فى عمر 23 عاما قرر الكاتب الفرنسى إيريك جوفروا أن يعتنق الدين الإسلامى، حيث كان ينتمى إلى أسرة تعتنق الديانة المسيحية لكنه قرر أن يواجه المجتمع، فأقنع والدته بما يؤمن به، ومنذ ذلك الحين قرر البحث والتعمق فى الديانات المختلفة وعلوم الإسلام من فقه وسنة وحديث، ووجد أن ذلك لن يتأتى إلا بدراسة اللغة العربية، وبالفعل درسها دراسة وحصل على الدكتوراه فى الأدب الصوفى، الذى وجده مليئا بالروحانيات والتجليات، تأثر بأبو الحسن البصرى وجلال الدين الرومى معتبرا التصوف هو جوهر وعمق التدين، هو باحث فرنسى شهير، ومحاضر عالمي يشغل حاليا مدير قسم اللغة العربية والإسلامية بجامعة ستراسبورج بفرنسا، دائما ينادى بضرورة إيجاد ثورة على المعنى ، فكتابه الأخير «مستقبل الإسلام الروحانى» الصادر عن المركز القومى للترجمة يحاول من خلاله تجديد النظرة للإسلام وسط جحيم الأصوليات المتشددة التى يشهدها العالم اليوم وحول هذا الكتاب، ولمزيد من التعرف على حياة هذا الكاتب وأفكاره كان لنا معه هذا الحوار. ما سبب اتجاهك لدراسة اللغة العربية؟
اللغة العربية مبدأ للتعلم ومعرفة الإسلام وما فيه من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، أنا متخصص تحديدا فى الأدب الصوفى، لذلك كان مهماً لى معرفة ودراسة اللغة العربية باهتمام.
لماذا تخصصت فى الأدب الصوفى تحديدا؟
الأدب الصوفى مليء بالروحانيات والتجليات العديدة، فى القرون الأولى وتحديدا القرن الرابع الهجرى، كان هناك العديد من الكتب التى تم تأليفها لجمع ما قاله الصوفيون الأولون مثل أبو الحسن البصرى والحلاج فمعظمهم لم يكتبوا شيئا، لكنهم كتبوا عدة مقالات، ومن بعدهم ظهرت حركات وأناس قرروا جمع أقوالهم، فى كتب ومن هنا انتشر التصوف، حتى أصبح علما إسلاميا فهو علم لطيف وإلهامى، ومن هنا أسست المدارس فى القرن الحادى عشر، لتعليم التصوف والعلوم الإسلامية الأخرى كعلم الحديث، وكان للمتصوفة نمط معين، وانطلاقا من نصوص القرن الثانى عشر وعلى طريقة ابن غزالى وآخرين يعتبر الأدب الصوفى تراثا مليئا بالحكم والمقولات القصيرة عميقة المغزى والمعنى، أيضا كان يتضمن النصوص الطويلة والمفصلة مثل نصوص ابن عربى فى الفتوحات العربية، فمثلا فى شعر العصر الجاهلى كان حب المرأة والخمر ظاهرا بشكل كبير، أما الحب فى الشعر الصوفى فالمقصود به الحب الإلهى والخمرة تناولوها بالوجدان لكن لم يتذوقوها. فى القرن الثانى عشر الميلادى جاء الصوفيون وأحيوا هذا الأدب وبعد القرن العشرين ألفت نصوص أخرى، وكثيرا ما يستعملون رمز الحب الإلهى، حب إله الكون، فالصوفيون الحقيقيون لم يتذوقوا الخمر المادى لكن الخمر فى شعرهم الوجد الذى يشعر به الإنسان.
ماذا يعنى التصوف من وجهة نظرك؟
التصوف من وجهة نظرى يشكل جوهر وعمق التدين ، فأغلب العلماء كانوا يؤكدون أن الغاية من خلق الإنسان هو معرفة الله تعالى التى لا تحصل إلا بالتفكير فالطريق إلى روحانيات الإسلام لا تحتاج سوى لإحياء ما فى الإنسان من فطرة صافية وطبيعة نقية تهديه إلى الطريق القويم، كما قال الله تعالى «فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون» صدق الله العظيم.
