لا يمكن لبلد واحد أن يواجه بمفرده تحديات الإرهاب والفقر والبطالة تنقصنا رؤية طويلة المدى تجمع جميع العناصر الفاعلة فى منطقة البحر الأبيض المتوسط
على دول الغرب والدول الغنية نفسها فى العالم العربى أن تتخلى عن ديونها للعالم الثالث
فى إيطاليا يرونها السيدة الحديدية، وفى أوروبا يسمونها عقل روما المتفتح، هى نائبة رئيس حزب "فورسا إيطاليا" الذى يحوز على نسبة 15% من أعضاء البرلمان الإيطالى الحالى.. إنها السيناتور ستيفانيا كراكسى عضو مجلس الشيوخ الإيطالى ونائبة رئيس لجنة الشئون الخارجية ووزيرة الدولة للشئون الخارجية السابقة، وهى ابنة رئيس وزراء إيطاليا الأسبق السياسى الشهير بتينو كراكسى الذى أسس الحزب الاشتراكى الإيطالى واوصل شعبيته إلى القمة، وكان رئيسا لوزراء إيطاليا خلال الفترة من 1983 إلى 1987م، ثم عضوا فى البرلمان الأوروبى بين عامى 1979 إلى 1994م، وبسبب مواقفه السياسية ومحاربته للفساد، فقد آثر كراكسى أن يترك إيطاليا ويقيم فى تونس، حيث أوصى بأن يٌدفن فيها، وقد أطلقت السلطات التونسية اسمه على أحد الشوارع.
من بعده حملت ابنته السيناتور ستيفانيا كراكسى رسالة السلام والحوار بين الشعوب وتترأس مؤسسة "كراكسى للمتوسط" وتقوم بالعديد من المهام السياسية والثقافية.
لنبدأ من الماضى؛ منذ رحيل بتينو كراكسى ما الذى تغير فى إيطاليا، وهل وجد السياسيون والأحزاب طريقا للعبور نحو المستقبل بدون تكاليف؟ إن نفى كراكسى وموته يمثلان نقطة تحول فى تاريخ إيطاليا والتاريخ الأوروبى، خصوصا على المستوى الدولي. فى هذه السنوات تغير الكثير، ولكن ليس للأفضل، وإذا نظرنا إلى القضايا التى لم يتم حلها، سواء كانت سياسية أم اقتصادية، فإن العديد من المشكلات الإيطالية التى تحدث عنها الراحل بتينو لا تزال دون حل، فقد عاشت إيطاليا لفترة طويلة فى أزمة عميقة، وتأثرت إيطاليا، كما فى جزء كبير من العالم بالعولمة، وفقدنا وظيفة توجيه العمليات والسياسات، وقد أدى هذا إلى تفاقم مشكلة عدم المساواة، وكذلك الانفصال بين المواطنين والمؤسسات التى خلقت توترات هائلة، ليس فقط على الصعيد الاجتماعى بل والمعيشى، وتلك التراكمات هى التى تكمن وراء ظواهر اليوم حيث يتم تصعيد الاحتجاج والرفض الشعبى، لأن الذين يقودون المجتمعات لا يملكون حلولاً.
تتكاثر المشاكل الدولية.. هجرة إرهاب - بطالة - فقر - حروب، هل تملك إيطاليا رؤية إستراتيجية لإيجاد الحلول لهذه المشاكل؟ لا يمكن لبلد واحد، فى نظام من المجتمعات والاقتصاديات المفتوحة، أن يواجه هذه التحديات بمفرده ومن خلال نطاقه الفريد. ما ينقص وهذا ليس فى إيطاليا فقط هو رؤية طويلة المدى تجمع جميع العناصر الفاعلة فى منطقة البحر الأبيض المتوسط، ما يوجد أمامنا هى الألعاب السياسية التى ليس لديها حدود، وهو ما يجعل مصائر الشعوب على ضفتى المتوسط على المحك، سواء على الشواطئ الجنوبية أم الساحل الشمالى لهذا البحر الذى كان لقرون طويلة هو من يصنع الحضارة العالمية والتنمية والتطور الإنسانى. لذلك، من مصلحة أوروبا وإيطاليا تحديدا التصدى لمشكلة التنمية فى إفريقيا، والسلام فى منطقة البحر الأبيض المتوسط، والتنمية العادلة والمشاركة. أن ما يقلقنى أكثر فى هذه المرحلة هو قلة الوعى بهذه الضرورة، لذلك فإن التراجع التدريجى للدور الاستباقى لإيطاليا فى العشرين سنة الماضية، وما نتج عنه يجب أن يتبدل، ويجب أن نكون جسراً للحوار والوساطة والاقتراحات والتعاون مع الدول العربية والمتوسطية، ففى الحمض النووى لدينا تاريخنا ومستقبلنا المشترك.
