامه الصليبيون فى الصخرة، وأعادها كما كانت ورتّب لها إماماً حسن القراءة ووقف عليها داراً وأرضاً وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات شريفة".
وقد سار الأيوبيون على سنّة صلاح الدين فى تأسيس المعاهد العلمية وتزويدها بالمدرسّين والكتب المخطوطة. فقد جدّد الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب بناء المدرسة الناصرية، أو الغزالية، وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو ووقف عليها كتباً فى جملتها "إصلاح المنطق" لابن السكِّيت وهو بخطّ الإمام النحوى ابن الخشّاب. ويقول العليمى إنه وقف على كراسة من هذا الكتاب، وعلى ظهرها الوقف وهو مؤرخ فى التاسع من ذى الحجة سنة 610ه/1214م.
وفى فلسطين خزائن كتب عامة وخاصة كثيرة. فأما العامة فأشهرها خزانة المسجد الأقصى فى القدس. ويبدو من مراجعة فهرسها أنها تحوى كتباً دينية مخطوطة قدّر عددها بألف مخطوط كالمصاحف والربعات وكتب أكثرها فى العصرين المملوكى والعثمانى. وفى الخزانة أيضاً كتب متفرقة فى الأدب والفقه على المذاهب الأربعة والتفسير والحديث. ولعلّ أنفس ما حوته الخزانة المذكورة، وأشار إليه مفهرسوها مخطوط كتاب "نشق الأزهار فى عجائب الأقطار" للمؤرخ المصرى ابن إياس (852 – 930ه)، ومخطوط "تلخيص المتشابه فى الرسم وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم" لأبى بكر الخطيب على بن ثابت البغدادى المتوفى سنة 464ه/1072م، ومخطوط "طبقات الشافعية" لتقى الدين ابن قاضى شبهة الدمشقى المتوفى سنة 851ه/1448م، ومخطوط "كتاب الأقاليم" للإصطخرى المتوفى سنة 340ه/952م، ويقال إن المخطوط يرجع إلى القرن الخامس وأوائل السادس.
وفى الخزانة نحو عشرة آلاف كتاب أكثرها مطبوع.
أما خزائن الكتب الخاصة فكثيرة منها:
خزانة آل أبى اللطف بالقدس.
خزانة آل البديرى بالقدس. وأسرة البديرى أسرة عريقة كانت لديهم خزائن كتب مخطوطة تبدّدت بعد أن اقتسموها. وآل قسم من مخطوطاتها إلى الشيخ محمد البديرى فجعلها فى جناح من أجنحة المسجد الأقصى.
خزانة آل الترجمان بالقدس.
خزانة آل الجوهرى بنابلس.
خزانة آل الحسينى بالقدس.
خزانة آل الخالدى بالقدس.
خزانة آل الخليلى بالقدس. وقد وقفها الشيخ محمد بن محمد الخليلى مفتى الشافعية المتوفى سنة 1147ه/1734م. ويقال إن الشيخ الخليلى أول من بدأ حقق فكرة إيجاد مكتبة عامة فى القدس استناداً إلى وقفية كتبه. وقد حفظت الكتب المذكورة فى المدرسة البلدية التى كان أنشأها بباب السلسلة نائب السلطان الأمير سيف الدين منكلى بغا الأحمدى المتوفى سنة 782ه/1381م.
خزانة آل الدّاودى بالقدس.
خزانة آل صوفان بنابلس وفيها مخطوط نفيس عنوانه: "مناقب الإمام أحمد بن حنبل" من تأليف الحافظ بن الجوزى مؤرخ سنة 599ه.
خزانة عبد الله مخلص (1878 – 1947م) بالقدس فى حى الشيخ جرّاح، وقد حوت نفائس المخطوطات. ويبدو أن المكتبة نقلت بعد حوادث 1948 إلى بعض الأديرة التى قرب سور المدينة من داخل. وقيل إن الصهيونيين نهبوها إبّان معارك 1948.
خزانة آل قطينة بالقدس بباب العمود: آل قطينة أسرة حنبلية يقال إنهم الحنابلة الوحيدون فى القدس. وفى الخزانة مخطوطات نفيسة فى الرياضيات والفلك والتنجيم لم يبق منها اليوم شئ.