هل عالم التصوف بكل ما فيه هو ما دفعك للبحث فى الديانات المختلفة والقيام بأبحاث عدة خصوصا فى الدين الإسلامى؟
عندما كنت فى عمر ال22 عاما شرعت فى البحث الروحى، فى الأساس كنت أتبع الديانة المسيحية، كنت مسيحياً، كاثوليكيا، لكننى لم أعتقد وأقتنع بها يوما ما، فى الوقت نفسه تعلمت اللغة العربية، واعتنقت الدين اللإسلامى وتذوقت روحانيات التصوف، ولكن فى ذلك العصر، وقبل 35 عاما من دخولى الإسلام، لم تكن الكتب الصوفية مترجمة للغة الفرنسية، لذلك اتجهت لدراسة وتعلم اللغة العربية، وبعد ذلك تمت ترجمة كتاب جلال الدين الرومى، فقرأته وأعجبت به كثيرا، ومنذ إعلان إسلامى وأنا أبحث فى هذه الديانات، وأقوم بعمل الكثير من الدراسات البحثية فى علوم الإسلام المختلفة.
هل واجهت مشاكل وصعوبات من الأسرة؟
نعم لكنها لم تستمر طويلا، فكنت قريبا جدا من قلب أمى كانت تحبنى كثيرا، وكنت أتحدث معها باستمرار عن الإسلام وشرحت لها ظروفى، وأقنعتها ووضحت لها مكانة سيدنا عيسى والسيدة مريم فى الدين الإسلامى، ومنذ ذلك الحين اقتنعت أن الإسلام كان سببا فى تنظيم حياتى وتوازنها، كنت من قبل ضد الزواج والعمل، لكن عندما دخلت الإسلام ، وجدت توازنا واعتدالا روحيا وماديا أصبحت أستاذا جامعيا ورزقنى الله بالعمل، وقمت بدراسة أطروحة الدكتوراه فى المعهد الفرنسى بدمشق.
فى كتابك «مستقبل الإسلام الروحانى» كيف ترى هذا المستقبل فى ظل التحولات التى طرأت على المجتمعات الاسلامية وظهور المتشدقين باسم الدين وهم يرهبون الناس ويعيثون فى الأرض فساداً، فمتى يتم القضاء على الإرهاب هذا؟
عنوان الكتاب الأصلى ليس مستقبل الإسلام الروحانى المركز القومى للترجمة هو الذى ترجم الكتاب لهذا المعنى ، لكن العنوان الحقيقى هو «الإسلام سيكون روحيا» وهذا مأخوذ من كلمات الكاتب الفرنسى أونرى مالهوف الذى قال إن الإنسان سيكون روحيا أو لن يكون وهذا شرحته فى كتابى، ووضحت فيه القيم التى جاء بها القرآن والنبى محمد عليه السلام، فتشديد الفكر الإسلامى اليوم أصبح لا يبنى على أساس عقلانى والشعوب الإسلامية اليوم فى تدهور ولم يكن لديهم عقل قوى، لذلك أرى ضرورة إرجاع قوة العقل لهم، فالعقل مبدأ وأساس، ونحن كمسلمين فى حاجة إلى وعى أعمق وأوسع عن طريق العلم والمنطق فلا بد من البحث عما وراء العقل ، والفكر الصوفى القديم والعلم الحديث جدا مثل الفيزياء أكدوا أن الإدراك الحسى وحده لا يكفى حتى لا نفهم الحقيقة.
من واقع أبحاثك وما نشاهده اليوم من وجود فكر متطرف ينتشر فى الكثير من بلدان العالم كيف نجدد الخطاب الدينى من وجهة نظرك د. إيريك؟
بالوجدان والاتجاه إلى التصوف الروحى، تحدثت مع مسئولين كبار فى فرنسا بشأن هذا الأمر، وقالوا لى إن المسلمين فى المساجد يبحثون عن شيء آخر لا يكفى له تعلم العقيدة والفكر وهذا شيء مهم ، نحن نعيش ككل ، معنى الحياة والحضارة الإنسانية لنعيش فى عالم نرتبط كلنا فيه ببعض ، لذلك ظهرت أزمة المعنى وترتب عليها العديد من المشاكل، على سبيل المثال أغلب الدول الغربية الفتيات أقل من ال15 سنة يعيشن منفصلات عن أهاليهن بحجة الاستقلالية، ولم يكن لحياتهن معنى، فالفراغ الروحى والمعنوى يؤديان إلى الدخول فى مشاكل، وفى البلدان العربية أصبحت حياتهم تقليدا للأمريكان، لذلك لا حل بدون الروحانيات، وأقصد الروحانية الحقيقية التى تعطيك القدرة على مواصلة العمل وإعمال العقل، وليس ترك أمورك وشئون حياتك، فالروحانيات شاهد باطنى يعطيك فرصة للتمييز حتى تفهم ما يحدث، ودونها لا حل لهذه الأمة .