سبق وأكدت دعم بلادك للموقف الفلسطينى ولسياسة الرئيس عباس، وأنك ستعملين على زيادة الدعم الإيطالى للشعب الفلسطينى.. ماذا تحقق من ذلك.. ولماذا تراجع دور إيطاليا فى حل القضية الفلسطينية؟ يبدو أن إيطاليا، بوصفها جزءا كبيرا من المجتمع الدولى، نسيت هذا الصراع الذى لا يزال يزعزع استقرار المنطقة بأسرها. فى رأيى، أسهم عدم الحل، إلى جانب أسباب أخرى، فى ولادة شعور معادٍ للغرب فى جزء من الجيل العربى الجديد. إيطاليا لا بد لها من العودة إلى كونها فاعلا فى عملية السلام، وأن تعمل لإحياء الأفكار الإيجابية التى تساعد على إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وذلك لأنه ولفترة طويلة جدا تغلبت القوة على منطق البحث عن أسباب الحل الصحيحة، فالشعوب فى المنطقة موجودة، ولها الحق فى الحياة والأمن، وهى تعانى من الفقر والاضطهاد، والشىء الوحيد المهم هو أن النظام الدولى بأسره يجب أن يأخذ بعين الاعتبار إيجاد الحل العادل ومساعدة الجميع.
الراحل كراسكى كان يميل إلى الحكمة بدل الحماقة والتفاوض بدل المواجهة، إلى أى حد ترين بأن العالم فى حاجة لفكره وحكمته؟ كان كراكسى رجل قناعات عميقة، وكان يحب السلام وكان يدافع عن الحق، وهذا جعله يؤمن بأن الناس فى حاجة للحرية لكى يعيشوا سعداء، كان يناضل من أجل حقوقهم، وكان يدعوهم لفعل ذلك، وكان مع الاحترام الكامل لمبدأ تقرير المصير للشعوب، وكان يعرف كيف ينظر إلى ما وراء الحدود الوطنية، وكان يرى وقتها وتنبأ بالمستقبل، ولهذا السبب فإن تفكيره ورؤيته الدولية لا تزال حية. وهنا دعونا نفكر فى التزامه بحل الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى أو العمل المنجز نيابة عن الأممالمتحدة من أجل تقليل ديون دول العالم الثالث. لقد كان محاوراً مخلصاً وصادقاً ومفيداً للعديد من الشعوب. ولا تزال رؤيته للبحر الأبيض المتوسط اليوم من بين أكثر الرؤى تقدمًا وتطوراً، أما من منظور النمو والتنمية المشتركة، فكان يؤمن بتعايش الثقافات والحضارات والتقاليد معا فى وئام، وهو ما يؤدى إلى "بحر من السلام"، فالبحر المتوسط يمكن أن يكون واحدا من أكثر الأسواق نموا فى هذا الكوكب.
فى كتابه الصادر عام 1996 بعنوان، فى العالم: خطابات مختارة من بتينو كراكسى، دعا الزعيم والمفكر الراحل إلى تحويل البحر المتوسط إلى بحر سلام وتعاون، وإخلائه من الأساطيل - كيف يمكن من وجهة نظركم تطبيق هذه الرؤية المتقدمة وكيف يمكن لإيطاليا أن تلعب دوراً فى هذا الإطار؟ إيطاليا إما أن تلعب هذا الدور فى البحر المتوسط بشكل سلمى، أو أنها لن تلعب أى دور فى الساحة الدولية، وهذه هى النقطة التى يبدو أن الكثيرين لا يفهمونها. هذا العمى يقودنا فى إيطاليا إلى العزلة وعدم الاعتداد، ويصنع تناقضا ومشاكل مستقبلية فى منطقة البحر الأبيض المتوسط (انظر مثلا إلى مشكلة الهجرة)، فبدلا من استغلال التغييرات فى المتوسط التى يمكن أن تستفيد منها إيطاليا سياسيا واقتصاديا، بزيادة فرص التجارة والتبادلات البينية، بدلا من ذلك فإننا نشهد التوترات.
