لا أحد ينكر أن مصر تعيش منعطفا عنوانه الوحيد فى لهجة مخففة هو (الأزمة)، وذلك إذا ما نظرنا إلى التداعيات التى خلفتها الإعلانات الدستورية التى يطلقها الرئيس محمد مرسى، من وقت لآخر، حتى لو كانت مؤقتة، لحين الانتهاء من الاستفتاء على الدستور، طبقا لآراء أنصاره ومشايعيه. هذه التداعيات دعت البعض إلى التحذير من نشوب حرب أهلية، حين انقسم الشارع المصرى ما بين مؤيد ومعارض لمؤسسة الرئاسة، خصوصا أن حالة الاحتراب فى الشارع المصرى وصلت إلى أقصى مدى لها، وبدا أن هناك تصعيدا بين معسكرين، عنوانه الوحيد الحصار، انتظارا لساعة الصفر كما أشار أحد أقطاب السلفية، فالدستورية محاصرة بأنصار « الحرية والعدالة « ومدينة الإنتاج الإعلامى محاصرة بأولاد أبو إسماعيل، ومحيط الاتحادية والتحرير ساحتا اعتصام للمعارضين، ومن أطلقوا تحذيرات الخوف من الانجراف إلى حرب أهلية إذا ما عادوا إلى التاريخ المصري، ووقفوا على مفاصله المهمة، سيدركون أننا بمنأى عن الانجراف نحو هذا المستنقع، لما نمتلكه من تاريخ ومن قوة ثقافية يطلق عليها البعض « القوة الناعمة» . فى سبعينيات القرن الماضى برز تعبير «القوة الناعمة» على يد الأمريكى جوزيف ناى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد وكانت الحرب الباردة على وشك الوصول إلى نقطة النهاية، ويجرى البحث عن أدوات جديدة تدير بها أمريكا مناطق السيطرة والنفوذ حول العالم، ووقعت الأعين على الثقافة كرأسمال رمزى ومعنوى. وانتظرت مصر ما يقرب من أربعة عقود حتى يتداول كتابها ومثقفوها هذا الاصطلاح «القوة الناعمة»، تحت وطأة الإحساس بالتراجع المصرى على المستويات كافة، وما يعنينا منه هو التراجع الثقافي، برغم الطنطنة للريادة المصرية، التى كانت سائدة فى إعلام النظام السابق، وإن كان هذا لا ينفى أن مصر مارست هذا الدور بقوة قبل ثورة 23 يوليو 1952، وبعدها، ربما إلى منتصف سبعينيات القرن الماضى، بالضبط وقتما كان الباحثون والمفكرون فى الغرب يستهلكون مصطلح “القوة الناعمة"، والسؤال: هل تملك مصر أدوات “القوة الناعمة"؟ الإجابة نتلمسها لدى مدرسة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، د.هبة رءوف عزت، فهى ترى أن “مصر دولة تملك كل مقومات القوة الناعمة، فهى تملك التاريخ كرصيد حضاري، وتملك الموقع والثقل الديموغرافي، فى قلب الأمة العربية، وتملك المؤسسة الدينية البارزة، وهى الأزهر، بما تمنحه من مكانة إسلامية، وتملك الامتداد فى قلب القارة الإفريقية، وتملك العقول والسبق العلمى فى المنطقة العربية والريادة الفكرية والثقافية، والتجربة الليبرالية الأقدم فى العالم العربي". وبناء على هذه المقدرات كانت لمصر صورة الأيقونة فى العالم العربي، فقبل الثورة المصرية فى يوليو 1952 كانت مجلة “الرسالة" لصاحبها أحمد حسن الزيات، تمثل نفوذا ثقافيا أكبر من كل علاقات العمل الدبلوماسي، كذلك ينطبق الأمر على مجلة “الهلال" التى أسسها جورجى زيدان فى القاهرة، وهو الدور الذى وأده الرئيس السادات بإغلاق أغلب المجلات التى صدرت فى الستينيات، فقد كان يهيىء التربة للانعتاق من العلاقات العربية ليتجه غربا . حالة “زيدان" – مؤسس الهلال - تعكس أمرا آخر، فلم تكن مصر آنذاك مجرد شمس تبعث بأشعتها الدافئة فى كل اتجاه، بل إنها كانت الشعاع الجاذب لكل الفراشات العربية القادرة على العطاء فى مختلف المجالات، بإتاحة مناخ صحى، أشاعته قيم الليبرالية، فقد كانت مصر آنذاك قادرة على إذابة الهويات كافة، بمنح الفرص للجميع، بغض النظر عن أصولهم التى جاءوا منها، فكان صالون اللبنانية “مى زيادة" يأتمه أعلام الثقافة الرفيعة: العقاد، طه حسين، الرافعي، هيكل، لطفى السيد وغيرهم، وكان الشاعر اللبنانى خليل مطران، أحد أعمدة التجديد الشعري، على رأس إحدى مؤسسات المسرح الرسمية، وفى مصر أيضا انتقلت فاطمة “روزاليوسف" من المسرح إلى الصحافة، فى فضاء حر، لا يميز بين العربى والمصرى إلا بقدر كفاءته الإبداعية. كانت القوة الناعمة لمصر قبل ثورة 23 يوليو تسير فى اتجاهين: أحدهما جاذب لكل الكفاءات والمواهب العربية، والآخر يبعث بأفكار التنوير خارج حدود الجغرافيا، واستمر هذا الدور بمنحى آخر على يدى جمال عبد الناصر، الذى أطلق مقولة “الدوائر الثلاث: الإفريقية والعربية والإسلامية"، إلى أن انعزلت مصر تماما عن هذه