دارت عقارب الساعة. مصر تتحرك بقوة.. يسعى إليها الجميع. هنا القاهرة.. صارت نقطة تفاعل محورية. فبراير عام 2019، يكتب مشهدا مختلفا فى ذاكرة القوى العالمية، فيه ترأست مصر الاتحاد الإفريقى، وتشارك فى قمة ميونخ للأمن، وتستضيف القمة العربية الأوروبية. دولة نجحت فى قطع مسافات طويلة فى وقت وجيز. أقنعت الرأى العام العالمى بوجهة نظرها المنطقية، ونجحت فى تصحيح مفاهيم مغلوطة، ومصنوعة للترويج ضد مصر.
الأحداث الثلاثة التى تأتى القاهرة طرفا أصيلا فى صناعة تفاصيلها، تأخذنا إلى مرحلة متقدمة للنفوذ والتأثير المصرى، واضعين فى الاعتبار النجاة من استهداف الدولة المصرية منذ أحداث ما يسمى «بالربيع العربى»، وبالتالى فإن ذلك التطور -إذا دل- إنما يدل على أن هناك قيادة سياسية حكيمة، ومؤسسات ترتب أولوياتها بمهارة وحنكة عاليتين جداً.
فيما يتعلق بملف رئاسة الاتحاد الإفريقى، فرئاسة مصر إشارة قوية على قدرة الشعب الإفريقى على تحقيق، وتأكيد وتعميق الوحدة.. فالمصير واحد، والتحديات مشتركة. كل المؤشرات التى عاشتها القاهرة فى أديس أبابا، تؤكد حالة ترحيب واسعة من القادة والرؤساء الأفارقة.. هؤلاء يعرفون قيمة مصر، ويحتفظون بوصايا الآباء المؤسسين.
سبق أن قلت، إنه إذا كان الأديب الإفريقى العالمى الطيب صالح، قد كتب واحدة من أهم مائة رواية فى العالم بعنوان: «موسم الهجرة إلى الشمال»، فإن القاهرة الساهرة العامرة الإفريقية، تكتب الآن رواية أكثر عالمية بعنوان: «موسم الهجرة إلى الجنوب».
أولى خطوات هذه الهجرة، جاءت تحت رؤية:«اللاجئون والعائدون والنازحون داخليا.. نحو حلول دائمة للنزوح القسرى فى إفريقيا»، الأمر الذى يقودنا إلى أهمية العمل على تعزيز التعاون، لمعالجة التحديات المتعلقة بتفشى ظاهرة اللجوء والنزوح بالقارة، وابتكار حلول علمية، سريعة التأثير، وقوية المردود. هذا العام يحمل العديد من الرسائل والدلالات التى تضع مصر فى صدارة القارة والإقليم، فأجندة الدولة المصرية بها الكثير للمشاركة فى نقلة تنموية عميقة بالقارة، بما يتفق والإرث التاريخى للدولة مع أشقائها الأفارقة فى مختلف المجالات.
أما الملف الثانى، المتعلق بمشاركة مصر فى قمة ميونخ للأمن، فيؤكد قدرة الدولة على تحقيق الأمن والاستقرار، ليس فقط فى مصر، لكن فى المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهذا ما دفع القائمين على القمة لأن يستمعوا لرؤية الرئيس عبد الفتاح السيسى، التى أعادت ترتيب الملفات وتصحيح المفاهيم المغلوطة، خصوصا أن السياسة الألمانية الآن تختلف عما كانت عليه قبل خمس سنوات.
النظرة اختلفت كثيرا.. الحوار انتصر لصالح مصر، الإصلاحات على الأرض دفعت الدولة الألمانية لإعادة النظر فى مواقفها، صارت القاهرة بالنسبة لبرلين قوة استقرار فى الشرق الأوسط لا يمكن الاستغناء عنها، سيما فى ملفات مهمة مثل مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، وهذا يعكس مساحة قوة وتأثير القاهرة فى حسم ملفات مهمة بالنسبة لألمانيا وأوروبا. فيما يتعلق باستضافة «شرم الشيخ» للقمة العربية الأوروبية، فهذا حدث يستحق التوقف كثيرا.. فهذه هى القمة الأولى والحوار الأول بين دول الاتحاد الأوروبى مجتمعة، وبين الدول العربية أعضاء الجامعة العربية، ويحدث ذلك على «أرض السلام»، هذه القمة، بما تمثله من أهمية محورية، تعكس الحاجة المشتركة والملحة للتنسيق بين الجانبين العربى والأوروبى، حيال أزمات المنطقة التى أثرت على الجانبين، ولم تعد هناك رفاهية الابتعاد عن مواجهة الواقع، فى إطار معادلات القوى والتأثير، انطلاقا من حسابات المستقبل.
وهنا نستطيع القول إنه بعيدا عن الملفات والقضايا المهمة، التى تناقشها القمة، فإن دلالة استضافة مصر لهذا الحشد الكبير، من قادة وزعماء العالم، والتى يصل عدد المشاركات فيها إلى 50 دولة، يعنى أمام العالم أن الدولة المصرية صارت محورا، وقبلة للاستقرار، لمن يريد السلام والتعايش، ومواجهة الخطر الحقيقى، والتخلص من الأزمات.
إذن.. من أديس أبابا إلى ميونخ، ثم شرم الشيخ، نستطيع القول: إن مصر تستعيد المكانة اللائقة والصحيحة لها فى حسابات العالم، سواء فى إفريقيا، أم أوروبا أم العالم العربى، فقد صارت مصر دولة تمثل دائرة سياسية مهمة بالنسبة للجميع.