دعا الراحل كراسكى إلى ردم الهوة بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة، ونبه إلى أن استمرار التباين فى المستوى الاقتصادى بين الدول، سيؤدى إلى كوارث إنسانية كالهجرات الجماعية، والديون واستغلال صندوق النقد الدولى لأزمات الدول، وهذا ما تحقق على أرض الواقع كيف يمكن ردم الهوة حاليا من وجهة نظركم؟ نحن بحاجة إلى البدء من فكرة كراكسى، على دول الغرب والدول الغنية نفسها فى العالم العربى أن تتخلى عن ديونها للعالم الثالث. ثم يتم إنشاء خطة مارشال لإفريقيا والبحر المتوسط، وهى خطة من الاستثمارات التى تمثل فرصة لجميع اقتصادياتنا التى تحتاج إلى النمو والحوار مع الحقائق الجديدة، حيث تعد إفريقيا ومنطقة البحر المتوسط بالنسبة لأوروبا، المحاور الأقرب والأكثر طبيعية والشريك المهم، والأمر متروك لنا جميعا لفهم كيفية ارتباط مصائرنا. وفى هذا الاتجاه، أركز بشدة على التزامى والتزام رئيس البرلمان الأوروبى، أنطونيو تاجانى، بهذا المبدأ والسعى لتحقيقه.
نصحت رئيس الوزراء الإيطالى بألا يجازف حين عقد مؤتمر باليرموا بخصوص ليبيا والنتائج أظهرت أن هناك بالفعل مجازفة، إذ تبين أنه ليس هناك نتائج إيجابية، هل يعنى هذا استمراراً للأزمة الليبية وانعدام الرؤية الصحيحة؟ المؤتمرات هى أماكن للاجتماع والمناقشة. الحديث هو دائما أفضل من تجاهل الآخرين، إن حل الأزمة الليبية هو تحدٍ مشترك يتطلب من جميع الجهات الفاعلة قطع الخطوات إلى الأمام التى ما زلت لا أراها. هناك الكثير من المستبعدين فى التفاوض، وهناك العديد من الألعاب تحت الطاولة على حساب السلام. إن الحقيقة تتطلب أن تتم قراءة الوضع الليبى برمته بمفاتيح جديدة تأخذ فى الاعتبار أخطاء وإخفاقات هذه السنوات والتى لا يُعفى منها أحد، ولا حتى إيطاليا. لقد قلت ذلك عدة مرات وأيضا فى مجلس الشيوخ: لقد أظهرنا فى بعض الأحيان أكثر من اختلاف، ولكن هذا ينطبق أيضا على العديد من البلدان الأخرى. فرنسا فى الصدارة. لا أحد خال من الأخطاء. يجب أن نفهم أنه فى المسألة الليبية نخاطر ببقاء المعاناة لجميع الضحايا. ذلك أن الديمقراطية هى عملية طويلة وشاقة، ولا يمكننا تخيل تجاهل إرادة الشعب الليبى الذى يجب أن يختار قادته بشكل مستقل، وأن يقرر مصيره، يجب أن يضمن المجتمع الدولى هذه الخيارات.
لمؤسسة كراكسى دور ثقافى واجتماعى هل نرى لها دورا إيجابيا فى مصر؟ بداية يتم تحفيز المؤسسة من خلال نفس القيم المشتركة، ومن خلال نفس المثل التى ميزت حياة والتزام كراكسى إنها دافع للثقافة، والأفكار والمقارنات وهى نقطة مرجعية. كما أن المؤسسة مفتوحة للعالم وتسعى للصداقة والأخوة مع جميع شعوب البحر الأبيض المتوسط والعالم العربي. ومعهم نريد بناء مستقبل مزدهر وسلمى..