الدوائر فى نصف القرن الأخير، على نحو يهدد حصتها من مياه النيل، برغم أن مصر كما يردد هيرودوت “هبة النيل" لكن قادتها تجاهلوا درس الجغرافيا ومعايير الأمن القومي، فانكمشت البلاد داخل حدودها. جرى ذلك فى منتصف السبعينيات، منذ أن هبطت طائرة الرئيس السادات مطار بن جوريون، فيما أطلق عليه إعلاميا، زيارة القدس، بما يمثل ذلك من مقدمات لتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، وتشكيل “جبهة الصمود والتصدي" بقيادة بعث العراق أو بالأحرى مقاطعة مصر سياسيا، لكن الأخطر من هذا كله هو المقاطعة العربية ل “قوة مصر الناعمة"، فقد منعت كتب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وغيرهم من أعلام الثقافة المصرية من دخول الدول العربية، وتواصلت القطيعة المعرفية مع مصر حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ورأت أجيال إبداعية جديدة النور، دون أن يتفاعل معها الشارع الثقافى العربي، أو يعرف عنها شيئا. بالتوازى مع هذا الانكماش، كان هناك صعود عربى على مستويات التعليم والإعلام والعمل الثقافى، خصوصا فى منطقة الخليج العربي، ففى الستينيات كانت إذاعة “صوت العرب" فى مصر تمارس دورا خطيرا على صعيد مساندة الثورات العربية ضد الاحتلال، الآن تقوم قناة “الجزيرة مباشر مصر" بالدور ذاته. طوال السنوات التى كانت فيها مصر قوية بذاتها كان الحديث يدور حول نظرية “المركز والأطراف"، ثم سقطت هذه النظرية مع عكوف مصر على نفسها، وتغير العالم العربي، وتم التهوين من الشأن الثقافى المصري، حتى إن شاعرا كبيرا مثل “محمد الماغوط" حين سئل عن الشعر فى مصر آنذاك، قال: مصر ليس فيها سوى “سعاد حسني"! ومع مطلع حقبة الثمانينيات عادت مصر إلى الصف العربي، وكانت الثقافة هى رأس الحربة فى هذه العودة، وتزامن هذا الأمر مع إطلاق “ملتقى القاهرة للإبداع الروائي"، الذى منح جائزة دورته الأولى إلى الروائى عبد الرحمن منيف، وكان أكثر من مائة روائى وناقد عربى ضيوفا على القاهرة، فى حدث جديد على الساحة الثقافية المصرية، التى افتقدت لسنوات مثل هذا العرس العربي، وكان الملتقى يعقد بالتناوب مع ملتقى آخر للشعر فاز بالجائزة فى دورته الأولى محمود درويش، الذى ألقى بيانا مشحونا بالعاطفة تجاه مصر، التى كان يفتقدها كفلسطينى وعربي. كانت المهرجانات الأدبية أداة من أدوات، تحاول القاهرة من خلالها أن تصنع امتدادات لها خارج شريط الوادى الضيق، كانت الثقافة رئة عربية تتنفس بها مصر، فابتدع القائمون على الثقافة آنذاك سلسلة مخصصة للكتابات العربية، طبعت إحداها رواية “وليمة لأعشاب البحر" للروائى السورى حيدر حيدر، وقد أثارت ضجة كبيرة على الصعيد الاجتماعى لفتت الانتباه إلى الرواية فى طبعتها المصرية، لتستعيد مصر بصورة ما جانبا من حيويتها المفتقدة، على نحو يدعو للتذكر بأن سلسلة “روايات الهلال" هى التى قدمت الروائى السودانى “الطيب صالح" وروايته الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال"، وإن رجاء النقاش هو الذى قدم لقراء العربية شعراء المقاومة فى الأرض المحتلة “محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد"، كما كان يطلق عليهم آنذاك، فى مجلة “الهلال" وأنجز كتابا عن درويش فى حين كان عمر الشاعر الفلسطينى الكبير لا يتجاوز السادسة والعشرين، بعدها استضافته مصر حين رفض العودة إلى الأرض المحتلة. ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011، يرى البعض أن “القوة الناعمة" هى التى أنقذت مصر من السيناريو الليبي، وما بين الرؤى المتفائلة والمتشائمة بشأن ما يجرى فى مصر فإن الرهان لا يزال قائما على العنصر البشري، فمصر كما يقول مصطفى اللباد “تملك بعض حيوية سكانها ومثقفيها، أكثرية عناصر القوة الناعمة فى الإقليم حتى الآن، ففيها يتم إنتاج أكبر عدد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية، مثلما تملك أكبر عدد من الكتب والمقالات العلمية المنشورة". والآن علينا أن نعى درس التاريخ فلن ينقذ مصر من الخطر الذى يتهددها سوى الثقافة، ولن يحدث هذا بالتضييق على الثقافة والمثقفين وتهميشهم أو إقصائهم، وعلينا أن نتخيل مصر بدون طه حسين والحكيم ولطفى السيد والعقاد ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وغيرهم، حتى نعرف ما قدمته الثقافة لهذا البلد .