مصر تظل دائما هى مصب العطاء للسودان، لكن أهم ما فى عطائها هو بناء الإنسان السودانى فكرا ووجدانا، لذلك فإن الذين تعلموا فى المدارس المصرية بالسودان هم من حفظوا للسودان كينونته وصفاء رؤيته ونقاء ضميره، هكذا كانت مواقف خريحى مدارس البعثة المصرية وجامعة القاهرة فرع الخرطوم.. وأنا كواحد من هؤلاء أعبر باعترافاتى هنا عن مسيرة أفراد هؤلاء جميعا من داخل مدارس البعثة فى الخرطوم أو الأبيض أو عطبرة أو ملكال تلقينا دروسنا فى بيئة لا فرق بينها وبين بيئة المدارس فى مصر، بل كانت مصر ترسل بأفضل أساتذتها لمدارس البعثة فى السودان وعلى يد هؤلاء تفتحت عقولنا ومداركنا ومن خلال القيم التى زرعوها فى عقولنا تكونت ضمائرنا لذلك، لم نعد نبصر الأشياء وندرك معانيها كما يدركها غيرنا ومن هنا كانت البداية فى اختلاف المسارات والتوجهات. ولذلك أورد هنا وقفات عديدة لها طابع مختلف ومميز بل ومثير للدهشة وربما الإعجاب. فقد كنت أعيش فى كنف خالى الشيخ محمد أحمد عوض الزعيم الاتحادى المعرفو لا أدين لحزبه الوطنى الاتحادى بالولاء وإنما أدين بهذا الولاء لحزب الشعب الديمقراطى، لأن هذا الحزب كان قريبا من مصر وكانت قيادته لا تخفى ارتباطها الفكرى و الروحى بمصر وقد كان رئيس هذا الحزب الشيخ على عبدالرحمن يسكن على مقربة من مقر سكن الشيخ المرضى فى الحى المعروف فى الخرطوم بحى غزة 2 فقد كنت أجرى صباح كل يوم لألتقى بالشيخ على عبدالرحمن رئيس الحزب وأتناول الفطور معه فى صحبة غيرى من شباب الحزب ومن ثم أعود إلى بيتنا لأتناول الغداء مع خالى الشيخ المرضى، ورغم أن تناول الفطور مع رئيس حزبنا كان يكلفنا فى كثير من الأحيان مشقة جمع ثمن وجبة الفطور التى لا تخرج عن كونها فول وعيش وجبنة إلا أننى وزملائى كنا نرى فى ذلك مصدر سعادة لنا، فها هو رئيس حزبنا يجمعنا حوله فى أريحية ويطوقنا بمودته ويخصنا برعايته لأنه يرى فينا قادة المستقبل. ورئيسنا الذى عرفناه يعيش على حد الكفاف كان فى حقيقة الأمر يتولى قيادة أحد أكبر الأحزاب السياسية، فى السودان وكان قمينا بأن يحظى بأكبر مظاهر الأبهة والوجاهة والغنى لكنه على العكس من ذلك كان لا يجد حتى ما يحلق به ذقنه، حيث كان يزوره من وقت لآخر أحد أفراد الحزب من محبى طائفة الختمية ويدعى زغلول الوطنى ليقوم بحلاقة ذقنه فى بيته بالمجان تبرعا منه بل تبركا منه كما كان يدعى المواطن زغلول الوطنى. وفى ظل قيادة هذا الرجل لحزبنا، كنا نخن شباب هذا الحزب بأن نقدم كل تضحية ممكنة لخدمته عن طيب خاطر بل وبإيمان مطلق أننا نسير على الطريق الصحيح فى خدمة شعبنا ووطنا، ولذلك فما إن حان وقت الانتخابات حتى توليت أنا سكرتارية الدعاية لمرشح الحزب فى دائرة الخرطوم شمال السيد محمد أمين حسين المحامى منافسا لخالى السيد محمد أحمد المرضى مرشح الاتحادينى فى نفس الدائرة، فكانت أوراق الدعاية الانتخابية الخاصة بمحمد أمين حسين تتجمع عندى فى غرفتى بمنزلنا الذى يجمعنى مع المرضى خصمنا السياسى ومرشح الدائرة المنافس. وعلى الرغم من يقين الجميع بأن الشيخ المرضى المرشح الاتحادى هو من سيفوز بالدائرة وبفارق كبير فى الأصوات إلا أننا نحن شباب حزب الشعب الديمقراطى، كنا نبذل غاية جهدنا فى الدعاية الانتخابية لمرشحنا حتى آخر لحظة من لحظات الاقتراع أداء لواجبنا تجاه حزبنا وإثباتا لوجودنا على الساحة السياسية، وبهذه الصورة التى ظل عليها حالنا استطاع حزبنا مع مرور الأيام أن يتصدر المشهد السياسى قدره على التأثير فى الأحداث وتوجيه مساراتها وقد تجلى ذلك فى مقاطعته للانتخابات التى جرت عام 1965 تمسكا بالدستور الذى جرت مخالفته باختصار الانتخابات على الشمال دون الجنوب لأسباب متعلقة بالمناخ. وإذا كان لنا أن نقف على ما صاحب واقعة مقاطعة الحزب لتلك الانتخابات، فسنعرف استقلالية القرار التى يتمتع بها هذا الحزب فى ممارسة دوره السياسي فى الساحة السياسية رغم اعتماده على القاعدة العريضة لطائفة الختمية التى تتميز بخضوعها المطلق لتوجيهات الميرغنى زعيما وراعى الحزب، فقد اتخذت قيادة الحزب السياسية قرارها بمقاطعة الانتخابات مكتفية بإبلاغ الميرغني به دون أن تكون لديه أى إمكانية للوقوف في وجهه وحتى مصر التى كانت داعمة للحزب لم يتم أخذ مشورتها فى الحسبان وحين نفذ الحزب قراره بالمقاطعة كانت مصر مضطرة للرجوع إلي الميرغني الذي لم يكن بيده ما فعله إلا القبول بالأمر.