لذلك طالبت بثورة على المعنى ماذا كنت تقصد إذن من هذه الثورة؟
نعم طالبت بثورة على المعنى وكنت أقصد منها، أن يعيش الفرد مختلفا عما كان عليه، ما أقصده الثورة الباطنية وليس الخارجة أى بداخل الإنسان ذاته، ومن هنا ينطلق السؤال لماذا نعيش وما الأوهام التى بداخلنا؟
ماذا تقصد بأن الإصلاح الإسلامى هو الحل؟
الإسلام دينيا كان أو سياسيا يعنى أن تجتهد كما ينبغى ، الإسلام والإنسانية تحتاج إلى شيء أعمق وأعلى، ما حادث هو الاهتمام بالشكل لكن لا بد من الاقتراب من العمق حتى يتم خلق مجتمع إنسانى جديد .
أرجعت الكثير من المشاكل الحياتية للنزعة الاستهلاكية لماذا؟
نعم فالاستهلاك يؤدى إلى إحداث نوع من عدم التوازن المادى بين طبقات المجتمع، فهناك فروق شاسعة بين الطبقات ، لكن هناك استهلاكية دينية أقصد بها أن المادة أصبحت تتخلل الدين، مثلا بعض دول الخليج العربى فيها الإسلام سطحى معظمهم يعيشون ضمن الإطار الاستهلاكى، فنحن نعرف أن هذا المجتمع يحاول السير على منوال أمريكا ما يؤدى إلى العبثية ووجود أزمات معنوية، فوسطية الإسلام التى تدعو إلى عقلانية منفحته تجمع بين الذكر والفكر وبين التأمل فى الآفاق وفى النفس ، فالاجتهاد يلعب دورا مهما فى الصلاح خصوصا إذا كان مستمدا من روحانية الإنسان الصافية، التى لايمكن أن تقبل بالإسلام كأيديولجية ، فالصلاح هو التحول لأن الحقيقة متعددة الأبعاد ولا تنحصر فى زاوية واحدة.
كيف ترى واقع اللغة العربية فى العالم كله؟
لى أصحاب كثر فى الخليج قالوا لى لم نعد نعلم أبناءنا اللغة العربية، وهذه كارثة حقيقية ومشكلة ضخمة، فاللغة العربية لابد من نصرها بفضل الإسلام والقرآن والأحاديث ، إلا أنه بشكل عام هناك عدم فهم فى معرفة اللغة العربية، فاتجاههم لاستخدام التكنولوجيا الحديثة جعلهم يعزفون عن تعلم اللغة العربية لغتهم الرسمية ولغة القرآن.
ما الحل إذن من وجهة نظرك؟
لا بد من دراستها ودراسة الوعى الصوفى بقصد روحى. فالمشروع التحريرى الروحانى للإسلام قادر على حل الكثير من الخلافات وإحداث نهضة عالمية، فمنهج الفكر الصوفى يعتمد على الاحتواء وليس الإقصاء وهو ما انتبه له الشاعر الألمانى جوته وقال: «إذا كان هذا هو الإسلام فنحن جميعا مسلمون».
هل الثقافة تصلح ما أفسدته السياسة؟ الثقافة ضرورية والسياسيون بشكل عام ينظرون لآماد قصيرة أما الثقافة فلها أبعاد أوسع وأعمق.
ما رأيك فى مديرة اليونسكو الجديدة؟
نعرفها جيدا وهى من أصل مغربى يهودى والدها يعمل مستشارا للملك محمد السادس، وهى جيدة بالنسبة للإعلام العربى.