خزانة محمد إسعاف النشاشيبى بالقدس.
خزانة محمود اللحام بضاحية سلوان (شرقى القدس) وفيها أربعة آلاف مصنف.
خزانة آل فخرى وقد وقفها القاضى فخر الدين أبو عبد الله محمد بن فضل، ناظر الجيوش الإسلامية المتوفى سنة 732ه/1332م. وهذه الخزانة قسم من الخانقاه الفخرية المجاورة لجامع المغاربة. ويقال إنها كانت تحتوى على عشرة آلاف مجلد اقتسمها أفراد الأسرة فتفرّقت كتبها.
خزانة آل الموقت بالقدس.
وتعد المكتبة الخالدية فى القدس أهم دور الكتب الخاصة فى فلسطين وأغناها. وكانت المكتبة مدرسة آلت ملكيتها إلى السيدة خديجة الخالدى ابنة القاضى موسى أفندى الخالدى قاضى عسكر بر الأناضول، فأوصت ولدها الحاج راغب الخالدى رئيس المحكمة الشرعية بيافا (المتوفى سنة 1951) أن يقفها وينقل إليها كتب الأسرة الخالدية. فنفذ وصيتها سنة 1318ه/1900م بمشورة ومعونة الشيخ طاهر الجزائرى مؤسس المكتبة الظاهرية بدمشق والشيخ أبى الخير محمد ابن الحبال الدمشقى فوضعا فهرساً بأسماء كتبها. وقد جاء فى "برنامج المكتبة الخالدية العمومية" وصف للظروف التى تم بها تأسيس المكتبة وجعلها دار كتب عامة: "وفق الله جانب الفاضل راغب أفندى الخالدى وموسى شفيق أفندى الخالدى إلى تشييد غرفة رحبة على جادة باب السلسلة فى القدس الشريف وضعوا فيها كمية وافرة مما وجد عندهم من بقية كتب آبائهم وأجدادهم، وأضافوا إليها بعضاً من الكتب الموجودة عندهم أيضاً، وجعلوا الغرفة المذكورة دار علوم عمومية لمن يرغب المطالعة من أى فرد كان، وشرّطوا أن لا يخرج منها كتاب حرصاً على المنفعة العامة، وهى مفتوحة الأبواب لجميع الطلاب كل يوم من الصباح إلى المساء، وعيّنوا لها محافظاً أميناً".
وتحتوى المكتبة على عشرة آلاف كتاب ثلثاها مخطوط والثلث من نوادر المطبوعات القديمة فى العلوم العربية والإسلامية. وقد ضمّت إليها خزانتا الشيخ يوسف ضياء باشا الخالدى ومحمد روحى الخالدى، وضمّت بعدئذ إليهما خزانة الشيخ أمد بدوى الخالدى بالإضافة إلى ما أهدى إليها من نفائس مطبوعات المستشرقين. وتبين من مطالعة فهرست المكتبة أنها تحوى كتباً فى التفسير والتجويد والقراءات والرسم والحديث والأصول والفتاوى والفقه الحنفى والفقه على المذاهب الأربعة والفرائض والتوحيد والتصوّف والمواعظ والحكم والنحو واللغة والأدب والسياسة والقوانين والدواوين والمدائح النبوية والسيرة النبوية والمناقب والتراجم والفلك والطب والروحانيات، وفيها عدد كبير من المجاميع فى مختلف العلوم الدينية والدنيوية.
وبعد.. فالقدس.. ليست وليدة عصر من العصور.. بل هى رفيقة كل العصور، منذ اليوم الذى سجل فيه التاريخ أولى صفحاته.. إن كل حجر من أحجارها يحكى ذكريات جميلة، وأخرى حزينة.. جدران عتيقة تراكم عليها التاريخ.. آيات فى فن العمارة، تصون داخلها أمثلة رائعة للجمال.. وقدسيتها كانت ملهمة للأنبياء والفنانين والكتاب والشعراء والرحالة.. وهويتها العربية منقوشة على أحجار أسوارها وبواباتها ومساجدها ومدارسها وأسبلتها وكنائسها وأديرتها وشوارعها وخططها.. على كل منها صفحة من صفحات التاريخ، فى عصر من العصور.. ستجد مكانا للقدس فى قلب كل عربى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.